الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بدء كتابة السنة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
…
بداية كتابة السنة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم:
من المعروف أن العرب قبل الإسلام لم يعرفوا الكتابة والقراءة، ولكن مكة بمركزها التجاري شهدت بعض الكتابين والقارئين قبيل البعثة، وإن ذهبت بعض الأخبار إلى أنه لم يكن بها سوى بعضة عشر رجلا يقرأون ويكتبون، كما وجد في المدينة قلة تكتب وتقرأ كذلك، وهذا هو ما يقصد غالبا عند وصف العرب بالأميين.
وتدل الأخبار على أن الكاتبين في مكة كانوا أكثر عددا منهم في المدين’ يشهد لذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لأسرى بدر "المكيين" بأن يفدي كل كاتب منهم نفسه بتعليم عشرة من صبيان "المدينة" الكتابة والقراءة. وأن كتبة الوحي الذين بلغ عددهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين رجلا كان أكثرهم من المكيين، ذكر أسماؤهم صاحب التراتيب الإدارية، بل ذكر البلاذري في فتوح البلدان عددا من النساء الكاتبات منهن أم المؤمنين حفصة، وأم كلثوم بنت عقبة، والشفاء بنت عبد الله القرشية، وعائشة بنت سعد، وكريمة بنت المقداد، بين أن المسلمين ما كادوا يستقرون في المدينة حتى بدلت الحال غير الحال، فكثر فيهم الكاتبون منذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سعيد بن العاص أن يعلم الكتابة بالمدينة، وكان كاتبا محسنا كما ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب.
وذكر ابن سعد أن أصحاب البيعة من الأنصار كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مكة: إبعث إلينا رجلا يفقهنا في الدين، ويقرئنا القرآن، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير فكان يقرئهم القرآن ويعلمهم.
ومن المعروف كذلك أن الصحابة كانوا يعولون في حفظ الحديث على الاستظهار في الصدور، لا على الكتابة في السطور لانضرافهم إلى تلقي القرآن الكريم، وانشغالهم بجمعه وكتابته، والخوف من التباس السنة بالقرآن إذا كتب الحديث، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في باديء الأمر عن كتابة الحديث، وقال:"لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فيلمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، وشطره الأخير في البخاري.
وهذا الحديث هو الذي صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن كتابة السنة، وقال النووي في شرحه، قال القاضي: كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم فكرهها كثيرون منهم، وأجازها أكثرهم - ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف.
واختلفوا في المراد بهذا الوارد في النهي:
فقيل: "هو في حق من يوثق بحفظه ويخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب وتحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على من لا يوثق بحفظه كحديث: "اكتبوا لأبي شاة" وحديث صحيفة على رضي الله عنه، وحديث كتاب عمرو بن حزم الذي فيه الفرائض والسنن والديات، وحديث كتاب الصدقة ونصب الزكاة الذي بعث به أبو بكر رضي الله عنه أنسا رضي الله عنه حين وجهه إلى البحرين، وحديث أبي هريرة أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب ولا أكتب، وغير ذلك من الأحاديث.
وقيل: إن حديث النهي منسوخ بهذه الأحاديث، وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن، فلما أمن ذلك أذن في الكتابة.
وقيل: إنما نهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القاريء في صحيفة واحدة.
وحين نزل أكثر الوحي وحفظه الكثير، وأمن اختلاطه بسواه، أذن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لبعض صحابتهس إذن خاصاس في كتابة الحديث، ليساعدهم ذلك على زيادة الضبط إن خيف نسيانهم، ولم يوثق بحفظهم ولعله خص بهذا الإذن من كان أشد ضبطا وحفظا، وبهذا ينتفي ما قيل من تعارض بين النصوص الواردة في النهي عن كتابة الحديث والإذن في ذلك، وقد اتفقت الكلمة بعد الصدر الأول على جواز كتابة الحديث.
قال ابن الصلاح: "ثم إنه زال الخلاف، وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الأخيرة".
ويستفاد من بعض الآثار أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن بكتابة الحديث في آخر حياته إذنا عاما، بعد أن أمن اختلاط السنة بالقرآن، فإنه قيل وفاته أراد أن يكتب للمسلمين كتابا لا يضلوا بعده ولم ير بأسا في ذلك كما سبق في حديث عمر.
روى الترمذي أن سعد بن عبادة الأنصاري كان يملك صحيفة جمع فيها طائفة من أحاديث الرسول وسننه، وكان ابن هذا الصحابي الجليل يروى من هذه الصحيفة.
ويروى البخاري أن هذه الصحيفة كانت نسخة من صحيفة عبد الله بن أبي أوفى، الذي كان يكتب الأحاديث بيده، وكان الناس يقرأون عليه ما جمعه بخطه.
ومن أشهر الصحف المكتوبة في العصر النبوي "الصحيفة الصادقة" التي كتبها جامعها عبد الله بن عمرو بن العاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر أهل السير أنها اشتملت على ألف حديث، وأن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب كل شيء سمعه من رسول الله، فهناه بعض الصحابة، لأنه بشر يتكلم في الرضا والغضب، فأمسك عن الكتابة، ثم استفتى رسول الله قائلا:
أأكتب كل ما أسمع؟
…
قال: نعم، قال: في الرضا والضغب؟ قال: نعم فإني
لا أقول في ذلك إلا حقا" وروى ذلك الإمام أحمد في مسنده.
وكان ابن عمرو يعظم أمر هذه الصحيفة ويقول: ما يرغبني في الحياة إلا حصلتان: الصادقة والوهط، فأما الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله، وأما الوهط فأرض تصدق بها عمرو بن العاص، كان يقوم عليها، وقد روى هذا البزار في سننه وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.
وهذه الصحيفة هي ما جاء بسند عبد الله بن عمرو في مسند الإمام أحمد.
ولا بد أنه اشتغل بكتابة غيرها، فقد قال أبو هريرة.
"ما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب".
وحسبنا هذا الحديث الذي أورده البخاري في باب العلم دليلا على ذلك.
وعرف عن ابن عباس أنه كتب الكثير من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته في ألواح كان يحملها معه في مجالس العلم، وكان تلميذه سعيد بن جبير يكتب عنه ما يلمي عليه، وظلت صحيفة ابن عباس معروف متداولة وتعاقب الناس على الرواية منها، والاستشهاد بها في كتب التفاسير، وإن لم تنقل هذه الصحيفة.
وقد جمع أبو هريرة صحفا كثيرة مما كتبه الصحابة "تلفت غالبا" وروى عنه تلميذه همام بن منبه صحيفة منها، ثم نسبت إليه، فقيل صحيفة همام، وهي في الحقيقة صحيفة أبي هريرة لهمام، وكان لهذه الصحيفة أهمية خاصة في تدوين الحديث، لأنها وصلت إلينا كاملة سالمة كما رواها ودونها همام عن أبي هريرة، وسماها صاحب كشف الظنون بالصحيفة الصحيحة، وهي برمقتها في مسند أحمد، وجاءت متفرقة بأبواب مختلفة في البخاري وغيره.
وذكر العلماء نرا من الصحابة الذين كتبوا الحديث سوى هؤلاء.
وهذه الأخبار في مجموعها تدل على بدء كتابة السنة في عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم وإن لم تكن كتابة جمع وتدوين.
ثبت في الصحيحين أنه لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب خطبه، فقام أبو شاة - رجل من اليمن - فقال: اكتبوا لي يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي شاة".
وروى البخاري عن أبي جحيفة قال: "قلت لعلي" هي عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة، قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر".
وروى أحمد عن أبي الطفيل: سئل على رضي الله عنه، هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فقال: ما خصنا إلا ما كان من قراب سيفي هذا. فأخرج صحيفة كتب فيها: لعن الله من ذبح لغير الله.
وروى أحمد كذلك عن طارق بن شهاب: "رأيت عليا على المنبر يخطب، فسمعته يقول: والله ما عندنا كتاب نقرؤه عليكم إلا كتاب الله تعالى وهذه الصحيفة، فيها فرائض الصدقة".
كما روي عن الحارث بن سويد: قيل لعلي رضي الله عنه: إن رسولكم كان يخصكم بشيء دون الناس عامة.... فأخرج صحيفة فيها شيء من أسنان الإبل.
وذكر ابن حجر في الإصابة، وابن عبد البر في الاستيعاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل عمرو بن حزم الأنصاري على نجران. وكتب له كتابا فيه أحكام الطهارة والصلاة والغنيمة والصدقة، وكتاب الجراح والديات وغير ذلك.
وذكر أصحابس التراجم أن أنس بن مالك رضي الله عنه كان كاتبا وأن مدوناته كانت تحمل في مخال، وقد بعثه أبو بكر رضي الله عنه إلى البحرين ساعيا وكتب له كتاب الصدقة ونصب الزكاة.
وقد ذكر الخطيب البغدادي في تقييد العلم الخلاف في الكتاب ونقل نصوص المنع، ونصوص الإباحة من الأحاديث المرفوعة والموقوفة، والآثار الواردة عن التابعين وأتباع التابعين، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى ذلك.