الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم:
ارتكزت دعوة رسولنا صلى الله عليه وسلم على توحيد الله، والبراءة من الشرك حتى يستقيم أمر البشرية على عبادة الله وحده، وتلك هي دعوة الرسل في موكب النبوة الذي أضاء للإنسانية جوانب حياتها، ومن شان هذه الدعوة أن تربي المؤمنين بها على الانقياد لما جاء عن الله أمرا ونهيا، وأن تبني الشخصية المؤمنة بناء سويا يهتدي بهدى الله، ويتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} 1.
ويتضح من النصوص والوقائع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أن شخصيته ذات جانبين: أحدهما: الجانب البشري، وهذا الجانب يجوز عليه صلى الله عليه وسلم فيه ما يجوز على غيره، والآخر: الجانب الذي يتميز به عن عامة البشر، وهو ما يتصل فيه بربه جلت عظمته من حيث إنه رسول كلف بتبليغ رسالة الله إلى الناس كافة.
وحرص رسولنا صلى الله عليه وسلم على تأكيد بشريته، وإن كان الوحي يتنزل عليه. ففي القرآن الكريم:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} 2.
وحذر صلى الله عليه وسلم من غلو الناس فيه، روى البخاري عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
1 الأحزاب: 21.
2 الكهف: 110.
"لا تطروني" كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله" ولم ينس هذا المعنى وهو يعالج سكرات الموت، روى مسلم عن جندب ابن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك". وفي رواية البخاري عن عائشة وابن عباس قالا:"لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا.
وقد اتفق العلماء على أن الأنبياء صلوات الله وسلامة عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله في تبليغ رسالاته، بخلاف غيرهم فإنهم غير معصومين.
أما العصمة في غير ما يتعلق بالتبليغ، فقد اختلف الناس فيها:
1-
فذهب بعضهم إلى أنهم معصومون من الذنوب، لأن التأسي بهم مشروع. ولأن الذنوب تنافى كمالهم، وأولوا النصوص الدالة على وقوع الذنوب منهم تأويلا فاسدا.
وأجيب عما ذكروه بأن التأسي بهم مشروع فيما أقروه عليه دون ما نهوا عنه. وأن منافاة الذنوب للكمال إنما تكون مع البقاء عليها لا مع التوبة منها، فإن التوبة النصوح التي يقبلها الله تعالى ترفع صاحبها إلى أعظم مما كان عليه.
2-
وذهب جمهور العلماء إلى أنه قد يقع منهم الذنوب، ولكنهم معصومون من الإقرار عليها، لأنهم يبادرون إلى التوبة، والاستغفار، واستدلوا على ذلك بما جاء في القرآن الكريم من النصوص الكثيرة.
فقد قال تعالى في آدم: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} 1 ثم قال: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} 2
1 طه: 121.
2-
طه: 122.
وقال تعالى في نوح: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 1 ثم قال على لسان نوح: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2.
وقال في إبراهيم: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} 4.
وقال في موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} 5.
وقال في داود: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ، فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} 6.
وقال في نبينا صلى الله عليه وسلم: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} 7.
وتناول العلماء بالبحث موضوع اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1-
فذهب نفر منهم إلى أنه لا يجوز له الاجتهاد لإمكان استطلاع الحكم بالوحي.
2-
وذهب جمهورهم إلى أنه يجوز له الاجتهاد، وأنه يخطيء في اجتهاده ويصيب، ولكنه لا يقر على خطأ.
وهذا هو الذي تضافرت النصوص عليه في صور مختلفة.
أ- روى البخاري عن البراء بن عازب، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا - أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون
1 هود: 46.
2 هود: 47.
3 الأنبياء: 87.
4-
الشعراء: 82
5 القصص: 16.
6 سورة ص: 24، 25.
7 التوبة: 43.
قبلته قبل البيت" وفي رواية: "وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة" فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} 1 فتوجه إلى الكعبة.
ووجه الدلالة أنه عليه الصلاة والسلام رأي باجتهاده أحقية البيت الحرام بالتوجه إلى الصلاة، وبدأ اجتهاده في صورة رغبة وأمنية، فحققها له الله سبحانه وتعالى، وبذلك أصبح ما رآه بالاجتهاد مشروعا مقرا عليه من ربه.
ب- واستأذن بعض المنافقين النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن غزوة تبوك فأذن لهم، دون أن يتبين أعذارهم، وعاتبه الله سبحانه وتعالى على إذنه لهم بذلك في قوله:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} 2.
ووجه الدلالة أن العفو هو التجاوز عن الذنب والتقصير، وترك المؤاخذة، والمراد به هنا الإذن للمنافقين، وقد كان الإذن المعاتب عليه هنا إجتهادا منه صلى الله عليه وسلم فيما لا نص فيه من الوحي، فدل هذا على أنه جائز في حق الأنبياء، وليسوا معصومبين من الخطأ فيه.
جـ- وروى البخاري وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد لما جرح وكسرت رباعيته، ورأي تمثيل الكفار بعمه حمزة سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية، فأنزل الله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} 3.
ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم عندما دعا عليهم، وطلب من الله أن يلعنهم، كان ذلك عن اجتهاد منه، لكن لم يقره الله سبحانه وتعالى على اجتهاده فيما أوحى به إليه في الآية.
1 البقرة: 144.
2 التوبة: 43.
3 آل عمران: 128.
د وفي حديث حرمة مكة عنبد البخاري لما قال صلى الله عليه وسلم: "لا يعضد شوكها" قال العباس: يا رسول الله
…
إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال صلى الله عليه وسلم:"إلا ذخر".
ووجه الدلالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم باجتهاده في صيغة العموم قطع الإذخر، ثم عدل عن تحريمه إلى إباحته عندما ثبتت له الحاجة إليه فيما ذكره ابن عباس له.
هـ- وروى ابن أبي شيبسة والترمذي وحسنه، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والطبراني والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال: "لما كان يوم بدر جيء بالأساري، فقال أبو بكر: يا رسول الله.... قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله
…
كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدمهم فاضرب أعناقهم. وقال عبد الله بن رواحة: انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا، فقال العباس - وهو يسمع ما يقول: قطعت رحمك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا، فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس: يأخذ برأي عمر. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1 ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام إذ قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ومثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام إذ قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} " 3 ثم قال صلى الله عليه وسلم: "أنتم عالة فلا ينفلتن أحد من الأسرى إلا بفداء أو ضرب عنق" فأنزل الله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ
…
} إلى قوله: {عَظِيم} 4.
1 المائدة: 118.
2 يونس: 88
3 نوح: 26.
4 الأنفال: 67، 68.
ويروى أحمد ومسلم من حديث ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: "لما أسر الأسارى يعني يوم بد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي وعمر: "ما ترون في هؤلاء الأسارى"؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ترى يا بان الخطاب"؟ فقال: لا والله، لا أرى الذي رأي أبو بكر، ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فإن هؤلاء أئمة الك وصناديدها، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدان يبكيان، قلت: يا رسول الله
…
أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت، فقال صلى الله عليه وسلم:"أبكي للذي عرض لأصحابي من أخذهم الفداء، وقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة" - لشجرة قريبية منه صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى آخر الآيتين.
ووجه الدلالة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة في أسرى بدر، واجتهد في أخذه برأي أبي بكر، ولم يكن ذلك الاجتهاد موافقا للصواب، فنزلت آيات العتاب.
و واخرج الترمذي والحاكم وابن حبان عن عائشة في نزول صدر سورة عبس قالت: "نزلت في ابن أم مكتوم الأعمى، قال: يا رسول الله أرشدني، وعند النبي صلى الله عليه وسلم ناس من وجوه المشركين منهم: أبو جهل، وعتبة ابن ربيعة، وغيرهما، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عن ابن أم مكتوم ويقبل على غيره، فنزلت:{عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} 1.
1 عبسى: 1- 11.
ووجه الدلالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهد في الإعراض عن الأعمى عندما جاءه وهو مشغول بدعوة أكابر قريش إلى الإسلام، وقد لاحت له بارقة رجاء في إيمانهم بتحدثهم معه فعلم صلى الله عليه وسلم أن إقباله على الأعمى قد ينفرهم ويقطع عليه طريق دعوته، فقد كان يرجو بإيمانهم انتشار الإسلام في جميع العرب، ولم يكن يعلم حينئذ أن سنة الله في البشر أن يكون أول من يتبع الأنبياء والمصلحين فقراء الأمم وأوساطهم، دون الأكابر المجرمين المترفين الذين يرون في اتباع غيرهم ضعة بذهاب بأسهم، فعاتبه الله سبحانه وتعالى على ذلك.
ز- وأخرج البخاري أنه في غزوة "خبير" لما أمسى الناس في اليوم الذي فتحت عليهم - يعني خيبر - أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما هذه النيران؟ على أي شيء توقدون"؟ قالوا: على لحم، قال:"أي لحم"؟ قالوا: الحمر الإنسية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أهريقوها واكسروها" فقال رجل: يا رسول الله، أو نهريقها ونغسلها، قال:"أو ذاك".
ووجه الدلالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذهم أولا بالأشد منعا لهم من أكلها اجتهادا منه، فلما سلموا بالحكم وأشار بعض صحابته بالاكتفاء بغسيل القدور بدلا من تكسيرها وتفويت منفعتها رخض لهم في غسلها وعدل عن اجتهاده الأول.
ذلك هو أصح ما ورد من وقائع دالة على اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلاف في المسألة مبسوط في علم الأصول، وللشيخ عبد الجليل عيسى مؤلف خاص في اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم نشرته دار البيان بالكويت.
وينبغي أن نذكر هنا أن تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم منها ما هو تشريعن ومنها ما ليس بتشريع.
1-
فهناك أمور سبيلها التجربة والدربة في الحياة، والخبرة بأحوالها فيما اعتاده الناس - كشئون الزراعة والطب، فهذه يجتهد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهاد غيره، ويخطيء ويصيب، وليست شرعا، ولذا قال في تأبير النخل:"أنتم أعلم بأمور دنياكم" بعد أن نصح لهم بعدم تلقيحه اجتهادا منه، ثم تبين له خلاف ذلك، حيث لم يكن لديه معرفة بالزراعة والفلاحة.
ففي الصحيحين: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون النخل، فقال: "لو لم تفعلوا لصلح" فخرج شيصا، فمر بهم فقال: "ما لنخلكم؟ " قالوا: قلت كذا وكذا، قال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم".
وفي بعض الروايات أنه قال: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر".
2-
وهناك أمور أخرى سبيلها التدبير الإنساني اعتمادا على الظروف الخاصة، كتوزيع الجيوش في المواقع الحربية، وتنظيم الصفوف في الموقعة، واختيار أماكن النزول، وطرق الكر والفر، فهذه كذلك ليست شرعا يتعلق به طلب الفعل أو الترك، ولكنها من الشئون البشرية التي لا يكون مسلك الرسول صلى الله عليه وسلم فيها تشريعا ولا مصدر تشريع.
ومن ذلك ما رواه ابن كثير وابن الأثير وابن إسحاق من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل في غزوة "بدر" على أدنى ماء من مياه "بدر" إلى المدينة، فأتاه الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح فقال: يا رسول الله
…
أرأيت هذا المنزل؟ أهو منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "بل هو الرأي والمكيدة"، فقال: يا رسول الله
…
ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا، فتملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال له:"لقد أشرت بالرأي" وفعل كما قال.
ومن ثم هذا القبيل إقراره صلى الله عليه وسلم كتابة شروط الصلح مع قائدي "غطفان" يوم الخندق.
روى ابن كثير في تاريخه قال ابن إسحاق: لما اشتد البلاء على الناس بالحصار الذي مكث نحو شهر، بعث صلى الله عليه وسلم إلى عيينه بن حصن، والحارث بن عوف المري، وهما قائدا غطفان، وأعطاهما ثلثا ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، فلما أراد صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بعث إلى السعدين - سعد بن معاذ وسعد بن عبادة - فذكر لهما ذلك.
فقالا: يا رسول الله
…
أمرا تحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به لا بد من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرما" فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله
…
قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال صلى الله عليه وسلم:"أنت وذاك" فتناول سعد الصحيفة فما ما فيها من الكتابة، ثم قال: ليجهدوا أنفسهم.
3-
أ- أما ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجع التبليغ في شأن من شئون العقائد أو العبادات أو الحلال والحرام أو الأخلاق أو ما يتصل بذلك من أمور الدين ووظائف الرسالة.
ب- أو ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم من شئون الرئاسة العامة والقضاء، كقسمة الغنائم وعقد المعاهدات، والفصل في الخصومات فهذا وذاك يكون تشريعا، وهو الذي يرى فيه جمهور المحققين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوز له الاجتهاد فيه حيث لا نص، ولكنه لا يقر على خطأ، وهو الذي استشهدنا عليه بالنصوص والوقائع الآنفة الذكر التي تدل على اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم فيما لا نص فيه.