الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما عبد العزيز فوجده ثائر الرأس يصارع الصبيان ويغالبهم، فلا يدعهم يستريحون يقول أنا الأمير عليكم وبعدما سبرهم الرسول، وأقام في الكويت بضعة أيام رجع إلى حائل يحمل أخبار أولئك الأنجال
ما وجدت يا "بعد حي".
أيها الأمير وجدت أنجاله اثنين الذين يشار إليهما محمد الكبير عليه الحياء والسمت، ووجدت عبد العزيز ثائر الرأس يصارع الصبيان ويغالبهم فيغلبهم كأنه مجنون، والذين حواليه في عناء شديد منه، وقد يلبس العقال ويضرب بعصاه الأرض ويهذي قائلًا أترون صاحب هذا المحجان يحكم في نجد، وأما بقية الأنجال بعد عبد العزيز الذي عمره اثنتا عشرة سنة فصبية صغار لا معرفة لديهم، فانذعر محمد بن رشيد يقول "يلهن حيك" أيهم المصارع؟ فأجاب عبد العزيز هو عبد العزيز، عبد العزيز الذي يصارع، فجعل ابن رشيد يقول خف من المصارع، أنا أخشى ممن يصارع، أخشى من عبد العزيز ومصارعته، هذا كلام محمد بن رشيد بحروفه، ويعدّ من دهائه وغوره لأنه وقع ما كان يتوقعه.
ثم دخلت سنة 1310 ه
ـ
ففيها دعى الأمير محمد بن عبد الله بن رشيد بمحمد بن هندي إليه بعدما أضعف جانبه باستجلاب كثير من قومه، ولما حضر بين يديه جعل يتهدده ويتوعده كأنه قد بلغه ما يريبه عنه، وقام رجل من أتباع ابن رشيد يدعى الطوير موافقة للأمير، فجعل يتكلم في حق محمد بن هندي ويقول: كأني بالمغاتير والمجاهيم تؤخذ منك، وإني لأرجو أن أتولى نهبها من بين يديك، فرد عليه ابن هندي قائلًا: قبحًا لك وما حصلت عليه إذًا، إنك لم تحصل إلا على الخزي أخذك الله، وكان محمد هذا رجلًا تقيًا وذا عبادة، أضف إلى ذلك شجاعة تضرب الأمثال بها، فاستمر ابن رشيد في تأنيبه حتى قال له: يا ابن هندي انج بنفسك فلك الهربات، فقام من عند ابن رشيد بعد العصر، وسار معه أربعة من رجاله حتى أشرف على قومه وأدباشه
فأمرهم بحفظها، وذهب فارًا يريد النجاة، أما الأمير فإنه لم يمهله (1) بعد ما ذهب شد في طلبه تلك الليلة وجد في السير، وأمر جنوده بالنهب والسلب فشرعوا في أخذ ما مروا عليه، ولما أن أشرفوا على رعاياه كان من بينها المغاتير والمجاهيم قد جعل في كل رعية حارسين، فهما في وسط الرعية، فإذا قرب منها العدو خرج أحد الحارسين فرشقهم بالنبل، فإذا انكشفوا رجع داخلها، وهكذا وكان جنود ابن رشيد على تلك الصفة ولا يهملون محمد بن هندي فتراهم يطالعونه من خلفهم، فلما كان ذات مرة اجتمعوا وشدوا على إحدى الرعتين، فأخذوها فخرج الحارسان ودخلا في الأخرى فهم في جهاد وعلاج فعند ذلك أجمعوا أمرهم وحمل منهم مائتان على الأخرى وعزموا على أخذها، هذا ولا تزال أعينهم ترقب ابن هندي على البعد، فلا يغفلونه لمعرفتهم لسطوته، فلما غامروا الحرس، خرج صبي من بين الرعية ينادي بأعلى صوته قائلًا محمد بن هندي يا محمد بن هندي تكفى أخذت يا محمد بن هندي اخذت فلانة لعمانية مشهورة بسلامة النسب، عربية متولدة أبًا عن جد، قد نتجت وادخرت ليومها، فلم يشعر القوم إلا به قد صاح بأذن فرسه وأجلب وكانت فرسًا في أعينهم هطلًا، ولبتها تكاد تمس الأرض لضخامتها وهو يسير منهزمًا في بداية الأمر مع منخفض الأرض، فلما سمع النخوة شد عليهم وهو يصيح في آذانها، فصارت تلك الفرس كهيئة الذئب وأقبلت تعدو به كالطير فلم يشعر القوم إلا به كالأسد الوثوب الذي لا يطاق إذا صال، وعجب القوم لتلك الفرس كيف اجتمعت كذلك فرمى بالرمح واختطفه بالسيف فقطه نصفين وشد على إحدى القطعتين فضربها فقسمها إشارةً منه أن ما وصله هذا السيف لا ينجو، فعند ذلك فر ابن رشيد وقومه بخيلهم وركابهم وعدا محمد بن
(1) المهربات هي إمهال الرجل ثلاثة أيام في البلد يستعد للرحيل في خلال هذه الثلاثة الأيام، وبعد مضي هذه الثلاثة يقتله الأمير إذا تخلف، غير أن ابن رشيد لم يمهله بعد مقالته ولا يومًا واحد، بل شد في طلبه، نسأل الله السلامة والعافية، وفي قصة الأمير ابن هندي أكبر مثال من شجاعة العرب.
هندي فغمر الخيل من خلفها فقتل منهم خمسة عشر فارسًا، ونفرت خيلهم تجر أعنتها ولحق الطوير وشد عليه حتى ضربه بالصارم ضربة سقط لها شطره الأعلى، ولم يبق على الفرس سوى وركيه، ولبث محل القطع عشر دقائق أبيض لم يخرج منه دم، فجمع القوم خيلهم تباري الأمير خشية أن يسقط ليركب على الأخرى فتكون الخيل على استعداد هذا وهم يطيرون منهزمين.
قال: من حضر الواقعة أشهد بالله لرايته يعني محمد بن رشيد منبطحًا على ظهر جواده وهو يطير به ويقول اللهم اكفنا شره، يكررها فلم يشعر الفوارس إلا به قد جاءهم من أمامهم فتفرقوا شاردين فشد على الأمير وبعد ما أدركه من خلفه رفع السيف فوق أذنه يقول احفظها لي يا ابن رشيد، فانقلبوا بشرحال ورجع محمد بن هندي بما ناله من الخيل والإبل والسلاح شعرًا:
وما تريد بنو الأغيار من رجلٍ
…
بالجمر مكتحل بالليل مشتمل
لا يشرب الماء إلا من قلب دمٍ
…
ولا يبيت له جان بلا وجل
فلما كان بعد أيام بعث إليه ابن رشيد يقول: هل أنت مسالم أم محارب؛ فقال بل مسالم ولكنك اضطررتني لأن أكون محاربًا، فأمره أن يعرض طلبه وما يريد، فقال أريد جميع ما أخذتموه تردونه فرده عليه.
وفي هذه الأيام سكن الفارون من الجلائين الذي جلوا من القصيم ومن بينهم آل مهنا وآل سليم والشاعر العوني، واطمئنوا في الكويت ودمشق لاجئين هناك عن حكم آل رشيد.
وفيها ظهرت مواهب الأديب مصطفى كامل صاحب مصر وكان منظورًا إليه فيه بعين الإجلال والاحترام لدى المصريين ولدى معلميه وأساتذته لما امتاز به من حسن الإلقاء وفصاحة اللسان وصراحة القول عندهم واستقلال الفكر وكانوا يعجبون به ويتوقعون له مستقبلًا مجيدًا وسيأتي ذكره في سنة وفاته إن شاء الله تعالى.