الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التشريع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم:
عرفنا فيما سبق أن الشريعة خاصة بما جاء عن الله تعالى:
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1. وذلك لا يكون إلا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث انقطع الوحي بوفاته، فالتشريع إما أن يكون وحيا إلهيا بالمعنى واللفظ، وذلك يتمثل في القرآن الكريم الذي أنزله الله على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون وحيا إليها بالمعنى دون اللفظ، وذلك يتمثل في سنة رسول صلى الله عليه وسلم، فإن لفظ الحديث من كلامه، وإن كان معناه وحيًا؛ لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 2. فالله وحده هو المشرع، ورسوله هو المبين لشرعه {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 3. وقد أوجب الله طاعة رسوله؛ لأنها من طاعته {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} 4. وجعل حكمه عن إلهام منه {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 5 فلا شرع إلا ما شرع الله أو ما شرع رسوله، ولهذا كان للتشريع الإسلامي مصدران أساسيان؛ الكتاب والسنة، وبانتهاء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى عهد التشريع.
وقد بين حديث عائشة كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الرؤيا الصالحة كانت أول أمره، ثم حبب إليه الخلاء، حتى جاءه الملك وهو يتعبد في غار حراء؛ فعن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتنحث فيه -وهو التعبُّد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء،
1 الشورى: 21.
2 النجم: 3، 4.
3 النحل: 44.
4 النساء: 80.
5 النساء: 105.
فجاءه الملك، فقال: اقرأ. قال: "ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ من الجهد، ثم أرسلني: فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} 1 "، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال:"زملوني، زملوني"، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر:"لقد خشيت على نفسي"، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي -ابن عم خديجة- وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أوَمخرجي هُمْ؟ " قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحي"، والحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما.
ووقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي أن مدة فِترة الوحي كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن اسحاق، وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو شهر ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وبدئ بذلك؛ ليكون تمهيدا وتوطئة لليقظة، ثم كان ابتداء وحي اليقظة في رمضان، قال ابن حجر في الفتح:
1 العلق: 1-3.
"إذا علم أنه كان يجاور في غار حراء في شهر رمضان، وأن ابتداء الوحي جاءه وهو في الغار المذكور اقتضى ذلك أن نبيء في شهر رمضان".
ثم كان نزول سورة المدثر بعد فترة الوحي، وفي الصحيحين عن أبي سلمة عن جابر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي، قال في حديثه: $"بينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} 1". والمراد بزملوني: دثروني، وإلا يقتضي ذلك نزول {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل} حينئذ؛ لأن نزولها تأخر عن نزول {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر} بالاتفاق؛ لأن أول المدثر الأمر بالإنذار، وذلك في أول البعثة، أما أول المزمل فهو الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن.
وقد جاء في القرآن الكريم ثلاث آيات بينات تتعلق بنزول القرآن:
الأولى في سورة البقرة: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآن} 2.
والثانية في سورة الدخان: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة} 3.
والثالثة في سورة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر} 4.
ولا يجد الإنسان تعارضا بين هذه الآيات، فالليلة المباركة هي ليلة القدر من شهر رمضان، وإنما يلتبس عليه التوفيق بين هذه الآيات والواقع التاريخي في نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجما في أكثر من عشرين عاما فكيف تجتمع هذه الأعوام في شهر بل في ليلة؟!! وللعلماء في هذا التوفيق مذهبان5:
1 المدثر: 1، 5.
2 البقرة: 185.
3 الدخان: 3
4 القدر: 1.
5 من العلماء من ذهب إلى أن القرآن نزل أولا جملة إلى اللوح المحفوظ، ثم نزل من اللوح المحفوظ جملة كذلك إلى بيت العزة، ثم نزل مفرقا، فهذه تنزلات ثلاثة، ومنهم من يرى أن القرآن نزل إلى السماء الدنيا في ثلاث وعشرين ليلة قدر من ثلاث وعشرين سنة، ينزل في كل ليلة قدر ما يقدر الله سبحانه إنزاله في كل سنة وقد اقتصرنا على المذهبين المشهورين.
أما المذهب الأول ويتزعمه ابن عباس فيرى أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، في ليلة القدر من شهر رمضان، ثم نزل ذلك مفرقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفق الحوادث والمقتضيات مدة البعثة، وعلى هذا فلا تنافي بين الآيات والواقع، فالآيات أخبرت عن نزول القرآن جملة، ولم تخبر عن نزوله تفصيلا، فعن ابن عباس وغيره "أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
أما المذهب الثاني ويتزعمه الشعبي، فيرى أن أول ما بدئ به الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان في شهر رمضان في الليلة المباركة "ليلة القدر"، ثم نزل القرآن الكريم تباعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية حياته. وعلى هذا فالآيات الثلاث أخبرت عن بدء نزول القرآن لا عن نزوله كله. ولا يتعارض هذا المعنى مع الواقع.
وأنت ترى من خلال هذين المذهبين أن مذهب ابن عباس لا يعطي لشهر رمضان مزية خاصة ذات صلة مباشرة بالأمة المحمدية؛ إذ كان المراد نزول القرآن إلى السماء الدنيا لا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تظهر منة الله على هذه الأمة في شهر رمضان بهذا الفضل، والأقرب في ظهور المنة والفضل ما ذهب إليه الشعبي من بدء النزول في رمضان في ليلة القدر1، وقد ذهب ابن إسحاق إلى أنها ليلة السابع عشر من الشهر، وأشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} 2. والمراد بيوم التقاء الجمعين يوم التقاء المسلمين والمشركين ببدر، وهو يوم الجمعة 17 رمضان من السنة الثانية للهجرة، ويوم الفرقان هو اليوم الذي ابتدأ فيه نزول القرآن، وهما متحدان في الوصف، ويوافقان 17 رمضان وإن لم
1 يجمع بين المذهبين بأن يكون نزول القرآن جملة، وابتداء نزوله مفرقا في ليلة واحدة هي ليلة القدر من شهر رمضان
2 الأنفال: 41.
يكونا من سنة واحدة، وقد حكى القسطلاني في شرحه على البخاري خلاف العلماء في تعيين هذه الليلة على أقوال كثيرة، ومنها القول الذي مال إليه ابن اسحاق، وقال: إنه رواه ابن أبي شيبة والطبراني من حديث زيد بن أرقم.
هذا بالنسبة إلى ابتداء نزول القرآن.
أما بالنسبة إلى آخر ما نزل منه:
أ- فقيل: آخر ما نزل آية الربا؛ لما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت آية الربا، والمراد بها قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} 1 الآية.
ب- وقيل: آخر ما نزل من القرآن قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه} 2. الآية.
ج- وقيل: آخر ما نزل آية الدين؛ لما روى عن سعيد بن المسيب: أنه بلغه أن أحدث القرآن عهدا بالعرش آية الدين، والمراد بها:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} 3 الآية.
ويجمع بين الروايات الثلاث بأن هذه الآيات نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف: آية الربا، فآية {وَاتَّقُوا يَوْمًا} فآية الدين؛ لأنها في قصة واحدة، فأخبر كل راوٍ عن بعض ما نزل بأنه آخر، وذلك صحيح، وبهذا لا يقع التنافي بينها.
د- وقيل: آخر ما نزل آية الكلالة. فقد روى الشيخان عن البراء بن عازب
1 البقرة: 278.
2 البقرة: 281.
3 البقرة: 282.
قال: آخر آية: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَة} 1 الآية، وحمل هذا من البراء على أنه آخر ما نزل فيما يتعلق بالمواريث.
هـ- وقيل: آخر ما نزل قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم} 2 إلى آخر السورة.
و وعن ابن عباس قال: آخر سورة نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح} 3.
وهذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكل قال بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن، ويحتمل أن كلًّا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم، أو قال ذلك باعتبار آخر ما نزل في تشريع خاص، أو آخر سورة نزلت كاملة.
أما قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} 4 فإنها نزلت بعرفة عام حجة الوداع، ويدل ظاهرها على إكمال الفرائض والأحكام، وقد سبقت الإشارة إلى ما روي في نزول آية الربا، والدين، والكلالة، وغيرها، وقد ذكر الطبري في تأويل هذه الآية أنهم قالوا: لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من الفرائض، ولا تحليل شيء ولا تحريمه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة5.
ونستخلص مما سبق: أن بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 النساء: 176.
2 التوبة: 128
3 النصر: 1.
4 المائدة: 3.
5 كانت وفاته صلى الله عليه وسلم في أوائل شهر ربيع الأول سنة 11هـ على خلاف في تحديد اليوم.
بالرؤيا الصالحة كان على رأس الأربعين من عمره "في شهر ربيع الأول"، وأن أول نزول القرآن كان في شهر رمضان بسورة "اقرأ"، وأن آخر ما نزل على الرأي الراجح كان يوم عرفة بحجة الوداع، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول، بعد ذلك في العام الحادي عشر للهجرة، وبوفاته انتهى عهد التشريع الذي بدأ ببعثه صلى الله عليه وسلم، وهو مقدر بما يقرب من ثلاث وعشرين سنة، نزل عليه القرآن خلالها منجما، وهو المصدر الأول للتشريع، أما السنة فهي المصدر الثاني، ولا ثالث لهما في هذا العهد.