الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم دخلت سنة 1278 ه
ـ
ففيها وقع الاختلاف بين أهل عنيزة وبين الإمام فيصل رحمه الله.
وفيها في ثامن جمادى الأولى نزل على الحجاز سيل عظيم فدخل المسجد الحرام، وكان ذلك قبل صلاة الصبح، فلما أن دخل السيل في المسجد ارتفع الماء حتى بلغ قفل باب الكعبة المشرفة وغطى مقام المالكي، وتعطلت صلاة الجماعة خمسة أوقات، فلم يتمكن من الصلاة في المسجد الحرام ذلك اليوم أحد إلا أناس صلوا صلاة العصر على دكة باب الزيادة، وغرق خلق كثير في الحرم، وغرقت نفوس كثيرة أيضًا خارج الحرم، وأحصيَ الذين ماتوا في السيل من الأنفس البشرية، فكانوا فوق العشرين، وتخربت من هذه السيول أرض الأروقة ومماشي المسجد الحرام، وحاشية المطاف والله على كل شيء قدير، ودخل السيل في خزانة كتب نفيسة تحتوي على ثلاث آلاف وستمائة وثلاثة وخمسون كتابًا، وهذه الخزانة قبة كانت خلف بئر زمزم في الساحة الحصوة، فغرق كثير من الكتب التي فيها لأن شبابيكها قريبة من الأرض، ويشاهد أثر السيل في بقية كتبها إلى الآن، وهذه مثل السلوك للمقريزي، ونهاية الأرب للنويري ونحوهما، وليست هذه أول مرة تعبث فيها السيول بالكتب الموضوعة في داخل الحرم، فقد تقدم في غابر السنين لها نظائر كثيرة، وأنزل الله غيثًا في الخريف سالت منه بلدة أشيقر وتقطعت بعض أوديتها من شدة السيل، والنخيل إذ ذاك قد كثر الرطب ولم يختلف من ثمر النخل شيء في تلك السنة.
وفيها تم بناء جامع الهفوف الذي بناه الإمام فيصل في الأحساء، وقد أحسن الشيخ الأديب أحمد بن علي بن مشرف، حيث أرّخه في آخر هذه الأبيات التي امتدح فيها الإمام:
يا من أشاد جامعًا
…
لله في الأحساء عمر
به يسر كل من
…
لله مولانا شكر
من بعد أن خربه
…
كل ظلوم قد بطر
وليس من يعمره
…
كمن بتخريب أمر
بشراك يا عامر
…
غدًا ببيت من درر
في جنة عالية
…
ذات قصور وثمر
من أجل ذا تاريخه
…
محرر عز أغر
ولقد امتدح الشاعر الأديب أحمد بن علي إمام المسلمين بقصائد كثيرة، منها قصيدة ميمية بعثها إليه في هذه السنة أطنب في مدحه وعرض فيها بأن عماله ظلموا أهل الأحساء في الخرص، وقد احتوت على فصاحة وبلاغة، وأن الإمام فيصلًا أهل للمديح، ولولا خشية الإطالة لأتينا بها.
رجعنا إلى ذكر عنيزة فتقول: في شعبان وقع الحرب بينهم وبين الإمام فيصل رحمه الله، فأمر الإمام على البوادي أن يشنوا الغارة عليها، فأغار عليها آل عاصم في آخر شعبان وأخذوا أغنامًا، وأرسل الإمام سرية مع صالح بن شلهوب إلى بريدة وكتب إلى أمير بريدة آن ذلك عبد الرحمن بن إبراهيم يأمره أن يغير بهم على أطراف عنيزة، فلما كان في شهر رمضان أغاروا على عنيزة وأخذوا إبلًا وأغنامًا ففزعوا عليه، وحصل بينهم وبينه قتال وتكاثرة الأفزاع من أهل عنيزة، فترك لهم ابن إبراهيم ما أخذ منهم وانقلب راجعًا إلى بريدة.
ولما كان في شوال قدم إلى عنيزة محمد الغانم الذي كان من جملة قاتلي ابن عدوان، وكان قد ولي إمارة بريدة، ثم عزله الإمام كما تقدم، والمذكور من آل أبي عليان، فقدم من المدينة ليستثمر من هذا الاختلاف تشفيًا، فشجع أهل عنيزة على الحرب، وزين لهم السطوة على بلد بريدة نسأل الله العافية، فخرج أهالي عنيزة منها في خمس رايات وساروا قاصدين بريدة فدخلوها أخر الليل وأضحوا في وسط البلد وقصد بعضهم بيت مهنا الصالح أبا الخيل، وبعضهم قصد القصر، وفيه الأمير عبد الرحمن بن إبراهيم وعدة رجال من أهل الرياض ومعه صالح بن شلهوب وأصحابه فانتبه بهم أهل البلد ونهضوا إليهم من كل جانب فوضعوا فيهم
السيف وأخرجوهم من البلد، فانهزموا راجعين إلى بلدهم عنيزة، وقتل منهم عدة رجال، وإنما خصصوا في قصدهم لبيت مهنا لأنه قد ساعد وحسن لابن الإمام قتل عبد العزيز المحمد كما مر قريبًا.
ولما بلغ الخبر إلى الإمام فيصل في الرياض أمر على بلدان المسلمين بالجهاد وأرسل سرية إلى بريدة تقوية لجانب أميرها، وأمر السرية بالمقام فيها مع الأمير، ثم غزو الوشم وسدير بالمسير إلى بريدة واستعمل عليهم عبد الله بن عبد العزيز بن دغيثر أميرًا، فساروا إليها واجتمع عند ابن إبراهيم وابن دغيثر خلائق كثيرة، وكثرت الغارات منهم على أهل عنيزة، ثم إنه حصل بين الأميرين وبين أهل عنيزة وقعة في رواق فصارت الهزيمة على ابن إبراهيم ومن معه، وقتل من أتباعه نحو عشرين رجلًا من بينهم الأمير عبد الله بن عبد العزيز بن دغيثر، وقتل من أهل عنيزة عدة رجال، وبعد هذه الوقعة غضب الإمام على عبد الرحمن بن إبراهيم لأشياء نقلت عنه؛ فدعى به من بريدة إلى الرياض وأمر بقبض جميع ما عنده من المال، وفيها بعث الشيخ أحمد بن علي بن مشرف بقصيدة إلى الإمام فيصل يمتدحه بها ويثني عليه، وهذا نصها:
إذا أنت أجمعت المسير لتنجدا
…
فلا تعد قصرًا في الرياض مشيدا
بناه إمام المسلمين ولم يزل
…
يؤسس ما يبني على الدين والهدى
ترى حوله الأضياف تلتمس القرى
…
وقومًا يريدون المكارم والندا
فيرجع كل نائلًا ما يرومه
…
من العدل والإحسان والفضل والجدا
كريمًا يرى للمعتفين إذا أتوا
…
ومن يطلب المعروف حقًا مؤكدا
تعود بسط الكف طبعًا وإنما
…
لك امرئ من دهره ما تعودا
تعيش اليتامى والضعاف بنيله
…
ويروي حدود المرهفات من العدا
وهل يدرك العليا إلا مهذب
…
أضاف الإحسان سيفًا مجردا
فأكرم بهذا من إمام لقد حوى
…
عفافًا وإقدامًا وحزمًا وسؤددً
وقد سود المختار عمرًا لجوده
…
فحقًا لهذا بالندا أن يسود
تراه لفعل المكرمات مشمرًا
…
إذ الجود والإقدام للناس أقعدا
يخوض لظى الهيجاء فردًا وكفه
…
سحاب ندى يهمي لجينا وعسجدا
يعامل من يرعى برفق ورحمةً
…
ويقمع منهم من طغى وتمردا
إذا اجتاز قوم بالنوال أجازهم
…
فعاش بخير كلما راح أو غدا
هو العارض البراق يخشى ويرتجي
…
وأنشد به إن كنت للشعر منشدا
هو البحر غص فيه إذا كان ساكنًا
…
على الدر واحذره إذا كان مزبدا
فإن قست أهل العصر لم تر مثله
…
رئيسًا فسائل من أغار وأنجدا
أعد لمن رام الخلاف سليله
…
أبا النجم عبد الله كالليث مرصدا
فكم غارةً قد شنها بعد غارة
…
أصار بها شمل العدو مبددا
وصيرهم قسمين هذا مجندلًا
…
قتيلًا وهذا في الحديد مصفدا
وإخوانه مثل النجوم زواهر
…
ولا تنس منهم من يسمى محمدا
فأخباره مشهورة حين حاربت
…
قبائل في أرض القصيم تمردا
فأرداهمو بالبيض والسمر إذا أتوا
…
يقودهم للحتف من ليس مرشدا
وقائع أيمي النسا في عنيزة
…
وشيبن فيها كل من أمردا
وشد أخوه العضد منه بجيشه
…
فأطفى به الله الحروب وأخمدا
فروعًا كساها أصلها المجد فانتمت
…
إلى منصب عالٍ أعز وأمجدا
فشكرًا إمام المسلمين لخالق
…
حباك بإعزاز ونصر وأسعدا
فأحسن إلى من قد رعيت ولا تطع
…
بهم واشيًا مقصوده الغش والردا
يريكم لدى الإقبال نصح مودةٍ
…
وإن عضكم دهر يكن أكبر العدا
فلا ملك إلا بالرجال وإنما
…
يؤلفها بالمال من شأنه الندا
ولا مال إلا بالرعايا إذا نمت
…
وأنصفها الوالي بعدل وأرشدا
الخ
…
وهي طويلة.
وقال أيضًا الشيخ العالم أحمد بن علي في هذه السنة قصيدة يمتدح الإمام فيصلا فيها:
لك الحمد اللهم حمدًا مخلدا
…
على نعم لم تحص عدًا فتنفدا
فكم نعمة أو ليتنا بعد نعمةٍ
…
وفتح به قد صح من كان أرمدا
ونسأله التوفيق للشكر إنه
…
يكون لنعماء الإله مقيدا
على أن هدانا ثم ألف بيننا
…
بملك إمام واجتماع على الهدا
إمامًا به الرحمن أمن سبلنا
…
وكف يدي من كان في الأرض مفسدا
وقوَّم أركان الشريعة ناصرًا
…
بسمر القنا والبيض سنة أحمدا
سخيًا جريًا في الحروب وحازما
…
وما الملك إلا بالشجاعة والندا
يسير أعلام الجهاد خوافقًا
…
على نجله لا زال للدين منجدا
أبو النجم عبد الله ليثًا أعده
…
أبوه لمن أخطأ الصواب أو أعندى
إذا أفسد الأعراب في أي موطنٍ
…
أغار عليهم بالجيوش وأنجدا
فراياته منصورةٌ حيث يممت
…
وطالعه من أنجم السعد قد بدا
فلما بغت حرب على الناس واعتدوا
…
رماهم بحرب منهم الشمل بددا
وشتتهم كما دهاههم بفيلقٍ
…
من الخيل والفرسان كالبحر مزبدا
همو منحوه الأهل والمال إذ رأوا
…
له صارمًا ممضي ورمحًا مسددا
وولوا سراعًا هاربين كأنهم
…
نعام تراهم في المفاوز شردا
فحسبك من أيام نصر تتابعت
…
على يده ذلت بها سائر العدا
وكفت بها الأعراب عن سوء فعلهم
…
ودان بها وانقاد من قد تمردا
فكم قد أخافوا السبيل من قبل غزوه
…
وكم ريس منهم أغار وأفسدا
فأضحوا عن المال النفس أعفةً
…
ولو نظروا في الطرق درًا وعسجد
كذلك شأن السيف إن سل حده
…
يهاب ولا يخشى إذا كان مغمدا
فشكرًا إمام المسلمين لما جرى
…
من النصر والإعزاز لا زلت مسعدا
ولا زلت للإسلام كهفًا ومعقلًا
…
وسيفًا على هشام العدو مجردا
ودونك نظمًا من أديب يصوغه
…
إذا قال شعرًا أصبح الدهر منشدا
إذا شاعر أهدى لكم خرزاته
…
بعثنا إليكم لؤلؤًا وزبرجدا