الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأيكم أخر؟ وكان امرءا ورعا؛ فقال: ما أجد شيئا هو أوسع لي سوى أن أقسم المال عليكم بالحصص، وأدخل على كل ذي حق ما دخل عليه من عول الفريضة.
وقد وافق عمر رضي الله عنه على رأيه هذا جمهور الصحابة، علي، والعباس، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، ولم يظهر الخلاف إلا ابن عباس رضي الله عنهما؛ فإنه رأي أن بعض الفرائض أقوى من بعض، فبعضها لا يحجب ولا يقبل السقوط أبدا، وبعضها يقبل السقوط، ولا شك أن الفرائض التي لا تقبل السقوط أقوى؛ فهي جديرة بأن تأخذ حقها كاملا وتقدم على الأضعف، وما بقي يقسم على بقية الورثة، ولا نحتاج إلى العول.
وروي أن ابن عباس لم يظهر رأيه هذا إلا بعد وفاة عمر.
أسباب الاختلاف في الفتوى:
من نصوص الشريعة الإسلامية ما هو ظني الثبوت والدلالة، أو ظني الدلالة قطعي الثبوت، وهذه وتلك هي التي تكون مجالا للاجتهاد حتى يستنبط الحكم منها بوجه وجوه الدلالة اللغوية في ضوء قواعد الشريعة العامة ونصوصها القطعية.
ويجد الناس من الأقضية ما لم يرد فيه نص أو ما لا يطلع المجتهد على ما ورد فيه ولم يقع الاتفاق على حكمه، وهذا كذلك يعمل فيه المجتهد رأيه ليتعرف على حكمه.
وحيث تتفاوت العقول والأفهام، وتختل وجوه الدلالة؛ فإنه لا يتأتى الاتفاق إنما يكون الاختلاف، ومن فضل الله على هذه الأمة أن حفظ لها دينها في أصول العقيدة والعبادة، وقواعد الشريعة بما ورد من نصوص قطعية الثبوت والدلالة لا مجال للاختلاف فيها؛ وإنما كان الاختلاف في الفرعيات.
ومن العلماء من يرى أن مثل هذا الاختلاف في مسائل الفروع أمر لا بأس به؛ بل هو من محاسن الشريعة؛ فهذا أمر محمود يدل على يسر الشريعة وسعة أحكامها، مما أكسب الفقه الإسلامي جدة وحيوية، وأيد هؤلاء ما ذهبوا إليه بنصين.
النص الأول: ما روي من طريق سلام بن سليم قال: حدثنا الحارث بن عضين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وهو حديث موضوع رواه ابن عبد العبر في "جامع بيان العلم" ورواه ابن حزم في "الأحكام" وقال ابن عبد البر: هذا إسناد لا تقوم به حجة، لأن الحارث بن عضين مجهول، وقال ابن حزم: هذه رواية ساقطة، أبو سفيان ضعيف، والحارث بن عضين هذا هو أبو وهب الثقفي، وسلام بن سليم يروي الأحاديث الموضوعة، وهذا منها بلا شك.
النص الثاني: "اختلاف أمتي رحمة" وهذا النص لا أصل له، ولم يقف له المحدثون على سند، حتى قال السيوطي في الجامع الصغير:"ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا".
- ومن العلماء من يذم الاختلاف وأيد هذا بأدلة كثيرة، من الكتاب والسنة، وقد تناول ابن حزم هذا بالبيان1؛ فذكر أن الاختلاف لا يسوغ البتة ولا يجوز؛ فإن الفرض علينا إتباع ما جاء به القرآن، وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد غلط قوم؛ فقالوا: الاختلاف رحمة، وهذا من أفسد قول يكون، لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطا، وهذا ما لا يقوله مسلم، لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف، وليس إلا رحمة أو سخط، وقد قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} 2.
1 انظر "الباب الخامس والعشرون في ذم الاختلاف" ج 5، ص 642، ط الإمام- الإحكام في أصول الأحكام.
2 هود: 118، 119.
وأمر تعالى بالاعتصام بحبله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} 1، ونهى عن التفرق والاختلاف {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2؛ فإن الاختلاف يوهن شأن الأمة، ويذهب بهيبتنا، ويعصف بكيانها {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} 3. وفي هذا جاء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا". رواه مسلم. وبين صلى الله عليه وسلم ما يؤدي إليه الاختلاف من هلاك الأمم فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم".
والحق أن الاختلاف في الفروع لا مندوحة عنه، وأن مثل هذا الاختلاف لا يكون مذموما ما دام مستندا إلى وجه الاستدلال، وليس هناك دليل أرجح؛ إنما يذم الاختلاف الذي يذكيه الهوى، ويؤججه التعصب، فيعمى أصحابه عن الدليل، ويحول بينهم وبين الرضوخ للحق عند تعارض الأدلة ومعرفة الراجح منها. وإذا تم الاتفاق فإنه يكون نعمة ورحمة.
وقد ألف العلماء قديما وحديثا في اختلاف الفقهاء وبينوا أسبابه، وذكروا أمثلته وما يجوز فيه الاختلاف وما لا يجوز، ومن ذلك:"تخريج الفروع على الأصول للإمام شهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني المتوفي سنة 656هـ "4"، و"رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لشيخ الإسلام ابن تيمية "ت 728 هـ" و"التمهيد" في تخريج الفروع على الأصول للإمام جمال الدين أبي محمد عبد الرحيم بن الحسين الإسنوي المتوفى سنة 772هـ5 الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف"
1 آل عمران: 103.
2 آل عمران: 105.
3 الأنفال: 46.
4 حققه الدكتور محمد أديب صالح - ط مؤسسة الرسالة.
5 حققه الدكتور محمد حسن هيتور طمؤسسة الرسالة.
لولي الله ابن أحمد الدهلوي، و"ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين" للشيخ عبد الجليل عيسى. و"أسباب اختلاف الفقهاء" للأستاذ على الخفيف و"أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء" للدكتور مصطفى الخن و"أسباب اختلاف الفقهاء" للدكتور عبد الله التركي.
وترجع أسباب هذا الاختلاف إلى أمور منها:
1-
تفاوت الصحابة في فهم ما أجمل من القرآن، ومن أمثلة ذلك:
أ- تردد اللفظ بين معنيين؛ وذلك مثل كلمة "قرء" الواردة في قوله تعالى بيانا لعدة المطلقات ذوات الحيض {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء} 1 فإنها مشتركة بين الحيض والطهر، وثبت ورودها في كلام العرب لهما على حد سواء؛ فقالت عائشة: القروء: الأطهار، وقال بمثل قولها زيد بن ثابت وابن عمر وغيرهما، وبه قال مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وقال عمر، وابن مسعود، ونفر من الصحابة، المراد بها الحيض؛ فلا يحلوا المطلقة حتى تغتسل من الحيضة الثالثة.
قال ابن القيم في زاد المعاد، وهذا قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وأبي موسى، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وابن عباس، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم. وهو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد.
وهذا هو الذي يعرف بالمشترك اللفظي، وهو اللفظ الموضوع لكل واحد من معنيين فأكثر، كالعين؛ فإنه وضع للباصرة، ووضع للجارية، ووضع للذهب، ووضع لذات الشيء، ولغير ذلك من المعاني، وكالجون فإنه وضع للأبيض، ووضع للأسود، وكالقارء فإنه يطلق على الطهر ويطلق على الحيض.
ب- احتمال الترتيب لوجهين كما في آية الإيلاء فإنه قوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 2،
1 البقرة: 227.
2 البقرة: 226، 227.
يحتمل أن يكون مرتبا على ما قبله ترتيب المفصل على المجمل؛ فتكون الفاء للترتيب الذكري، فيكون الفيء في المدة، فإذا انقضت بدون فيء فيها وقع الطلاق بمضيها، ويحتمل أن تكون الفاء للترتيب الحقيقي. فتكون المطالبة بالفيء أو الطلاق عقب مضي الأجل المضروب.
جـ- ما يوهم ظاهره التعارض بين حكمين، لتردده بينهما، كعدة الحامل المتوفى عنها زوجها؛ فإنها مترددة بين أن تشملها آية معتدة الوفاة التي تتربص أربعة أشهر وعشرا، وآية معتدة الطلاق التي جعلت عدة الحامل وضع الحمل.
ومن ذلك: الخلاف في الجمع بين الأختين بملك اليمين؛ فقد قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُم} إلى قوله {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} 1.
وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} 2؛ فالآية الأولى بعمومها تحرم الجمع بين الأختين مطلقا، بعقد النكاح أو بملك اليمين، والآية الثانية بعموم الاستثناء فيها تجيز الجمع بين الأختين بملك اليمين؛ فكان التعارض بين عموم الآيتين، وفي هذا وقع الاختلاف.
فذهب جمهور الصحابة إلى تحريم الجمع بين الأختين بملك اليمين وقالوا: إن آية النساء ناسخة لعموم الاستثناء الوارد في آية "المؤمنون".
وتوقف بعضهم في ذلك، أو قال بالجواز، فروي عن عثمان وابن عباس أنهما أباحا ذلك وقالا: أحلتهما آية، وحرمتهما آية. وقال الشعبي: سئل على عن ذلك فقال: أحلتهما آية وحرمتهما آية؛ فالحرام أولى.
روى الإمام مالك عن ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن رجلا سأل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان: أحلتهما آية وحرمتهما آية، وما كنت لأمنع ذلك.
1 النساء: 23.
2 المؤمنون: 5، 6.
وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال علي بن أبي طالب: حرمتهما آية وأحلتهما آية.
ومن ذلك التزوج بالكتابيات؛ فقد قال تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِن} 1.
وقال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 2؛ فالآية الأولى بعمومها تحرم على المسلمين نكاح المشركات، والآية الثانية تحل نكاح الكتابيات فاختلفوا في نكاح الكتابيات.
ذهب جمهور الصحابة إلى جواز نكاح الكتابيات، استنادا إلى آية المائدة وجعلوا آية البقرة في المشركات غير الكتابيات؛ ذلك لأن قوله تعالى:{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} لا يخلو من أحد معنيين: إما أن يكون إطلاقه مقتضيا لدخول الكتابيات فيه، أو مقصورا على عبدة الأوثان غير الكتابيات؛ فإن كان إطلاق اللفظ يتناول الجميع فإن قوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يخصه وإن كان مقصورا، على عبدة الأوثان حيث فصل المشركون عن أهل الكتاب في مواضع كثيرة من القرآن، كقوله تعالى:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} 3 وهذا ينفي التعارض وقد تزوج جماعة من الصحابة نساء اليهود والنصارى ولم يروا بذلك بأسا.
وذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز نكاح الكتابيات استنادا لآية البقرة، وهو رأي ابن عمر؛ فقد كان لا يرى التزويج بالنصرانية، ويقول: لا أعلم شركا أعظم من أن تقول: إن ربها عيسى، وقد قال الله تعالى:{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِن} 4.
وعن ميمون بن مهران قال: قلت لابن عمر: إنا بأرض يخالطنا فيها أهل الكتاب أفننكح نساءهم، ونأكل طعامهم؟ قال: فقرأ على آية التحليل وآية
1 البقرة: 221.
2 المائدة: 5.
3 البينة: 1.
4 البقرة: 221.
التحريم، قال: قلت: إني أقرأ ما تقرأ أفتنكح نساءهم ونأكل طعامهم؟ قال: فأعاد على آية التحليل وآية التحريم، قال الجصاص: وهذا يعني أنه توقف.
2-
تفاوتهم في السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم والتحري في الأخذ بالسنة، والاجتهاد في فهمها، ولذل أمثلة كثيرة منها:
أ- أن يكون الصحابي قد سمع حكما أو فتوى من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع الآخر ذلك الحديث؛ فيجتهد برأيه، وقد يوافق اجتهاده الحديث، وقد يخالفه؛ فكان حكم الاستئذان عند أبي موسى وجهله عمر، وكان حكم الجدة عند المغيرة ومحمد بن مسلمة، وجهله أبو بكر وعمر، وكان حكم أخذ الجزية من المجوس عند عبد الرحمن بن عوف وجهله جمهور من الصحابة.
إنه لما سئل أبو بكر رضي الله عنه عن ميراث الجدة قال: "مالك في كتاب الله من شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء، ولكن أسأل الناس، فسألهم؛ فقام المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهما، فشهدا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، وقد بلغ هذه السنة عمران بن حصين رضي الله عنه أيضا. كما رواه أبو داود والترمذي من حديث قبيصة بن ذؤيب مرسلا وله طرق مرسلة منها حديث عمران بن حصين.
وكذلك عمر رضي الله عنه لم يكن يعلم سنة الاستئذان حتى أخبره بها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، واستشهد بالأنصار. رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري. ولم يكن يعلم حكم المجوس في الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"سنوا بهم سنة أهل الكتاب" رواه البخاري وأحمد، وأبو داود والترمذي والشافعي.
وقضى عمر كذلك في دية الأصابع أنها مختلفة بحسب منافعها، وقد كان عند أبي موسى وابن عباس -وهما دونه بكثير في العلم- بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"هذه وهذه سواء، يعني الإبهام والخنصر". رواه البخاري وأبو داوود
والنسائي وابن ماجه، ولم يكن ذلك عيبا في حق عمر حيث لم يبلغه الحديث.
ب- أن يبلغه الحكم، أو الحديث ولكنه يقع في نفسه أنه راوي الخبر قد وهم، كفعل عمر في خبر فاطمة بنت قيس.
جـ- أن يرى الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم فعل فعلا فيحمله بعضهم على القربة، ويحمله بعضهم على أنه كان على وجه الاتفاق أو لسبب زال فلا يكون مطلوبا لأمته، كالرمل في الطواف، فذهب ابن عباس إلى أن الرسول فعله لسبب وهو قول المشركين عن المسلمين: أوهنتهم حمى يثرب، فذهب بذهاب سببه، وليس بسنة. وقال غيره: إنه سنة.
ومن ذلك التحصيب في الحج وهو النزول في الأبطح بعد النفر من "منى".
قال ابن القيم في زاد الميعاد: وقد اختلف السلف في التحصيب هل هو سنة أو منزل اتفاق؟ على قولين:
فقالت طائفة هو من سنن الحج، فإن في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أراد أن ينفر من منى "نحن نازلون غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر"، يعني بذلك المحصب؛ وذلك أن قريشا وبني كنانة تقاسموا على بني هاشم وبني المطلب، ألا يناكحوهم ولا يكون بينهم وبينهم شيء حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصد النبي صلى الله عليه وسلم إظهار شعائر الإسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر، والعداوة لله ورسوله، وهذه كانت عادته صلى الله عليه وسلم أن يقيم شعائر التوحيد في مواضع شعائر الكفر والشرك، كما أمر النبي صلى الله عليه وسم أن يبني مسجد الطائف موضع اللات والعزي- قالوا: وفي صحيح مسلم عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا ينزلونه" وفي رواية لمسلم عنه: أنه كان يرى التحصيب سنة.
وقال البخاري عن ابن عمر: "كان يصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء،
ويهجع ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك"، وذهب آخرون منهم ابن عباس وعائشة إلى أنه ليس بسنة وإنما هو نزل اتفاق؛ ففي الصحيحين عن ابن عباس، "ليس المحصب بشيء، وإنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون أسمح لخروجه".
وفي صحيح مسلم عن أبي رافع: لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنزل بمن معنى بالأبطح ولكن أنا ضربت قبته، ثم جاء فنزل؛ فأنزله الله بتوفيقه تصديقا لقول رسوله:"نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة" وتنفيذا لما عزم عليه، وموافقة منه لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج الستة عن هشام بن عروة عن أبيه عروة عن عائشة قالت: إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمحصب ليكون أسمح لخروجه، وليس بسنة؛ فمن شاء نزله، ومن شاء لم ينزله.
أو تختلف وجهة نظرهم في فعل الرسول كما حصل في حجه؛ فذهب بعضهم إلى أنه كان قارنا، وبعضهم إلى أنه كان متمتعا، وبعضهم إلى أنه كان مفردا.
د- أن يجتهد أحدهم حين لا يجد نصا، ثم يظهر النص بخلاف ما رأى.
أخرج مسلم أن ابن عمر: كان يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فسمعت عائشة بذلك فقالت:"عجبا لابن عمر، كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات".
وسئل أبو موسى الأشعري عن ابنه، وابنة ابن، وأخت؛ فقال: "للابنة النصف، وللأخت النصف، وأما ابن مسعود فسيتابعني، فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت، وقد رجع أبو موسى لفتوى ابن مسعود، وقال لما أخبر.
بها: لا تسألوني ما دام هذا الخبر فيكم. والحديث رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي:
هـ- أن يجتهد بعضهم في التوفيق بين القرآن والسنة لمعنى معتبر كالمشركة في الميراث فقد جاء في القرآن قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} 1 ولا خلاف بين العلماء في أن هذه الآية في ولد الأم. وجاء في الحديث المتفق عليه "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فللأولى رجل ذكر"؛ فلما رأى عمر في المشركة أن الإخوة الأشقاء لا يبقى لهم شيء وقد اجتمعوا مع ولد الأم وقرابتهم أقوى جعل الأشقاء شركاء لولد الأم؛ إذ إن أدنى أحوال الأقوى أن يشارك الأضعف، ولما قال له زيد بن ثابت: هب أن أباهم كان حمارا، أو قال أحدهم: هب أن أبانا كان حجرا في اليم، رأي عمر أن التشريك بينهم في الثلث هو العدل يقسم بينهم بالسوية ذكورهم كإناثهم وسميت هذه الفريضة بالمشركة، أو المشتركة، أو الحمارية، أو الحجرية، أو اليمية.
3 تفاوتهم في الاجتهاد حيث لا نص:
ومن ذلك مسائل في الميراث منها الغراوية، وتتكون من زوج وأب وأم، أو من زوجة وأم وأب؛ فلها صورتان، وتلقبان بالغراويتين -لشهرتهما كالكوكب الأغر، وبالغريمتين، لأن كلا من الزوجين كالغريم صاحب الدين، وبالعمريتين، لأن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أول من قضى فيها للأم بثلث الباقي، وبالغريبتين لغرابتهما بين مسائل الفرائض. روى البيهقي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان عمر رضي الله عنه إذا سلك بنا طريقا وجدناه سهلا، وإنه أتى في امرأة وأبوين فجعل للمرأة الربع، وللأم ثلث ما بقي.
1 النساء: 12.
لقد فرض الله للأم مع عدم الفرع الوارث والعدد من الإخوة الثلث، قال تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} 1. ولم توضح الآية حكم ما إذا وجد مع الأبوين أحد الزوجين، ولم يأت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء في ذلك، ولم يحدث هذا في عهد أبي بكر؛ فلما حدث في عهد عمر، اجتهد في المسألة، ورأى أنه لو أعطى في الصورة الأولى الزوج النصف والأم الثلث لم يبق للأب غير السدس، وهذا يتنافى مع قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن} 2 ولو أعطى في الصورة الثانية الزوجة الربع والأم الثلث والأب الباقي؛ فإنه لا يفضلها إلا بواحد من اثني عشر، وهذا لا يحقق معنى {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن} فرأى أن يقسم التركة بعد الزوج أو الزوجة بين الأب والأم للذكر مثل حظ الأنثيين، ووافقه على هذا عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وغيرهم، وهو ما أخذ به الأئمة الأربعة.
وخالفهم ابن عباس رضي الله عنهما، ورأي أن للأم ثلث التركة مطلقا؛ سواء أكانت مع الزوج أو الزوجة تمسكا بظاهر الآية، وبالحديث المتفق عليه "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر".
ووافق ابن سيرين الجمهور إذا كان مع الأبوين زوج حتى لا يأخذ الأب في هذه الحالة أقل من الأم، ووافق ابن عباس إذا كان مع الأبوين زوجة لأن الأب في هذه الحالة سيأخذ أكثر من الأم.
وليس فيما ذهب إليه عمر ومن وافقه ما يتعارض مع النصوص؛ وإنما تفسر الآية {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُث} على أن المراد ورثه أبواه خاصة، أو أن لها ثلث ما ورثاه سواء أكان جميع المال أو بعضه.
1 النساء: 11.
2 النساء: 11.