الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: عصر صغار الصحابة وكبار التابعين
الحالة السياسية
…
عصر صغار الصحابة وكبار التابعين:
من ولاية معاوية إلى أوائل القرن الثاني الهجري
الحالة السياسية في هذا العهد:
اجتمعت لمعاوية أقطار البلاد الإسلامية كلها، بعد أن صالحه الحسن بن علي رحمه الله، ولقب بأمير المؤمنين في العام الحادي والأربعين، وسمي هذا العام بـ "عام الجماعة".
ولا يعنى هذا الاجتماع استقرار الأمر وهدوء الحال من كل وجه، فإن المناوأة لمعاوية والحكم الأموي ظلت قائمة، من الخوارج تارة، وهم الذين ينقمون على عثمان وعلى ومعاوية جميعا، وينكرون سياسة الملك الدنيوي، ومن الشيعة أخرى، وهم الذين يرون الخلافة حقا لعلي وأهل بيته خاصة.
فإذا أضفنا إلى هذا أن سياسة حكم بني أمية واجهت في كثير من الفترات سخطا متزايدا، وخروجا على سلطانها في بعض الجهات، أدركنا العقبات التي اعترضت الولاة في هذا العهد.
ولقد كان معاوية صاحب حنكة سياسية خففت من حدة الخصومة بينه وبين أعدائه؛ إلا أن بيعته ليزيد أثارت كثيرا من السخط لدى أهل الورع والتقوى، كما كان لواقعة كربلاء ومقتل الحسين رد فعل كذلك، وزاد الطين بلة استقلال عبد الله بن الزبير، واعتصامه بمكه، مما جعل الأمر أشد تأزما وحرجا.
فلما جاء عبد الملك بن مروان أخذ في كتب هذه النزعات بقوة وحزم، كي يستتب له الأمر واعتمد في جمع كلمة الناس عليه على رجل مستبد، يعشق إذلال النفوس بالقهر والعسف، ذلك هو الحجاج بن يوسف الثقفي الذي أحمد.
كثيرا من الثورات، وحاصر مكة، وانتهك حرمتها وقتل عبد الله بن الزبير سنة ثلاث وسبعين للهجرة.
ولئن كان عهد الوليد بن عبد الملك من أزهى عصور بني أمية؛ حيث ازدهر بالفتوحات الإسلامية شرقا وغربا، فقد جاء بعده أخوه سليمان؛ فأساء للقواد الفاتحين، ثم أعقبه عمر بن عبد العزيز "التقي الزاهد" فحاول رد المظالم وإقامة العدل، واتجه بسياسة الحكم إلى إعادة سيرة الخلفاء الراشدين، ولكن الأمر ساء من بعده في عهد يزيد بن عبد الملك، ثم في عهد أخيه هشام، وبدأ الضعف يدب إلى أوصال الدولة الأموية، وقامت الدعوة السرية لبني العباس.
ومن هذا العرض السريع وتتبع الأحداث التي وراءه أخذ كثير من الباحثين المؤرخين على بني أمية أمورا:
أولا- أن نزعة الحكم في عهد الأمويين بدأت باتجاه عنصري يثير في النفس عوامل العصبية ونظام الملك، فعندما قرأ مروان بن الحكم عامل معاوية على المدينة كتاب معاوية لأخذ البيعة ليزيد في مسجد المدينة هاج القوم وماجوا، وقال عبد الرحمن بن أبي بكر:"ما الخيار أردتم لأمة محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية: كلما مات هرقل قام هرقل" وقام الحسن بن علي فأنكر ذلك، وفعل مثله عبد الله بن الزبير.
ثانيا- أنها جنحت إلى سياسة الملك التي تهتم بتقوية نفوذها، واستقرار الأمر لها دون التزام لسيرة الخلفاء الراشدين اعتصاما بالدين ووقوفا عند حدوده.
ثالثا- أنها عاملت بعض الصحابة وشيوخ التابعين بعنف وشدة كمعاملة الحجاج لسعيد بن جبير، وموقفه من عبد الله بن الزبير، ومعاملة أمير المدينة هشام ابن إسماعيل لسعيد بن المسيب.
رابعا- أن الحكم الأموي استباح أشياء من الأمور المشتبهات في الإسلام وغلب جانب الرأي فيما يجد من مسائل النزاع وأمور المعاملات:
"أ" فاستلحق معاوية زيادا، ورغب به عن أبيه عبيد الرومي، وقبل زياد هذا الاستلحاق والله تعالى يقول:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} 1.
ويقول صلى الله عليه وسلم: "من ادعى لغير أبيه فليتبوأ مقعده من النار". رواه البخاري ومسلم.
وروى عن ابن حرملة قال: ما سمعت سعيد بن المسيب سب أحدا من الأئمة قط، إلا أني سمعته يقول: قاتل الله فلانا، كان أول من غير قضاء رسول الله وقد قال:"الولد للفراش وللعاهر الحجر" يعنى بذلك استلحاق معاوية لزياد بن أبيه.
وقد تولى القاضي أبو بكر بن العربي الجواب عن هذه التهمة بما فيه الكفاية في كتابه "العواصم من القواصم" وبين أنه لا يعرف لزياد أب قبل دعوى معاوية على التحقيق، وله نسب بعبيد الثقفي بالحضانة، وقد استعمله عمر على بعض صدقات البصرة، وهو صحابي المولد، وما قيل من أن أبا سفيان اعترف به وأنه أتى أمه سمية في الجاهلية فأتت به ولم تكن سمية لأبي سفيان وإنما كانت للحارث بن كلدة طبيب العرب وهبها إليه كسرى، فهذا الكلام فيه مقال. وأما استلحق معاوية زيادا فلأنه سمع ذلك من أبيه، وقد اختلف العلماء فيما إذا استلحق الأخ أخا يقول: هو ابن أبي، ولم يكن له منازع فقال مالك: يرث ولا يثبت النسب، وقال الشافعي في أحد القولين: يثبت النسب. وقد كان زياد مجهول الأب، ويسمى زياد ابن أبيه، فالمسألة إذن اجتهاد من معاوية.
ب- واستباح بنو أمية التي حرمها الله، والمدينة التي حرمها رسوله، حيث استباح يزيد بن معاوية المدينة وانتهبها ثلاثة، وثنى عبد الملك بن مروان.
1 الأحزاب: 4- 5.
فأذن للحجاج في أن يستبيح مكة واستباحها الحجاج، ففعل فيها الأفاعيل، كل ذلك لتخضع البلاد المقدسة لبني أبي سفيان ولبني مروان من بعدهم.
وشبهة ذلك عنده في استباحة الحرم أن الحرم لا يجير عاصيا كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ج- وغلب جانب الرأي في المعاملات، روى عطاء بن يسار أن معاوية باع مرة سفاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل ذلك" فقال معاوية: ما أرى بهذا بأسا، فقال أبو الدرداء:"من يعذرني من معاوية، أخبره عن رسول الله ويخبرني عن رأيه.. لا أسكنك أرضا". رواه مالك في الموطأ، والنسائي في السنن، وأصله عند مسلم، وأن الذي نهى معاوية عبادة بن الصامت؛ وإنما رأى معاوية ذلك إما لأنه حمل النهي على المسبوك الذي به التعامل وقيم المتلفات، أو كان لا يرى ربا الفضل كابن عباس فيما روى عنه أول الأمر.
وينبغي الإشارة هنا إلى ما رواه أهل السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون الخلافة ثلاثين سنة، ثم تصير ملكا". وهو الحديث الذي استند إليه العلماء في تقرير خلاة الخلفاء الراشدين الأربعة؛ فقد كانت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وعلى رأس ثلاثين سنة بعد ذلك كان إصلاح الحسن بن على بين فئتين من المؤمنين بنزوله عن الأمر لمعاوية سنة إحدى وأربعين في شهر جمادي الأولى، وسمي "عام الجماعة" لإجماع الناس على معاوية وهو أول الملوك.
وكان هذا الإصلاح مصداقا لما رواه البخاري وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للحسن: "إن ابني هذا سيد. وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".
وفي الحديث الذي رواه مسلم "ستكون خلافة نبوة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون ملك وجبرية، ثم يكون ملك عضوض". وعهد بني أمية هو الذي يصدق فيه القول بأنه ملك ورحمة، وأولهم معاوية.
ولا شك أن معاوية صحابي له فضل الصحبة التي وردت في الأحاديث الصحيحة، بل كان من كتاب الوحي، فلا يجوز لأحد أن ينال منه، وإن كان الصحابة ليسوا على درجة سواء في الفضل، وقد استعمله عمر رضي الله عنه على الشام بعد أخيه يزيد بن أبي سفيان قبل أن يستعمله عثمان.
واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة. فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول المولك، كان ملكه ملكا ورحمة كما جاء في الحديث.
ولكنه سن سنة سيئة في حمل الناس على بيعة يزيد، وجرى على ذلك أمر بني أمية في القهر والغلبة إذا استثنينا عمر بن عبد العزيز.
أما يزيد بن معاوية فقد غلا فيه بعضهم فجعله إماما عادلا هاديا مهديا، وغلا آخرون في ذمه فاتهموه بالكفر والزندقة.
والحق أن يزيد بن معاوية ولد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ولم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كان من الصحابة باتفاق العلماء، ولا كان من المشهورين بالدين والصلاح، ولا كان كذلك كافرا ولا زنديقا؛ وإنما تولى بعد أبيه على كراهة من بعض المسلمين ورضا من بعضهم. وجرت في إمارته أمور عظيمة:
أحدها: مقتل الحسين رضي الله عنه، حيث حاربه بجيوشه، وحين طلب الحسين منهم أن يجيء إلى يزيد أبوا إلا أن يقتلوه وأصر عبيد الله بن زياد على قتله؛ فكان قتله، كما كان قتل عثمان رضي الله عنه قبله من أعظم أسباب الفتن في هذه الأمة.
الأمر الثاني: استباحته للمدينة، فإن أهل المدينة نقضوا بيعته، وأخرجوا نوابه فبعث إليهم جيشا، وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثا، فصار عسكره في المدينة النبوية ثلاثا يقتلون وينهبون، وينتهكون الأعراض، وأوقعوا بأهل المدينة في الحرة، ثم أرسل جيشا إلى مكة المكرمة فحاصروها، وهذا من العدوان والظلم الذي فعل بأمره.
الأمر الثالث: أنه لم يكن محمود السيرة من كل وجه، فقد ذكرت بعض