الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تلقاه بالإكرام والاحترام والحفاوة، وأجلسه عنده كأكرم حشيم، وحقًا عليه محمد بن رشيد أن يكرم آل سعود، أليسوا سادته وأهل الفضل عليه وعلى آل بيته، وأقام في حائل حتى قدم في السنة التي بعدها.
وفي هذه السنة أزيلت قبتان في المسجد الحرام خلف بئر زمزم، وذلك لأنه لما دخل السيل في المسجد الحرام وأتلف كثيرًا من الكتب التي هناك اقتضى رأي ولاة الأمر في ذلك الوقت إلى نقل الكتب كما تقدم، وجعل محل القبتين رحبة في المسجد الحرام توسعة للمصلين فلم يبق لهما أثر، وهذا في بدء ولاية الشريف عون الرفيق، وكان شيخ الحرم إذ ذاك عثمان نوري باشا.
وفيها أزال عثمان المذكور بشيخ المسجد الحرام المزولة التي بصحن المسجد الحرام خلف زمزم، وجاء بساعتين كبيرتين يبلغ طول الواحدة منهما نحو مترين، فوضعهما في حجرة ملاصقة لباب بازان مما يلي منارة باب علي بالمسجد الحرام، ولا تزال الساعتان موجودتين غير أنهما صارتا غير صالحتين لعدم تعهدهما بالإصلاح، ولطول الزمان وتداول الأيدي عليهما.
ثم دخلت سنة 1302 ه
ـ
ففي محرم منها قدم محمد بن فيصل إلى بلد الرياض، وكان قدومه في خامس محرم راجعًا من عند الأمير محمد بنُ رشيد بهدية ثمينة لأخيه الإمام عبد الله بن فيصل من الأمير المذكور، وترك له بلدان الوشم وسدير.
وكان قد مدّ يديه عليهما كما أسلفنا، فقام الإمام عبد الله وعزل من أراد عزله من أمراء تلك البلدان وأبقى من أراد بقاءه منهم، فكثر الاختلاف منهم على الإمارة، وعظم الشقاق، وتغلب أهل البلدان على بلدانهم، فما تم نفوذ ابن سعود فيها ولا استقامت رعايته عليها، ولا تقلص عنها أمر ابن رشيد، بل زاد ذلك شقاقًا بينه وبين ابن رشيد، وكان هذا سببًا للمشاغبات والاضطرابات، وضعف أمر آل سعود بسبب تفرقهم واختلاف كلمتهم وكثرة تنازعهم.
وقد كان أولاد سعود يتحينون الوثبة على عمهم الإمام عبد الله، فكتب الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى رسالة أرسلها إليهم يناصح آل سعود ويحثهم فيها على الاجتماع والاتفاق والتناصر، وينهاهم عن التفرق والاختلاف مبينًا عاقبة الاختلاف، وما حصل بسببه عليهم من الذل والهوان، وخروج بلدانهم من أيديهم، وكيف طمع الأعداء بملكهم، وباح فيها بما لديه من النصح والتحسر مع الرسالة بقصيدة وهي هذه:
متى ينجلي هذا الدجى والدياجر
…
متى ينتهض للحق منكم عساكر
متى تنتهوا عن غمرة النوم والردى
…
وينهض لنصر الدين منكم أكابر
متى تتجدد دعوة حنفيةٌ
…
يكون لها بالصدع ناه وآمر
متى ترعوي منكم قلوب عن الردى
…
متى ينقضي هذا القلا والتهاجر
فحتى متى هذا التواني عن العلى
…
كأنكمو ممن حوته المقابر
وأموالكم منهوبةً وبلادكم
…
تبواها بالرغم منكم أصاغر
وأشياعكم في كل قطرٍ وبلدةٍ
…
أذلا حيارى والدموع مواطر
وأطفالكم هتكى تشتت شملهم
…
وساءت لهم حال إذ الجد عاثر
ممالكم قد قسموها ملوككم
…
وأنتم لها أحدوثةٌ ومساخر
فإن ذكرت أو ذكرت بعض ما مضى
…
أجابت ببيت ضمنته الدفاتر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
…
أنيس ولم سمر بمكة سامر
ألم يك للأسلاف منكم مناقب
…
ألم يك للأخلاف منكم مفاخر
وفي آيةٍ في الفتح قد جاء ذكركم
…
وقد حرر التفسير فيها أكابر
وفتيان صدق من رجال حنيفةٍ
…
بأيديهم سمر القنا والبواتر
يرون شهود البأس أربح مغنمٍ
…
لدى مأزقٍ فيه يرى النفع ثائر
فسل عنهم يوم الصبيحة الذي
…
به أنفخت للحق بصائر
وسل عنهمو يومًا به الطبعة التي
…
قد اشتهرت والله مولى وناصر
وسل عنهم يومًا بجانب جودةً
…
وليس لأمر حمد الله قاهر
فقد بذلوا غالي النفوس لربهم
…
وأمسوا لأيدي الأرذلين مجازر
فأبكيهمو بأعينٍ منك وأسبلى
…
دموعك والأجفان منك فواطر
ولا تتركي يا نفس شيئًا من الأسى
…
على مثلهم تنشق منك المرائر
أيا مفخر القوجاذدي إلباس والندى
…
أجيبوا جميعًا مسرعين وبادروا
على الله ذي الرحمن جمعًا توكلوا
…
أذيقوا العدا كأس الردى وتوازرو
أجيبوا جميعًا مسرعين إلى الهدى
…
فليس بكم إلا القلا والتشاجر
وأجدادكم أهل النباهة والعلا
…
إلا فاقتفوا تلك الجدود الغوابر
فكم لهمو يومًا به الجو مظلمٌ
…
وقد نشرت للحق فيه شعائر
وجدكم الأعلى لدى حومة الوغى
…
به قطعت للمعتدين دوابر
وكم لكم من فاتكٍ تعرفونه
…
أوائلكم معروفةً وأواخر
فما فارس الشهبا وما الحارث الذي
…
أباد لظاها والرماح شواجر
وإن ذكرت أركانكم ورؤوسكم
…
فإن أبا تركي ليس يغادر
فكم مشهدٍ كم معهدٍ تعرفونه
…
كما عرف أقوام باد وحاضر
فلله أيامٍ له ومحاسن
…
تشبه بالأعياد والأمر ظاهر
فلا تقنطوا من رحمة الله إنما
…
تجي محنة وإليه للخلق قاهر
عسى ولعل الله يأتي بلطفه
…
فلا بدع فيما قد أتته المقادر
فتشفى ليانات وتقضى مآرب
…
وتبهج فيما تشتهيه النواظر
وحسن ختام النظم صل مسلمًا
…
على المصطفى ماسح في الأفق ماطر
كذا الآل والأصحاب ماذرَّ شارق
…
وما غردت ورق وما ناح طائر
وفيها جرت محنة حبس لها بعض طلاب العلم، وسببها أنه لما كان ليلة الثلاثين من شعبان، تراءى الناس هلال رمضان، وكانت ليلة غيم فلم يره أحد سوى نساء لا يوثق برؤيتهن، ادعين رؤيته، فأمر الإمام عبد الله بن فيصل بالصيام، فصام وصام أهل البلد معًا، ولم يصم الشيخ عبد اللطيف ولا الإخوان الذي يدرسون عليه، وأصبح الشيخ عبد الله جالسًا للتدريس كعادته مفطرًا يقرء الطلاب حلقًا،
وتدار القهوة على الحاضرين والبخور والطيب، كذلك من دخل للاستماع، ووجد الشيخ والإخوان مفطرين يفطر تأسيًا بهم، فذهب بعض الناس من المرجفين إلى الإمام ثائري الرؤوس منتفخي الأشداق، واستثاروا جأشه فلم ير بدًا من أن يبعث إلى مجلس التدريس من يشتته، وألزم الناس بالصيام بعد إغلاق بيت الشيخ وإخراج الطلاب وحبس بعضهم.
وكان من جملة من حبس من أهل العلم سليمان بن سحمان، وكان الساعون بهذه المسألة مع ما قام بهم من الغيظ والحمق يرون صيام يوم الشك إذا حال دون منظر الهلال غيم أو قتر وهي رواية عن الإمام أحمد، أخذ بها بعض الأصحاب، ويكون ذلك احتياطًا ولم يذكروا أنه يضرب ويؤذي من لم يصم كحبسه ونحو ذلك.
والرواية الثانية: أنه لا يصام إلا برؤية هلال رمضان وإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا، وهذه الرواية هي الصحيحة، وعليها العمل وهو الراجح عند جمهور الأصحاب، وعليه تدل الأدلة الصحيحة فهذا هو الباعث لتلك المحنة.
ما كان لعبد الله بن فيصل أن يصوم أو يأمر بالصيام إلا بإذن من شيخ الطريقة وعالم الوقت ألا وهو الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وأن له مندوحة عن هذا الفعل السيء الذي يجرح العواطف، وقد لبث المسجونون من الصباح إلى وقت الظهر ثم أخرجوا بشفاعة والدة الإمام أثابها الله.
وقد قال الشيخ سليمان بن سحمان في ذلك الحادث يشكو إلى الله شماتة الأعداء:
لله عيش تقضي بالمسرات
…
وسلوةٌ وانشراحات وخيرات
والقلب ذو رغدٍ فيه وذو دعةٍ
…
قد انقضى بسعادات وراحات
ولم يقاس من الأهوال فادحةٍ
…
ولا أستهين بلوعات وروعات
في كل يوم أقاسي شدة وهنا
…
بعد الذي كان في عصر المسرات
استغفر الله عما كان من زلل
…
ومن خطأ تخطا بالمصيبات
وليس إلا إلى الرحمن منجعي
…
فهو العليم بأحوالي ونيات
وهو الرحيم وملجأ من يلوذ به
…
الكاشف الغم القاضي الحاجات
وقد ممدت حبالي راجيًا فرجا
…
ومنشدًا قبل داعٍ ذي امتحانات
فقلت مشتكيًا ما قال مبتهلًا
…
بالله مرتجيًا تفريج أزمات
فصل حبالي وأوصالي بحبلك يا
…
ذا الكبرياء وحقق فيك رغبات
أنا الذليل أنا المسكين ذو شجنٍ
…
أنا الفقير إلى رب السموات
أنا الكسير أنا المحتاج يا أملي
…
جد لي بفضلك واعف عن خطيئات
أنا الغريب فلا أهل ولا وطن
…
أنا الوحيد فكن لي في ملمات
أنا العبد الذي ما زلت مفتقرًا
…
إليك يا سيدي في كل حالات
لا أستطيع لنفسي جلب منفعةٍ
…
ولا عن النفس لي دفع المضرات
مالي سواك ولا لي عنك منصرفٌ
…
ذكراك في القلب قرآني وآيات
أنت القدير على جبري لوصلك لي
…
أنت العليم بأسرار الخفيات
أدعوك يا سيدي يا مشتكي حزني
…
يا جابري يا مغيثي في مهمات
فانظر إلى غربتي وارحم ضنا جسدي
…
يا راحم الخلق يا باري البريات
وقد دهيت فلم يسمع وقلت فما
…
أجدى لدي ناصري فاسمع شكايات
أنت المغيث وأنت المستعان ولا
…
تخفى عليك إرادتي وغايات
وناصري غاضني بل هاضني وشفا
…
أو غار قومٍ بغوا وأعظم لوعات
يا قادرًا قاهرًا من كان ذا عنت
…
أنت القدير لقهر الظالم العات
وقد شجيت فقلبي لا يصاحبني
…
من عظم هول الخطوب المجريات
وقول هذا الورى قد أدخلوه وكم
…
قد أخرجوه لمرات عديدات
لما انتصرت وعن نفسي دفعت أذًا
…
وقد ظلمت بأنواع الجنايات
يا رب فاغفر لمن لم يدر ما قصدوا
…
وما أراد الأعادي من مضرات
وأنت يا سيدي يا منتهي أملي
…
تدري وتعلم مقصودي ونيات
والراحم الكافل الكافي لآمله
…
الماجد الغاني الماحي لزلات
وما اقترفت وما قد كنت مجترحًا
…
من الذنوب فإني لذو الخطيات
وابسط بفضلك لي ما كنت آمله
…
يا من له الفضل محضًا في البريات
ومن له الجود والموجود أجمعه
…
والخلق والأمر ثم الكائن الآلي
وعبدك المشتكي والمرتجي فرجًا
…
لاطفه وارحمه وأحفف بالعنايات
وصل يا رب ما هب النسيم وما
…
غنى الحمام على أفنان أيكات
على النبي الأمين المصطفى شرفًا
…
والآل والصحب أصحاب الكرامات
ولما أن خرج الشيخ سليمان من السجن إنشاء قصيدة أخرى من هذا الموضوع تتضمن ما حصل عليه من الإهانة والسجن على غير ما مبرر، وباح بلسان الشكاية إلى الله عز وجل اعتداء المعتدين، وشماتة الأعداء الحاسدين، والقصيد من الطويل على قافية القاف فعلى من أحب الاطلاع عليها مراجعتها في ديوان الناظم فمن أبياتها:
على غير ذنبٍ موجب قد جنيته
…
يسوغ به للشامت القدح والقذف
فلو كان عن ذنب جناية من بغى
…
لما ليم من أخطاء على ماله يهف
ولكنه لا ذنب لي غير أنني
…
إلى الحق قد أصبو وللضد قد أجفو
وأبذل جهدي واجتهادي ومذودي
…
لقمع العداء إن جاءنا منهمو عنف
أناضل عن دين الهدى كل مبطلٍ
…
وأحمي حمى التوحيد إن سامه خسف
وأتبع أقوال الرسول وصحبه
…
على حسب علمي بالدليل الذي يصفوا
فإن كان ذا ذنبًا وأوجب ما ترى
…
فيا حبذا إنا غدًا سوف نصطف
لدى الملك الديان يوم معادنا
…
فيحكم لا حيف بل النصف الصرف
فيسألنا الرحمن جل جلاله
…
وكلٌ سيلقى بارزًا كل ما يقفوا
فهيء جوبًا أيها الخصم واعترف
…
بأن غدًا والله ينكشف السجف
فإن قصارى هذه الدار برهةً
…
ومن بعدها دارٌ بها سوف نلتف
ويجمعنا حشر ونشر وموقٌ
…
طويلٌ وأهوالٌ يقاسي بها اللهف