الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد:
يراد بالتاريخ تعريف الوقت، يقال: أرَخ الكتاب، وأرَّخه، وآرخه: وقَّته، أي بيَّن وقته. وعلم التاريخ علم يتضمن ذكر الوقائع وأوقاتها وما جرى فيها من أحداث، وما كان لها من أثر في حياة الناس، وتاريخ علم من العلوم أيا كان نوعه يشمل نشأة هذا العلم، ومراحل تطوره، وحياة رجاله، وما قدموه من نتاج فكري لخدمة هذا العلم والنهوض به.
وتاريخ العلوم على وجه الإجمال يأتي عرضا في كتب التاريخ العام أثناء ذكر الوقائع والحديث عن مشاهير الرجال والتعريف بالحالة العلمية والفكرية في عصر من العصور.
أما استخلاص هذا وتنسيقه وترتيبه ترتيبا علميًّا؛ ليكون فنًّا من الفنون، له موضوعه وقواعده وفوائده، فإنه لم يجد عناية كافية حتى يفرد كل علم بتاريخ له في بحث منهجي متكامل.
وهذا لا يعنى أن يكون السابقون قد أغفلوا تاريخ العلوم من مناهج بحثهم، فإن بعضهم تحدث عنها ولكنه حديث مجمل، لا يفي بالغرض المقصود، وقد أفرد ابن خلدون في مقدمته الباب السادس للحديث عن العلوم وأصنافها، والتعليم وطرقه، وسائر وجوهه، وما يعرض في ذلك كله من الأحوال، وخص الفصل السابع من هذا الباب بعلم الفقه وما يتبعه من الفرائض.
وأفرد الدكتور حسن إبراهيم حسن في كتابه "تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي" بابًا خاصًّا بالثقافة، تحدث فيه بإيجاز عن العلوم النقلية والعقلية، والحركة العلمية في كل علم منها بعصور الإسلام التي كتب فيها.
وألف الأستاذ أحمد أمين كتبه: فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر لإسلام، فتناول في بحثه الحياة العقلية في التاريخ الإسلامي، وشمل ذلك العلوم والمعارف.
فتاريخ التشريع والفقه الإسلامي هو أحد هذه العلوم التي لم يتوافر على خدمتها من العلماء إلا النزر اليسير من هؤلاء الذين ألفوا في هذا الفن الحديث، تأليفا موجزا يرسم الخطوط العامة لمناهج البحث التي ينبغي أن يقتفي أثرها الدارس لهذا العلم، فتكون دليلا له يعينه على استكمال عناصره، ومن ذلك "تاريخ التشريع الإسلامي" للخضري، و"نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي" للدكتور على حسن عبد القادر، و"تاريخ الفقه الإسلامي" للسايس. و"تاريخ الفقه الإسلامي" للدكتور محمد يوسف موسى، و" تاريخ التشريع الإسلامي" لعبد العظيم شرف الدين.
وقد ألف فضيلة الأستاذ محمد أبو زهرة مجموعة من الكتب في أبحاث موضوعية منها: "تاريخ المذاهب الإسلامية"، وكتبه عن الأئمة:"زيد بن علي" و"أبي حنيفة" و"مالك" و"الشافعي" و"أحمد" و"ابن حزم" و"ابن تيمية".
ومن الكتب التي عالجت هذا الموضوع أيضا كتاب "أصول التشريع الإسلامي" للأستاذ علي حسب الله، وكذلك كتاب "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" تأليف: محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي، وهو أوفاها في بحثه.
وهناك كتب أخرى تخدم هذا العلم، وتتناول كثيرًا من موضوعاته مثل:"المدخل الفقهي العام" للزرقا، "فلسفة التشريع في الإسلام" للمحمصاني، "مدخل الفقه الإسلامي" لمدكور، وصدر حديثا "مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجري" للدكتور محمد بلتاجي.
ومنها كتب أخرى في المذاهب تعتبر مصدرا لهذا العلم، ومن ذلك: اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى" لأبي يوسف. و"آداب الشافعي ومناقبه" للرازي، و"إعلام الموقعين" لابن القيم، و"الانتقاء من فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء" لابن عبد البر، و"ترتيب المدارك وتعريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك" للقاضي عياض، و"الديباج المذهب في معرفة أعياء علماء المذهب" لابن فرحون المالكي، و"الطبقات الكبرى" لابن سعد، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان، و"فوات الوفيات" لابن شاكر، و"الفوائد البهية في تراجم الحنفية" للكنوي، و"طبقات الفقهاء الحنفية" لطاش كبرى زاده، وطبقات الفقهاء" للشيرازي، و"طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي، و"طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلي، وغيرها من كتب التراجم.
أهمية دراسة تاريخ التشريع والفقه الإسلامي:
وإذا كان المقصودُ من دراسة تاريخ علم من العلوم التعريفَ بمبادئه ومسائله وأهدافه وثماره حتى تتحقق الاستفادة منه، فإن الفقه الإسلامي، لم يعد قاصرًا على مجموعة الأحكام الفرعية في العبادات والمعاملات ولكنه، بالمفهوم العام أصبح منهجا متكاملا لشعب الحياة الإنسانية كلها، في العقيدة والعبادة، والاجتماع والاقتصاد، والتشريع، والسياسة؛ لأن الطور الذي وصل إليه الفقه الإسلامي في آخر مراحله كان بناء متراصًّا، ينظم العمران البشري وأنواع المعاملات والعلاقات الإنسانية للمسلمين تنظيما دقيقا، وهذا يعطي دراسة تاريخ التشريع والفقه الإسلامي أهمية كبيرة؛ لأنها تتناول الحياة الإسلامية في أخص عناصر مقوماتها، حيث كانت شريعة الإسلام هي القاعدة التي أقيم عليها بناء أمته، والمنطلق الذي ارتكزت عليها في حضارتها.
ورأي الناس في تاريخ هذه الأمة النموذج الأمثل للحضارة الإنسانية في
أو عظمتها، تصورًا للحياة، وفهمًا لرسالتها، واتجاهًا نحو العمل فيها لخير الدنيا والآخرة.
وقد تعرض الإسلام في فترات من التاريخ إلى موجات عارمة من الغزو الفكري، لتوهين مفاهيم الإسلام والانحراف بها عن جادة الحق في القديم والحديث.
تعرَّض لها في القديم بموجة الفكر الفلسفي الروماني والفارسي، حين انخدع بهذا الجدل العقلي العقيم بعض الناس، وحاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة في علم الكلام، فأدخلوا عناصر أجنبية من الفلسفة في مادته وصورته، واشتملت ما بحثه على أبحاث لا تمت إلى الدين الإسلامي بصلة، ولكن وضوح العقيدة الإسلامية وجهود المخلصين لها حالا دون التأثير عليها، ووقوع الدخل فيها.
واليوم، وفي العصر الحديث، يتعرض الإسلام لموجات عارمة أخرى بالتشكيك في صلاحية الإسلام لمسايرة تطورات العصر، ومتطلبات المدنية، واتهامه بالجمود والرجعية.
ولما كان الفقه الإسلامي هو الذي يمثل الحياة العلمية، والسلوك الاجتماعي في حياة المسلمين، فإنه جدير بأن يكون خط الدفاع الأول ضد الهجمات المتواصلة من المدنية الغريبة، والشيوعية الدولية على السواء.
ومن هنا كانت حركات الإصلاح والتقدم الإسلامي، التي يحاول بها المصلحون المسلمون التجديد، تبتدئ من الفقه؛ فهو يمثل عند دعاة الإصلاح الإسلامَ التاريخي، وهم يريدون الرجوع إلى الإسلام الأول، ويرون فيه حياة وقدرة على التطور الاجتماعي بمصادره الأصلية المستمدة من الكتاب والسنة.
أما الفقه في وضعه الحاضر، فهو في كثير منه من عمل الفقهاء أنفسهم، وهؤلاء المصلحون يريدون أن يصلوا من الإسلام نفسه -في مصادره التشريعية الأصيلة وإمكاناته الخاصة- إلى نظام حيوي تام متكامل للحياة الإنسانية. ولا
يكون هذا إلا بإعادة النظر في الفقه وتطوراته، وبناء الأسس الجديدة على ما كان عليه الإسلام في عهده الأول، وعهد نهضة المسلمين الفقهية، وأيام الاجتهاد.
حاجة الجماعة إلى نظام يحكم سلوكها:
تحتاج أي جماعة من الجماعات إلى روابط تقوم عليها تجمعها، ومبادئ تحدد علاقاتها، وتحفظ حقوق أفرادها؛ لئلا يكون أمرها فوضى، فقد جبل الإنسان على الأثرة، وحب الذات، وانطوت نفسه على كثير من الغرائز التي تحتاج إلى تقويم وتهذيب، حتى لا يطغى الإنسان على أخيه الإنسان.
ولن يستطيع المرء أن يعيش وحده في معزل عن الناس؛ فإن حياته مرتبطة بحياة غيره، يتعاون معه، ويتبادل المنفعة الاجتماعية والمصالح المشتركة، وهذا معنى قولهم:"الإنسان مدني بالطبع".
وقد أوضح ابن خلدون هذه الحقيقة بقوله: "إن الاجتماع الإنساني ضروري"، ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم:"الإنسان مدني بالطبع"، أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو العمران
…
وإن الواحد من البشر غير مستقل بتحصيل حاجاته في معاشه
…
وإن البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم، وتعاونهم على تحصيل قوتهم، وضروراتهم. وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات، ومد كل واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه؛ لما في الطبيعة الحيوانية من الظلم والعدوان بعضهم على بعض، ويمانعه الآخر عنها
…
فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة، فاستحال بقاؤهم فوضى دون حاكم يزع بعضهم عن بعض".
وقد اقترنت الحياة البشرية منذ نواتها الأولى في آدم عليه السلام بما أوحى الله به إلى رسله حتى تسلم عقيدتهم، وتستقيم حياتهم على جادة الحق؛ إذ لا بد للإنسان من ضوابط تقيم هذه العلائق على العدل والمساواة، وقد نشأت المجتمعات البدائية الأولى في الأسرة والقبلية على قواعد ومبادئ أملتها عليها ظروف البيئة وما جرى عليه العرف والعادة.
وبتطور الحياة، وتجدد مطالبها، تطورت الأعراف والعادات، وارتقت ضوابط السلوك فيها، وأخذت طابعا إلزاميا في حياة الناس، يحتكمون إليه فيما بينهم.
وكلما ارتقت الجماعة البشرية في حياة أمة من الأمم، ارتقت معها أفكارها، وسنَّت لها من الأنظمة ما يحقق أمنها ورخاءها، ومثل هذه الأنظمة هو ما يسمى بالقانون.
معنى القانون:
فالقانون -إذًا- يُطلق على مجموعة القواعد والمبادئ والأنظمة التي يضعها أهل الرأي في أمة من الأمم؛ لتنظيم شئون الحياة الاجتماعية والاقتصادية؛ استجابة لمتطلبات الجماعة، وسدًّا لحاجاتها. وهو تعبير عن واقعها، يبين مدى ما وصلت إليه من رقي، وما أحرزته من تقدم، وبقدر ما تستفيد الأمة من تجارب بقدر ما تصحح من أخطاء قانونها، وتعمل على تغييره وتطويره، حتى يكون ملائما لطبيعة حياتها.
والقانون بهذا المعنى يختلف في كل أمة عن أختها؛ لاختلاف حياة الأمم في العادات والتقاليد والأعراف، واختلافها في درجات العلم والمعرفة، فالقانون الذي يصلح لأمة قد لا يصلح لأخرى، والذي يصلح لعصر لا يصلح لآخر، وقلما نجد في القوانين الوضعية توافقا في بلدين مختلفين بيئةً وعادةً وفكرًا.
ولا اعتبار في القانون للفضائل الأخلاقية التي توقظ الضمير الإنساني، وتربي فيه عواطف الخير، وتحفزه إلى مراعاة الحقوق الأدبية والتقيد بالتزاماتها.
كما أنه لا اعتبار فيه للعقيدة الدينية التي تصل العبد بخالقه، وتحدد علاقته بربه، وتبين أصل نشأته، ومصيره في الدار الآخرة.
ومثل هذه القوانين قد يسميها الناس -تجاوزا- بالشرائع الوضعية.
وكلمة "القانون" يونانية الأصل، كانت تستعمل بمعنى "القاعدة"، ودخلت إلى اللغة العربية، فاستعملت للدلالة على مقياس كل شيء، ولم يستعملها علماء
المسلمين في العصور الأولى بمعنى الشرع، أو الحكم الشرعي، كما لم يستعملوا الشارع أو المشروع في واضع القانون أو المقنن، وإنما استعمل ذلك المتأخرون الذين تأثروا بدراسة القوانين الوضعية، فأطلقوا مصطلحات الشريعة عليها، واصطلاح الفقه الإسلامي يأبى ذلك كل الإباء. وسوف يتضح هذا من التعريف بمعنى الشريعة والتشريع.
معنى الشريعة والتشريع:
الشرع في اللغة: مصدر شرَع بالتخفيف، والتشريع، مصدر شرَّع بالتشديد، والشريعة في أصل الاستعمال اللغوي: مورد الماء الذي يقصد للشرب، ثم استعملها العرب في الطريقة المستقيمة، وذلك باعتبار أن مورد الماء سبيل الحياة والسلامة للأبدان، وكذلك الشأن من الطريقة المستقيمة التي تهدى الناس إلى الخير، ففيها حياة نفوسهم، وريِّ عقولهم، قال تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} 1. ويقال: "شرعت الإبل"، إذا وردت شريعة الماء، و"شرع له الأمر" بمعنى سنه وبيَّن طريقته: قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} 2. وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه} 3. قال صاحب القاموس: الشريعة ما شرعه الله لعباده. وقال الراغب: الشرع: نهج الطريق الواضح. يقال: شرعت له طريقا، والشرع مصدر، ثم جعل اسما للطريق النهج، فقيل له: شرع، وشريعة، واستعير ذلك للطريقة الإلهية، قال بعضهم: سميت الشريعة شريعة: تشبيها بشريعة الماء من حيث إن من شرع فيها على الحقيقة المصدوقة روى وتطهر.
والشريعة الإسلامية في الاصطلاح: ما شرعه الله لعباده من العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات ونظم الحياة، في شعبها المختلفة لتنظيم علاقة الناس بربهم
1 الجاثية: 18
2 الشورى: 13
3 الشورى: 21.
وعلاقاتهم بعضهم ببعض، وتحقيق سعادتهم في الدنيا والآخرة1؛ فشريعة الله هي المنهج الحق المستقيم الذي يصون الإنسانية من الزيغ والانحراف، ويجنبها مزالق الشر، ونوازع الهوى، وهي المورد العذب الذي يشفي غلتها، ويحيي نفوسَها، وترتوي به عقولها، ولهذا كانت الغاية من تشريع الله استقامة الإنسان على الجادة؛ لينال عز الدينا وسعادة الآخرة.
والشريعة بهذا المعنى خاصةٌ بما جاء عن الله تعالى، وبلغه رسلُه لعباده، والله هو الشارع الأول، وأحكامه هي التي تسمى شرعا، فلا يجوز إطلاق هذا على القوانين الوضعية؛ لأنها من صنع البشر، وقد جرى عرف كثير من الكاتبين على تسمية القوانين الوضعية بالتشريع الوضعي، وتسمية الوحي الإلهي بالتشريع السماوي، والحق أن الشرع أو الشريعة لا يجوز إطلاقها إلا على الطريقة الإلهية دون سواها من طرائق الناس وأنظمتهم.
مكان الشريعة الإسلامية بين الشرائع السماوية الأخرى:
خلق الله الناس وفَطَرَهم على الإيمان به، وركز في طباعهم من الغرائز والميول ما يعرض حياتهم للانحراف عن الحق تحت تأثير النزعات الجامحة والأهواء المختلفة:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 2، "كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" "متفق عليه". وذلك هو العهد الذي أخذه الله على بنى آدم:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 3. فاقتضت حكمة الله أن يصطفي من عباده رسلًا يرُدُّون الناس إلى فطرتهم ويرشدونهم
1 يرى بعض الباحثين أن الشريعة خاصةٌ بالمعاملات، وليس الأمر كذلك -فيما أرى- فقد قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]
، والدين عقيدة تنبثق منها الشريعة، وهو الذي يسمى إسلامًا.
2 الروم: 30.
3 الأعراف: 172
المثل العليا في تقويم الأخلاق، والاهتداء بهدي الله حتى تقوم عليهم الحجة:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1.
وكانت رسالة كل رسول قاصرة على قومه، خاصة في إصلاح ما فسد من عقائدهم وأخلاقهم، والعمل على تهذيب نفوسهم وأرواحهم، بمرجعهم إلى فطرة التوحيد؛ حيث كانت المجتمعات الإنسانية في أطوارها الأولى محدودة المطالب، بدائية النشأة، سطحية التفكير محصورة في نطاق بيئتها:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِير} 2، ولم يك أمر الناس في المعاملة متشعب النواحي، ضيق المسالك حتى تحتاج الخليقة إلى نظم تذلل بها عقبات الحياة، وتحل مشاكلها فلم يشأ الله البقاء لرسالة رسولٍ قبل محمد صلى الله عليه وسلم؛ كي تحمل عناصر الخلود، فكانت شريعة كل رسول خاصة بقومه للمحافظة على عقيدة التوحيد التي فطر عليها الخلق في عبودية الإنسان لله وحده رب العالمين، وتقويم حياتهم على هدى من الله.
فلما نمت معارف الإنسان، واتسعت مطالبه، وتعقدت أمامه مشاكل حياته، أذن الله بفجر دين جديد يلقي أضواءه على جوانب الحياة كلها؛ ليكتمل صرح الحضارة الإنسانية التي بناها رسل الله، فكان هذا الدين هو شريعة الإسلام:"إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة، وأنا خاتمة النبيين""متفق عليه".
وأخذ الله على أنبيائه بذلك العهد والميثاق: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 3.
فالوحي الإلهي المتتابع يمثل نهرا تكونت له روافد، وتفرعت جداول، تروي ما يذبل من أيك العقيدة، وما يجف من أعواد الفضيلة لتبقى خصائص الإنسانية
1 النساء: 165.
2 فاطر: 24.
3 آل عمران: 81
البناءة في ازدهار ونمو، تؤتي أكلها لخير الناس كل حين بإذن ربها، ينبع هذا النهر ويفيض خيره حيث يوحي الله إلى ملائكته سفرائه إلى رسله، أو يكلم رسله سفراءه إلى خلقه.
وقد انتهى مصب هذا الماء الغدق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم نبي الإسلامي، والنصوص القرآنية تعلن وحدة هذا التشريع من منبعه إلى مصبه.
والقرآن الكريم يحكي رسالات الأنبياء السابقين بعنوان القومية الخاصة.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} 2.
{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 3.
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ} 5.
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} 6.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ} 7.
ويقول تعالى في شأن عيسى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرائيل} 8.
ولكن رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم يعلن عالمية دعوته وأستاذيته للدنيا، ونبوته للعالمين، وختمه للنبيين.
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 9.
1 الشورى: 12
2 هود: 25.
3 هود: 50
4 هود: 61
5 هود: 84
6 الأعراف: 80
7 الأعراف: 103
8 آل عمران: 49
9 الفرقان: 1
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 1.
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 2.
{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 3.
وفي الحديث: "كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة" رواه البخاري و: "أنا العاقب فلا نبي بعدي" متفق عليه.
وقد اتفقت الشرائع السماوية في أصل العقيدة بالدعوة إلى توحيد الله تعالى، والإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
واتفقت في صول العبادات والأخلاق والتهذيب النفسي:
1 الأنبياء: 107.
2 الأعراف: 158
3 الأحزاب: 40
4 الأنبياء: 25
5 آل عمران: 64
6 الأعلى: 14-19
7 البقرة: 183
وأكثر الشرائع السماوية لم تتجاوز هذه الأصول: عقيدة، وعبادة، وخلقا، وبمثلها في التربية النفسية والمعاني الروحية النصرانية شريعة عيسى عليه السلام.
أما الشريعة اليهودية التي أرسل الله بها موسى عليه السلام فقد شملت بعض أنواع المعاملات، إلا أنها كانت محدودة، تحمل طابع بيئة بني إسرائيل، ولم تكتسب صفة العموم والشمول التي تجعلها صالحة لزمن آخر، أو لقوم آخرين، وقد أشار القرآن الكريم في عقوبتهم بتحريم الطيبات عليهم إلى هذا:
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال:
"إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن أمرأة منهم ورجلًا زنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة من شأن الرجم"؟ قالوا: نفضحهم ويجلدون. قال عبد الله بن سلام: كذبتم، فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقال: صدقت يا محمد، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما، قال: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة؛ ليقيها الحجارة".
أما شريعة الإسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم فإنها جاءت وافية بمطالب الحياة الإنسانية، تسد عوزها، وتحقق لها أهداف العمران في شتى جوانب حياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فالإسلام عقيدة وعبادة، وخلق وتشريع، وحكم وقضاء، ومسجد وسوق، وهو علم وعمل، ومصحف وسيف، وهذا هو ما نعنيه عندما نقول:"الإسلام دين ودولة".
وقد اكتسبت نصوص الشريعة الإسلامية من المرونة والعموم ما جعل قواعدها
1 النساء: 160، 161
صالحة للناس كافة في كل عصر من العصور، تساير عوامل النمو والارتقاء، وتقود الحضارة الإنسانية إلى معالم الحق وسبيل الرشاد، ولهذا أكمل الله بها الدين وأتم النعمة:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} 1.
الفرق بين التشريع السماوي والتقنين الوضعي:
تحدثنا آنفا عن كل من القانون الوضعي والتشريع السماوي، وبهذا يتبين الفرق بينهما، وقد ذكر هذه الفوارق على وجه التفصيل الشهيد عبد القادر عودة في مقدمة الجزء الأول من كتابه "التشريع الجنائي في الإسلام"، ونحن نجمل ذلك فيما يلي:
1-
القانون الوضعي تنظيم بشري من صنع الناس، لا ينبغي مقارنته بالتشريع السماوي الذي جاء من عند الله؛ للفرق بين الخالق والمخلوق، ولن يستوي لدى العقول أن يقارن ما صنعه الناس بما صنعه رب الناس.
2-
والذين يضعون القانون بشر، يخضعون للأهواء والنزعات، وتتغلب عليهم العواطف البشرية، فيقعون تحت تأثير هذه العوامل التي تحيد بهم عن تقدير الحق، والقيام على شئون الحياة بالقسط، ومهما ارتقى الناس في سلم المعرفة، فإنهم لا يستطيعون أن يدركوا حقائق الأمور، وأن يحيطوا بها خبرًا، وبهذا تكون القوانين الوضعية عرضة للتغيير والتبديل، ولا يكون لها مقياس ثابت لحكم، فما هو حلالٌ اليوم قد يصير حرامًا غدًا، وبذلك تختلف موازين الحياة ومقاييس الخير والشر، وتتلون بتلون الإنسان وتحوُّل ميوله وعواطفه، فتظل الحياة الإنسانية في اضطراب دائم، كما نشاهده اليوم في حياة الأمم التي تحكم بغير ما أنزل الله.
والشريعة وحي إلهي منزه عن ذلك كله، فهي تنزيل الحكيم العليم، الذي يعلم
1 المائدة: 3
أحوال عباده، وما يصلح معاشهم ومعادهم، وما يحقق لهم الخير في دنياهم وأخراهم {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1، وهو سبحانه منزه عما يعتري الخلق من القصور والنقص {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} 2. وقد بنيت الشريعة الإسلامية الأصول الكلية التي تقوم عليها حياة البشر، ولا سبيل إلى الأخذ فيها بالرأي المجرد عن الدليل، والنبي صلى الله عليه وسلم مع عصمته لا يتبع إلا الوحي {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيّ} 3، ولا يكون حكمه إلا بما علم عن الله {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّه} 4، وانتزاع التشريع من أيدي البشر، ورده إلى الله ورسوله يضع لنا شريعة ربانية ثابتة المقياس لا يعتريها خلل أو قصور.
3-
والقانون الوضعي نظام محدود القواعد، يلبي حاجة الجماعة لتنظيم حياتهم الحاضرة، ويتطور بتطورها، نشأ بادئ ذي بَدء في نظام الأسرة، ثم في نظام القبيلة، ولم يتحول إلى نظريات علمية إلا في القرن التاسع عشر.
والتشريع السماوي -بعامة- يولد متكاملًا وافيًا بمطالب الحياة، محكم النسيج، صافي المورد.
4-
وقواعد القانون الوضعي مؤقتة لجماعة خاصة في عصر معين، فهي في حاجة إلى التغيير كلما تطورت الجماعة وتجددت مطالبها.
وقواعد الشريعة الإسلامية -بصفة خاصة- لم تأت لقوم دون قوم، أو لعصر دون عصر، ولكنها قواعد كلية ثابتة مستقرة، تسد حاجة الجماعة وترفع مستواها في كل عصر، وقد مر على الشريعة الإسلامية زهاء أربعة عشر قرنا من الزمان، تغيرت فيها أوضاع الجماعات، واندثرت فيها مئات القوانين والأنظمة، وانقلبت
1 الملك: 14
2 طه: 52
3 الأنعام: 50
4 النساء: 105
مبادئها رأسا على عقب، ولا تزال تلك الشريعة غضة صالحة لكل زمان ومكان، تحمل نصوصها عناصر النمو والارتقاء.
5-
والقانون الوضعي لا يتناول سوى المعاملات المدنية، في الشئون الاجتماعية والاقتصادية التي تقوم عليها سلطة الدولة إذا استثنينا ما يتصل بالعلاقات الدولية، ولا يمت بصلة إلى عقيدة التوحيد ومقتضياتها.
والشريعة الإسلامية تتناول الإيمان بالله ورسله وعالم الغيب، وصلة العبد بربه، وسلوكه الأخلاقي، وأنظمة الحياة المختلفة في شتى مرافقها.
6-
والقوانين الوضعية تهمل المسائل الأخلاقية، وتقصر المخالفة على ما فيه ضرر مباشر بالأفراد، أو إخلال بالأمن والنظام العام، فلا تعاقب القوانين الوضعية على الزنا في هاتين الحالتين يمس ضرره المباشر الأفراد، كما يمس الأمن العام، وأكثر القوانين الوضعية لا تعاقب على شرب الخمر، ولا تعاقب على السكر لذاته، وإنما تعاقب السكران إذا وجد في الطريق العام في حالة سكر بيِّن، فالعقاب على وجوده في حالة سكر في الطريق العام؛ لأن وجوده في هذه الحال يعرض الناس لأذاه واعتدائه، وليس العقاب على السكر لذاته باعتباره رذيلة، ولا على شرب الخمر باعتبار أن شربها مضر بالصحة، مذهب للعقل، متلف للمال، مفسد للأخلاق.
والشريعة الإسلامية شريعة أخلاقية، وليست الأخلاق في الإسلام أدبا يجمل صاحبه، ولكنها التزامات من واجبات الدين.
والأخلاق في الإسلام غاية تربوية للعبادات، والتزام أدبي في المعاملات، يجعل حياة الناس قائمة على المعروف والحسنى، وقد حث الإسلام على أمهات الفضائل الإنسانية ودعا إلى المثل العليا، وأثنى على مكارم الأخلاق، وقال الله في نبيه صلى الله عليه وسلم:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} 1.
7-
تفقد القوانين الوضعية سلطتها على النفس البشرية؛ لأن سلطة العقوبة
1 القلم: 4.
وحدها لا تكفي في ردع المجرم، ولذا فإن واضعي القانون يعملون على ترضية الجماهير وإقناعها بصلاحية النظم التي وضعوها حتي يمتثلوها، ولكن الناس يدركون أن لا سلطة للقوانين الوضعية إلا إذا وقع المرء تحت طائلة المخالفة، وضبط متلبسا بجريمته؛ إذ لا علاقة لها بالحياة الآخرة، فيكون المجال فسيحًا للخروج على القانون بوسائل الحيلة والدهاء. فلا يقف دون وصول الناس إلى أغراضهم السيئة من فساد في الأرض قانون مهما كان دقيقًا.
والشريعة الإسلامية تنبثق من فكرة الحلال والحرام، والإيمان بالدار الآخرة، وتربي الضمير الإنساني؛ ليكون رقيبا على المسلم في السر والعلن، يخشى عقاب الله الأخروي أكثر من خشيته للعقاب الدنيوي، فالفعل التعبدي، أو المدني أو الجنائي، أو الدستوري، أو الدولي، له أثره المترتب عليه في الدنيا من أداء الواجب، أو إفادة الحل والملك، أو إنشاء الحق أو زواله، أو توقيع العقوبة، أو ترتيب المسئولية، ولكن هذا الفعل الذي يترتب عليه أثره في الدنيا له أثر آخر مترتب عليه في الآخرة هو المثوبة أوالعقوبة الأخروية، ومن يتتبع آيات الأحكام يجد كثيرا منها قد رتب عليها جزاءان: جزاء دنيوي وجزاء أخروي.
ففي القتل يقول تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} 1.
وفي قطع الطريق أو الحرابة يقول تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم} 2.
وفي إشاعة الفاحشة ورمي المحصنات يقول جل شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ
1 النساء: 93.
2 المائدة: 33.
تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} 1
…
إلى غير ذلك من الآيات.
وبذلك يقيم الإسلام من داخل النفس البشرية رقابة على تعاليمه، بحيث يرعاهم المسلم في جوف الليل، كما يرعاها في وضح النهار، والأدلة الظاهرة لإثبات الحق في القضاء لا تجعل هذا الحق حلالا لمستحقه إلا إذا كان حقا له في الواقع، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة بباب حجرته فخرج إليها فقال:"إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأحسب أنه صدق فأقضى له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذْها أو ليتركْها" متفق عليه.
أدوار التشريع ومراحله في تاريخ الفكر الإسلامي:
يذهب بعض الباحثين في تقسيم أدوار التشريع والفقه الإسلامي إلى مراعاة النشأة والتطور، والقوة والضعف، في تاريخ الفكر الإسلامي، فيقسمون الأدوار التي مر بها التشريع والفقه إلى الأدوار الآتية:
الدور الأول: وهو عصر التشريع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين.
الدور الثاني: الدور التأسيسي للفقه، ويشمل العمل الفقهي في العصر الأموي، والكلام على مدرسة الحجاز ومدرسة العراق.
الدور الثالث: دور النهضة الفقهية، وتأسيس المذاهب، وتدوين الحديث والفقه.
1 النور: 20
الدور الرابع: دور التقليد وسد باب الاجتهاد بعد أن استقرت المذاهب.
الدور الخامس: دور اليقظة الفقهية وحركة الإصلاح الديني في الوقت الحاضرلفتح باب الاجتهاد.
ويذهب آخرون في تقسيمهم إلى مراعاة الأحداث السياسية والاجتماعية التي كان لها أثر في الفقه الإسلامي، فيقسمونه إلى الأدوار الآتية:
1-
عهد التشريع: من البعثة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم سنة 11 هـ.
2-
الدور الفقهي الأول: الفقه في عصر الخلفاء الراشدين 11-40هـ.
3-
الدور الفقهي الثاني: الفقه في عهد صغار الصحابة وكبار التابعين إلى أوائل القرن الثاني الهجري.
4-
الدور الفقهي الثالث: الفقه من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع.
5-
الدور الفقهي الرابع: الفقه من منتصف القرن الرابع إلى سقوط بغداد سنة 656 هـ.
6-
الدور الفقهي الخامس: من سقوط بغداد إلى الوقت الحاضر.
وقد آثرنا التقسيم الثاني دون التزام بتفاصيل الأحداث الجزئية مع مراعاة الاهتمام بالجانب الموضوعي وما يستحق من عناية.