الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد استطاع مالك في جو المدينة الهادئ أن يصون نفسه عن موجة أهل الأهواء العارمة التي كادت تشغل أذهان المسلمين عن حقيقة الدين، كالشيعة والخوارج والقدرية، والجهمية، والمرجئة.
حياة مالك "93- 179ه
ـ":
إختلف العلماء في السنة التي ولد فيها مالك، وأشهر هذه الآراء أنه ولد في سنة 93هـ "ثلاث وتسعين". وكانت ولادته بالمدينة، وهي مهد العلم الزاخر بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين، ولها مكانتها في نفوس المسلمين؛ فحفظ مالك لها هذه المكانة في نفسه، وأثر هذا في فقهه، فاعتبر عمل أهلها أصلا من أصول استنباطه.
وهو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي من قبيلة ذي أصبح اليمنية؛ فهو عرف الأصل، وادعى محمد بن إسحاق صاحب السيرة أنه كان من موالي بني تميم، وليس الأمر كذلك؛ وإنما كان بين جد مالك، وبين عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله بن تميم حلف، لا ولاء، والحلف قد يكون بين العرب الأحرار، والولاء لا يكون إلا بين عربي ومولى؛ فقد قدم جده الأعلى أبو عامر إلى المدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر، وسكنها، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد المغازي كلها خلا بدرا، وارتبط ببني تميم بالمصاهرة، ثم ارتبط بهم بعد ذلك برابطة الحلف والتناصر، وابنه مالك كنيته "أبو أنس"من كبار التابعين، وهذه أصح الروايات في نسبه.
نشأ مالك في بيت علم، بمدينة علم، بدار الهجرة، موئل السنة ومرجع العلماء، وموطن الفتاوي المأثورة؛ فحفظ القرآن الكريم في صدر حياته، ثم اتجه إلى حفظ الحديث، وجالس العلماء ناشئا صغيرا، ولازم أحد هؤلاء العلماء في عصره، وهو "عبد الرحمن بن هرمز".
يروي عنه أنه قال: كان لي أخ في سن ابن شهاب؛ فألقى أبي يوما علينا مسألة، فأصاب أخى وأخطأت؛ فقال لي أبي: ألهتك الحمام عن طلب العلم،
فغضبت وانقطعت إلى ابن هرمز سبع سنين، لم أخلطه بغيره، وكنت أجعل في كمي تمرا، وأناوله صبيانه، وأقول لهم: إن سألكم أحد عن الشيخ؛ فقولوا مشغول، وقال ابن هرمز يوما لجاريته: من بالباب؟ فلم تر إلا مالكا، فرجعت فقالت: ما ثم إلا ذاك الأشقر؛ فقال: ادعيه فذلك عالم الناس.
وبهذا يتبين أن ابن هرمز أثر في مالك تأثيرا بليغا في هذه الفترة التي لم يخلطه بغيره، ثم وجد في نافع مولى ابن عمر بغيته؛ فجالسه وأخذ عنه علما كثيرا.
وأخذ مالك عن ابن شهاب الزهري، بعد أن نال قسطا كبيرا من العلم، وصار ضابطا، حافظا أخذ منه الحديث كما أخذ الفقه عن ربيعة بن عبد الرحمن المعروف بربيعة الرأي، الذي كان يعترف لمالك بالفضل ويجلس معه في التلقي.
وروي عن مالك أنه قال: قدم علينا الزهري فأيتناه ومعنا ربيعة؛ فحدثنا نيفا وأربعين حديثا، ثم أتيناه في الغد؛ فقال: انظروا كتابا حتى أحدثكم، أرأيتم ما حدثتكم به أمس؟ قال له ربيعة: ههنا من يرد عليك ما حدثت به أمس. قال: ومن هو؟ قال: ابن أبي عامر. قال: هات؛ فحدثته بأربعين حديثا. منها فقال الزهري: ما كنت أرى أنه بقي أحد يحفظ هذا غيري.
كما أخذ عن يحيى بن سعيد الأنصاري من بني النجار، قاضي المدينة الذي أخذ عن الفقهاء السبعة وكان حجة في الفقه.
وحين اكتملت لمالك دراسة الحديث والأثر والفقه اتخذ له مجلسا في المسجد النبوي للدرس والإفتاء فقصد طلاب الفقه والفتوى، وكان موضع ثقتهم، وبالغ أصحاب المناقب؛ فذكروا أن مالكا كان آنذاك في سن السابعة عشرة، مع أن الروايات تدل على أنه لم يجلس للفتيا إلا بعد أن استشار عددا كبيرا من شيوخه، وقد سبق أن عرفنا أنه لازم ابن هرمز سبع سنين؛ مما يدل على أن جلوسه للإفتاء كان في سن النضج لا في سن السابعة عشرة، وإن كنا لا ندري في أي سن على وجه التحديد.