الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: عصر التشريع
عصر التشريع من البعثة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم سنة 11ه
ـ
حالة العرب والعالم عند البعثة وبيان المهمة التي جاء بها الإسلام
…
عصر التشريع "من البعثة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم سنة 11 هـ":
حالة العرب والعالم عند البعثة وبيان المهمة التي جاء بها الإسلام:
ساد العالم في القرن السادس الميلادي -قبيل البعثة- دولتان كبيرتان على مقربة من جزيرة العرب؛ إحداهما دولة الفرس في الشمال الشرقي، والأخرى دولة الروم في الشمال والغرب. ولكل دولة من هاتين الدولتين حضارة ذات ثقافة وقانون، ولها عقائد تدين بها.
ففي الفرس تعاقب الملوك الأكاسرة، الذين بسطوا نفوذهم على أجزاء العالم المحيطة بهم، وبنوا لأنفسهم حضارة سميت بالحضارة الفارسية، وكانت آخر دولة حكمت الفرس قبل الإسلام "الدولة الساسانية" التي استمرت في الحكم من سنة 226م إلى سنة 651م حين استولى عليها المسلمون.
واشتهر الفرس بميلهم إلى عبادة المظاهر الطبيعية، وكانت تعاليم "زرادشت" -الذي زعموه نبيا لهم- تقوم على أساس أن هناك نزاعا وتصادما بين القوى المختلفة: بين النور والظلمة، والخصب والجدب
…
إلخ، وأن للعالم أصلين أو إلهين؛ أصل الخير، وأصل الشر، وهما في نزاع دائم، ولكل من هذين الأصلين قدرة الخلق، فأصل الخير هو النور، وقد خلق كل ما هو حسن وخير ونافع، كخلق الحيوانات النافعة، والطيور الجميلة، وأصل الشر هو الظلمة، وقد خلق كل ما هو شر في العالم، فخلق الحيوانات المفترسة والحيات والحشرات وما شابهها، ولكن الفوز النهائي لروح الخير، وترى الزردشتية أن للإنسان حياتين؛ حياة أولى في الدنيا وحياة أخرى بعد الموت، ونصيبه من حياته الآخرة نتيجة لأعماله في حياته الأولى، وأن يوم القيامة قريب، حين ينتصر إله الخير على إله الشر.
واتخذ الفرس النار رمزًا لآلهة الخير، يشعلونها في معابدهم، وينفحونها بأمدادهم حتى تقوى على آلهة الشر وتنتصر عليها.
ولم تخرج تعاليم "ماني" في المانوية التي شاع مذهبها عن تعاليم "زرادشت" إلا في القليل من آرائها. وحول سنة 487م ظهر في فارس "مزدك" ودعا إلى مذهب ثنوي جديد، فكان يقول أيضا بالنور والظلمة، ولكنه عرف بتعاليمه الاشتراكية، فكان يرى أن الناس ولدوا سواء فليعيشوا سواء، وأهم ما تجب فيه المساواة: المال والنساء.
قال الشهرستاني: "وكان "مزدك" ينهى الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال، ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال، فأحل النساء وأباح الأموال، وجعل الناس شركة فيها كاشتراكهم في الماء والكلأ والنار".
وكان للفرس قانون في عهد الدولة الساسانية، تضمن الكلام على الأحوال الشخصية كالزواج، وعلى الملكية، وعلى الرق، وبعض الشئون العامة.
أما دولة الروم التي كان يحكمها القياصرة، فقد قامت حضارتها على الفلسفة النظرية والجدل المنطقي "اليوناني" ثم "الروماني"، وتوارثت آراء سقراط وأفلاطون وأرسطو، وسيطرت على مناطق البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك الشام ومصر والمغرب، حيث كانت عقائد النصرانية على اختلاف مذاهبها، ولقد لجأت النصرانية إلى الفلسفة اليونانية؛ لتستعين بها على الجدل، ولتؤيد تعاليمها وعقائدها أمام الوثنيين، وكانت الإسكندرية هي المركز الجغرافي لمزج الدين بالفلسفة، وظهر فيها المذهب المعروف بـ "الأفلاطونية الحديثة"، وذلك منذ عام 200 م تقريبا. وظلت النصرانية منتشرة في الشام ومصر والمغرب والنوبة والحبشة والعراق. كما قام السريانيون بنشر الفلسفة اليونانية، واتخذوا لأنفسهم مدارس متعددة، كانت أهم مراكزها في الرها ونصيبين وحران، واهتموا بترجمة الكتب اليونانية بعقائدها الوثنية، وثقافتها المتشعبة إلى اللغة السريانية، بما في ذلك القانون الروماني، وعلوم الطب، والفلك، والفلسفة.
وبإزاء هذا كله، كانت بقايا اليهودية متناثرة في بعض الأماكن، بشمال الجزيرة العربية وفي داخلها بـ "يثرب"، ولهؤلاء كذلك عقائدهم وموروثاتهم الدينية.
وأما العرب فقد كان أكثرهم من البدو الرحل الذين يعيشون في الصحراء، يربطهم نظام القبيلة بأعرافه الاجتماعية، وعادته التقليدية، ويحكمهم رؤساء القبائل الذين يفصلون في الخصومات ولهم سلطة الأمر والنهي عليهم، ولم يخلُ نظام القبيلة من بعض النظم الاجتماعية التي كانت سائدة أنذاك، كنظام الأسرة في الزواج، والقصاص في القتل.
وأقام بعضهم في المدن كمكة، ويثرب، والطائف، وباشروا الزراعة، وامتهنوا بعض الصناعات، وهذا من شأنه أن يقيم قواعد للمعاملات المالية والعلاقات التجارية. وساعد على هذا أسواقهم الكبرى، واجتماعهم في الحج، واشتهرت قريش في مكة بالتجارة، وكان لها علاقة تجارية مستمرة بسوريا "الرومانية"، والعراق "الساساني"، وباليمن في رحلتي الشتاء والصيف.
ولم يكن العرب في معزل عن الثقافات المحيطة بهم، بل إن النزاع الدائم بين الفرس والروم أدى إلى استفادة كل من الجانبين بالعرب، حتى يكونوا ردءا لصد غارات البدو عليهم. فأسس الفرس إمارة الحيرة على نهر الفرات، وأمروا عليها عمرو بن عدي، كما كون الغساسنة إمارة لهم في الشام. وكان آخر ملوك الحيرة النعمان بن المنذر الخامس، زوج هند، وهو الملقب بأبي قابوس، وصاحب النابغة الذبياني، وقد غضب عليه كسرى فحبسه حتى مات حوالي سنة 602 م.
وكان آخر ملوك الغساسنة جبلة بن الأيهم سنة 614م، ولما فتح المسلمون الشام أسلم جبلة وقدم المدينة، وأحسن عمر نزله، ولكنه لطم رجلا من بني فزارة، فنابذه وطلب إلى عمر القصاص، فأخذته العزة بالإثم، فقال له عمر: لا بد أن أقيدك، فهرب إلى قيصر، ولم يزل بالقسطنطينية حتى مات سنة 20هـ.
وقد تأثر عرب الحيرة بثقافة الفرس، كما تأثر الغسانيون بثقافة اليونان والديانة الرومية، وهؤلاء وأولئك كانوا على صلة بالعرب في قلب الجزيرة العربية.
وتسربت اليهودية إلى بلاد العرب، واتخذت لها معاقل في "تيماء" و"فدك" و"خيبر" و"يثرب" كما تسربت النصرانية واتخذت موطنها الأساسي في "نجران".
وهذه الأمور الثلاثة:
1-
التجارة.
2-
الإمارات على تخوم فارس والروم.
3-
اليهودية والنصرانية.
كانت وسائل لنقل المدنيات المجاورة إلى العرب ونفاذ ثقافتها إليهم.
ومع أن العرب قد ورثوا شيئا من ملة إبراهيم وإسماعيل، فإن طبيعتهم الخشنة ظلت مستعصية أمام هذه العوامل؛ لغلبة الجهل، وانتشار الوثنية، يعيشون في تناحر وفوضى. يقول ابن خلدون فيهم:
"إن العرب لطبيعة التوحش الذي هم فيه أهل انتهاب وعبث، ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر، ويفرون إلى منتجعهم بالقفر
…
وهم إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب؛ لأنهم أمة وحشية، فينقلون الحجر من المباني ويخربونها؛ لينصبوه أثافي للقدر، ويخربون السقف ليعمروا به خيامهم، ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم، وليس عندهم من أخذ أموال حدٌّ ينتهون إليه
…
وهم متنافسون في الرياسة، وقل أن يسلم واحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل، فيتعدد الحكام منهم والأمراء، وهم أصعب الأمم انقيادًا بعضهم لبعض؛ للغلظة، والأنفة، وبُعد الهمة، والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم.
من أجل ذلك لا يحصل لهم الملك إلا بصيغة دينية من نبوة، أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة".
ومع ذلك كله فقد كانت لهم تقاليد في مأكلهم ومشربهم وملبسهم، وفي
نكاحهم وطلاقهم، وفي بيوعهم وسائر معاملاتهم، وكانت لهم محارم يحرمونها كالأمهات والبنات والأخوات، ولهم مزاجر في مظالمهم في مثل الجنايات والديات والقسامة وما شاكلها.
تلك هي حال العرب والعالم قبل البعثة، وهي حال يستطير شرها، ويتفاقم خطرها بما أورثته للإنسانية من استبداد وظلم وشقاء وفساد، وفي وسط هذا الجو الخانق القاتل لقيم الحياة الإنسانية ومطالبها الروحية انبعث من بطحاء مكة صوت قوي رهيب يقول:"لا إله إلا الله". كان ذلك الصوت الداوي صوت محمد صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الله؛ ليهدي العقول الحائرة إلى نور الإيمان بالعقيدة الصحيحة، ويفتح لها مسالك العلم النافع، ويمنحها العدل الذي يحطم قيود العسف والجبروت، والحرية التي ترقى بمستوى الإنسانية، وتحفظ لها حقوقها، والمساواة التي تهب لكل فرد فرصة يستثمر فيها مواهبه لخير المجتمع وصالحه، فأنذر وبشَّر، وأعلن دعوته ربانية عالمية، تتخطى جبال الحجاز، وهضاب نجد، وسعة البحار والوهاد، وتتجاوز كل مهمه قفر؛ لتعلن على الملأ إنسانيتها، وتدعو البشرية على اختلاف أجناسها وألوانها للانضواء تحت لوائها:
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 1.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} 2.
فكانت رسالة الهدى والرحمة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 3.
1 الأعراف: 158.
2 سبأ: 28.
3 يونس: 57.