الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وخالف العراقي ابن تيمية، وذهب إلى أن في المسند أحاديث ضعيفة كثيرة، وأحاديث موضوعة قليلة.
وقد رد ابن حجر على شيخه في كتابه "القول المسدد في الذب عن مسند أحمد".
والذي عليه المحققون من العلماء: أن مسند أحمد ليس فيه الموضوع، وإن كان فيه الضعيف، وفرق بين الضعيف والموضوع، فالضعيف لم تتوفر فيه شروط الرواية الصحيحة، أما الموضوع فهو الذي قام الدليل على الكذب فيه.
وقد قام الشيخ أحمد شاكر بتخريج أحاديث المسند، وضبط فهارسه، فجعل فيه فهارس للأعلام، وفهارس للصحابة مرتبة على حروف المعجم.
وقال الشيخ أحمد البنا والد الداعية الشهيد حسن البنا بترتيب المسند وفق الأبواب الفقهية، فيسر مهمة البحث فيه، والتوصل إلى المطلوب منه، ونشره بعنوان:"الفتح الرباني على مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني" مع شرح مختصر.
أصول مذهبه:
أخص ما تميز به مذهب أحمد أنه يقوم على فقه السنة، ولذا فإنه يعد من كبار المحدثين، وفقد ذكر ابن القيم في "إعلام الموقعين" أن فتاوى أحمد بن حنبل مبنية على خمس أصول، نتناولها فيما يلي:
1-
النصوص:
كان أحمد إذا وجد النص أفتى بموجبه، ولا يلتفت إلى ما خالفه كائنا من كان، ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا ولا قياسا.
وهذا يفسر لنا عنايته بجمع النصوص حتى اجتمع له منها ما لم يجتمع لغيره.
وتدل مناظرته في مسألة القول بخلق القرآن، وفي الرد على الزنادقة، والجهمية دلالة واضحة على ذلك، فقد كان يطالبهم بالنصوص، ويقول ائتوني
بكتبا أو سنة حتى نجيبكم إلى ما لم يدل عليه الكتاب والسنة.
والنصوص عند أحمد وافية بأكثر أحكام أفعال العباد، يستوي في ذلك نصوص القرآن ونصوص السنة، فقدجاءت نصوص القرآن بالقواعد العامة التي تتناول كثيرا من الفروع والمسائل، وأوتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، فكان يتكلم بالكلمة الجامعة التي تتضمن المعاني الكثيرة وتشمل ما يحصى من المسائل، فإذا فهمت معاني النصوص في الكتاب والسنة، تبين أنها شاملة لعامة أفعال العباد.
ونصوص الكتاب والسنة في مرتبة واحدة عند أحمد، فإن حجية السنة ثابتة بالكتاب كما أن السنة بيان للكتاب، وهذا وذاك يجعل نصوص السنة الصحيحه، بمنزلة نصوص القرآن في الاستدلال.
وحيث وجد النص عند أحمد فإنه لا يلتفت لمن خالفه، ولو كانت المخالفة من بعض الصحابة، ولهذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في "المبتوتة" لحديث فاطمة بنت قيس التي طلقها زوجها البتة، فقد أفتى عمر بأن المبتوتة لها النفقة ولها السكنى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة:"ليس لك عليه نفقة ولا سكنى" ولم يلتفت إلى قول عمر في منع المفرد والقارن من الفسخ إلى التمتع لصحة أحاديث الفسخ. حيث ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر من لم يسق الهدى بعد الطواف والسعي أن يتحلل وأن يجعلها عمرة. ولم يلتفت إلى قول ابن عباس، وإحدى الروايتين عن على: أن عدة المتوفي عنها الحامل أقصى الأجلين. لصحة حديث سبيعة الأسلمية التي وضعت حملها بعد وفاة زوجها بأيام فأفتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها قد حلت حين وضعت حملها. ولم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية في توريث المسلم من الكافر لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم".
ففضل الصحابة والتابعين عند أحمد لا يسوغ تقديم آرائهم على نصوص
رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو المعصوم، وكل يؤخذ من قوله ويرد، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" 1، فكان الأخذ بالنص، وإهدار ما خالفه من أوضح قواعد الإمام أحمد وأصول مذهبه في فتاواه.
2-
فتاوي الصحابة:
جعل ابن القيم الأصل الثاني من أصول الإمام أحمد ما أفتى به الصحابة. فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها.
والمعروف أن فتوى الصحابي من الأدلة المختلفة فيها عند الأصوليين والإمام أحمد يرى أن ما أفتى به الصحابي إذا لم يعلم له مخالف يكون حجة؛ ذلك لأنه يعتبر من باب الإجماع السكوتي، ولكن أحمد يتورع عن أن يسمى هذا إجماع، فيقول: لا أعلم شيئا يدفعه، أو يقول: لا أعلم فيه اختلافا أو نحو ذلك.
وقول الصحابي فيما لا مجال للاجتهاد فيه يكون بمنزلة الحديث المرفوع، أما إذا كان للرأي فيه مجال فلا يخلو من أمرين:
أ- أن يشيع وينتشر بين الصحابة ولا يظهر خلافه. فظاهر كلام أحمد أنه دليل مقطوع به، يجب اتباعه، وتحرم مخالفته، ولم يسمه إجماعا، بل أثر عنه قوله:"من أدعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس قد اختلفوا". ولذا نسبوا إليه إنكار الإجماع، وحمل هذا الإنكار على أنه إنكار للإجماع العام النطقي، لا الإجماع السكوتي. أو إجماع ما بعد الصحابة، أو بعدهم. وبعد التابعين أو بعد القرون الثلاثة المشهود لها بالخير.
ب- أن لا يشيع ولا ينتشر بين سائر الصحابة، ولا يعرف له مخالف؛ فإن دل
1 رواه أحمد ومسلم.
عليه بالقياس وجب العمل به، قال أبو البركات في "المسودة"1: إذا قال الصحابي قولا ولم ينقل عن صحابي خلافه، وهو ما يجري بمثله القياس والاجتهاد فهو حجة. نص عليه أحمد في مواضع وقدمه على القياس".
وهذا هو الذي أثر عن أحمد في كلامه، يقول:"ما أجبت في مسألة إلا بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا وجدت في ذلك السبيل إليه، أو عن الصحابة، أو عن التابعين، فإذا وجدت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم أعدل إلى غيره، فإذا لم أجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين؛ فإذا لم أجد عن الخلفاء، فعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر بالأكابر، فإذا لم أجد فعن التابعين، وعن تابعي التابعين، وما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث بعمل له ثواب إلا عملت به، رجاء ذلك الثواب ولو مرة واحدة". ويقول: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم، وترك البدع".
وقال الشيخ أبو زهرة: "ولذلك كانت أقوال الصحابة وفتاواهم حجة عنده أي عند أحمد - تلى حجة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وتتقدم على المرسل من الأحاديث، والضعيف من الأخبار، وقد اتفق العلماء الذين نقلوا فقهه على ذلك، ولم يختلفوا فيه، فكلهم مجمع على أنه كان يأخذ بفتوى الصحابة، ولا يجتهد برأيه ما وجد في موضع الفتوى أثرا منقولا عن صحابي.
3 الاختيار من فتاوى الصحابة إذا اختلفوا:
قال ابن القيم: الأصل الثالث من أصول أي أصول أحمد -إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم؛ فإن لم يتبين له مواقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها ولم يجزم بقول.
1 هو مجد الدين أبو البركات، عبد السلام بن عبد الله بن الخضر الحنبلي من آل تيمية، أحد الثلاثة الذين صنفوا المسودة في أصول الفقه، انظر "المسودة" بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني بالقاهرة، ص 336.
ويتضح من هذا أن المراد بالاختيار من أقوال الصحابة، أن يختار أقرب هذه الأقوال إلى الكتاب والسنة، وهذا يقتضي النظر فيها، والرجوع إلى النصوص حتى يختار أقربها إلى دلالة النص. قال أبو يعلى: إذا اختلف الصحابة في المسألة على قولين ولم ينكر بعضهم على بعض لم يجز لمنهو من أهل الاجتهاد أن يأخذ بقول بعضهم من غير دلالة على صحة قول الصحابي.
وفي أصول مذهب الإمام للدكتور عبد الله التركي رواية أخرى بهذا المعنى: "إذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز للرجل أن يأخذ بقول بعضهم على غير اختيار، ينظر أقرب القول إلى الكتاب والسنة"1.
ويدل كلام ابن القيم في موضع آخر على أن التراجع في الاختيار من أقوال الصحابة لا يقف عند أقربها من الكتاب والسنة؛ بل قد يكون الترجيح يكون صاحب القول المختار أعلم من غيره كما إذا كان من الخلفاء الراشدين أو من المشهورين بالفتيا، كابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس.
فإذا لم يجد الإمام ما يرجح اختيار أحد أقوال الصحابة، حكى الأقوال المنقولة عنهم، ولم يقطع بقول منها:
4-
الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف:
الأصل الرابع من أصول الإمام أحمد هو الأخذ بالحديث المرسل، والأخذ بالحديث الضعيف.
وإذا كان الحديث المرسل في اصطلاح المحدثين هو: ما سقط منه الصحابي، كان يقول التابعي: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" بخلاف المنقطع والمعضل؛ فإن المرسل في اصطلاح الأصوليين هو: قول العدل الثقة: "قال
1 ص 406 - ط جامعة عين شمس.
رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" صحابيا كان أو غيره فيشمل المنقطع والمعضل.
ومراسيل الصحابة مقبولة عند جمهور العلماء أما مرسل غير الصحابي فقد اختلف العلماء في قبوله والاحتجاج به على أقوال: هل يقبل مطلقا؟ أو لا يقبل مطلقا؟ أو يقبل من أئمة النقل؟ أو يقبل من العصور الثلاثة دون غيرهم؟
ويرى أحمد قبول المراسيل مطلقا، يستوي في هذا مرسل الصحابي، ومرسل غير الصحابي، وهذه هي الرواية الراجحة عنه، ويقدم الحديث المرسل على القياس؛ ولكنه يقدم عليه قول الصحابي إذا لم يعلم له مخالف.
يقول أبو زهرة وهو يعرض رأي أحمد في المرسل: "ولكننا ونحن نقرر هذا نجد من الحق أن نقول: إن أحمد رضي الله عنه اعتبر المرسل من قبيل الأخبار الضعيفة التي يكون الأصل ردها وعدم قبولها، ولذلك قدم عليه فتوى الصحابة. وهو لا يقدم هذه الفتوى على حديث صحيح فقط. فتقديمها عليه دليل على أنه يعتبره ضعيفا لا صحيحا، وهو بذلك ينحو نحو المحدثين الذين يقررون أن الحديث المرسل من قبيل الحديث الضعيف، لا من قبيل الحديث الصحيح؛ وإنما أفتى به في حالة الضرورة لأنه لا يريد أن يفتي في الدين بشيء من عنده وعنده أثر يستأنس به؛ فهو يأخذ به ما دام ليس له إمام من الصحابة يفتي بفتواه".
ويرى الإمام أحمد في المشهور عنه أنه يعمل بالحديث الضعيف فإنه يقبله ويقدمه على القياس ولكنه لا يجعله في مرتبة الصحيح، بل يشترط أن لا يوجد في الباب غيره، وتكون مرتبته عنده بعد فتوى الصحابي. ومما أثر عنه في ذلك قوله:"الحديث الضعيف أحب إلى من الرأي" وذكر ابن الجوزي أن أحمد كان يقدم الحديث الضعيف على القياس، وعن عبد الله بن أحمد قال: سألت أبي عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحه من سقيمه، وأصحاب رأي، فتنزل به النازلة؟ فقال أبي: يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث أقوى من الرأي.
ويشترط في الحديث الضعيف عند أحمد حتى يقبل ويعمل به أن لا يكون باطلا ولا منكرا ولا في سنده متهم، فيكون قريبا من الحسن. قال ابن القيم: وليس المراد بالضعيف عنده الباطل، ولا المنكر، ولا ما في روايته متهم؛ بحيث لا يسوغ الذهاب إليه والعمل به، بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح، وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسم الحديث إلى: صحيح، وحسن، وضعيف، بل إلى صحيح، وضعيف، وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثرا يدفعه، ولا قول صاحب، ولا إجماعا على خلافة، كان العمل به عنده أولى من القياس.
5-
القياس:
إذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص ولا قول الصحابة، أو قول واحد فيهم ولا أثر مرسل أو ضعيف، عدل إلى الأصل الخامس وهو القياس، فاستعمله للضرورة، وقد قال في كتاب الخلال: سألت الشافعي عن القياس فقال: إنما يصار إليه عند الضرورة، أو ما هذا معناه.
وذكر القاضي أبو يعلى: أن القياس العقلي يجب القول به، والعمل عليه، وأن الإمام أحمد احتج بدلائل العقول في مواضع، وقال في مسألة القياس الشرعي يجوز التعبد به وإثبات الأحكام الشرعية من جهة العقل والشرع، وقال: لا يستغنى أحد عن القياس، وعلى الحاكم والإمام يرد عليه الأمر أن يجمع له الناس، ويقيس ويشبه كما كتب عمر إلى شريح: أن قس الأمور.
ومن استعمالات الإمام أحمد للقياس أنه صح تحريم ربا الفضل فيما روى عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد؛ فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد". "رواه أحمد ومسلم، وفي الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد رضي الله عنه بنحوه".