الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن المناظر التي تولّد الحسرة وتحزن الفؤاد، رؤية شيخ هرم من الترك ملقى على الأرض إلى جانبه مصحف قد تلوث بدمه حتى ترك خمسة وسبعون ألف بيت خالية من السكان، وكان الأتراك شيوخًا وأطفالًا ونساءً يفرون فلا يستطيعون الفرار فينقض عليهم البلغاريون فيفتكون بأغلبهم حتى سميت بعض الطرق التي يفرون معها طريق الموتى لكثرة ما فيها من القتل.
ثم دخلت سنة 1296 ه
ـ
استهلت هذه السنة والكلمة متفرقة والجماعة مختلفة والأحوال تنذر بشرها وويلاتها، فكان على الخرج أبناء سعود بن فيصل، وعلى بريدة حسن بن مهنا، وعلى عنيزة زامل بن عبد الله، وعلى الرياض وما يليه الإمام عبد الله بن فيصل ومعه أخوه محمد وعبد الرحمن، هذا وعلى ناحية جبل طي الأمير محمد بن رشيد وقد اشتعلت بروقه وصلفت رعوده، يريد الاستيلاء على نجد كلها فأصبح يخطب الملك لنفسه وما كانت حائل لتقنعه إماراتها ولكن أين من ينتبه له، فهل كان آل سعود نيامًا أم يقظانًا أم قد اختلفوا فيما بينهم حتى ينفذ فيهم المقدور، فإن كان الإمام عبد الله قد أطاع له أخواه واستقروا في الرياض فكانوا يدًا واحدة، ففي الجو مكدر فهؤلاء أبناء أخي الإمام في الخرج مصرين على الخلاف والعناد، وهذا الأمير بن رشيد قد طمع في نجد لما تضعضع ملك آل سعود، فقد خسروا القصيم وجبل طي والأحساء والقطيف وغالب بلدان الجنوب، فأنشأ الشيخ سليمان بن سحمان رحمة الله عليه قصيدةً يمتدح فيها الإمام عبد الله بن فيصل ويحرضه على الانتباه والأخذ بالحزم في كبح ابن رشيد وينهضه لانتهاز الفرصة، وأن لا يغفل أمر العدى فمن نام عن غنمه تولى رعيها الأسد وكيف تنام العين في السفينة وقد شرع العابثون في أكل أحبالها:
أدم بالعوالي الطعن في الضدان جدا
…
وبالبيض قد للعدى تعتلي مجدا
ألا إنما العز الموطد والعلى
…
بظل المواضي والطلا للعدى غمدًا
فما أوهن العدو سوى البيض والقنا
…
وصيرهم الأبها آلة جندا
فلن تدرك الفوز الموطد بالمنى
…
ولكن أدم غزو العدا وأبذل الجهدا
وأعمل هديت اليعملات بداجنٍ
…
من الليل جوبًا للفلى وأحثت الوخدا
وفي ربعها عمدًا أنخها ولا تهب
…
وقد نحوهم جهرًا علانية جردا
لتدرك عزًا باذخًا متثلقًا
…
ويكبو حسيرًا خاسئًا ضدك الأردا
وليس ينال الفخر عاشق راحةٍ
…
ومستوطئ فرش التكاسل ما اعتدا
وليس شديد النخوة اليوم راضيا
…
بثوب الهوينا والعدا تلبس الحمدا
ويعتاض هونًا بالهوادة لابسًا
…
مهاودة الأبها جهرةً يردا
فعجز مدارة العدى بعد ما بدت
…
مظاهرةً منهم إذا لم تجد بدا
وإياك أن تغتر منهم بمنطقٍ
…
لبيبٍ فإن السم قد يمزج الشهدا
فليس يرجى صفو ودٍ لحاسدٍ
…
وهل يرجى صفو من الممتلي حقدا
ففيما مضى من مكرهم وخداعهم
…
دليلٌ وإرشادٌ لمن يتبع الرشدا
فبادر فهذي فرصة قد تمكنت
…
وعين العدا يقضا فلا تغتمظ رقدا
ومن لم تخف منه العدى في بلادها
…
أخافته في أوطانه واختضت غمدًا
ومن لم يشاركهم على كل ما هوى
…
فإن لهم قيمًا حوى ذلك القصدا
ومن طلب العليا تفضل وانتضا
…
لكل العدا عزمًا وعضبًا له قدا
وجانب لذات النفوس ولم تكن
…
له همةً دون العلى فارتقى مجدا
ومن رام عزا للرعايا وراحةً
…
أخاف الأعادي فانثنى فيهم رشدا
فإن رمت أن تحيا عزيزًا مؤيدا
…
وكل الرعايا بالفلى رتعًا رغدا
فجرد بحد سيف عزمك صاعدا
…
لنيل العلى قصدًا ورم هامها عمدا
وإن لها ساميًا على ذاك ينبي
…
لمن رام تشييدًا لما انحل وانهدا
ملازمة التقوى على كل حالة
…
فإن بها تقوى على كل من صدا
ومن أمعن النظر في الدولة الأموية وأسباب سقوطها التي قضت على عرشها بالذل والسلب، وجد ذلك راجعًا إلى أمور من أهمها إهمال أمر العدو وعدم المبالات بشأنه والاتكال إلى ما لدى الإنسان من القوة وعدم الأخذ بالفرصة
والحزم، فعلى الملك أن يأخذ بالحزم وينتهز الفرص ولا يغفل أمر العدو حتى يستفحل، فإن إطفاء الشرارة أهون من إطفاء الحريق، ولقد أحسن زهير بن أبي سلمى حيث يقول في معلقته التي لا يزال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلهج بها:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
…
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
وفيها وقفت الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا، وذلك لأنها لما رأت الدولة العثمانية أن أوربا ضدها وأن لا نصيب لها بين الدول وأن إطالة الحرب مضرة بها، طلبت من روسيا إيقاف الحرب وعقد هدنة للمخابرة في شروط الصلح، فقبلت روسيا ذلك بغاية الامتنان وعقدت الهدنة بين المتحاربين في [أدرنة] بتاريخ 30 يناير سنة 1878 م.
واشترطت روسيا عند عقد الهدنة أن القواعد الأولية للصلح يجب أن تكون استقلال المغرب ورومانيا وتنازل الدولة العثمانية لهما وللجبل الأسود عن بعض الأراضي، وجعل بلغاريا مستقلة استقلالًا إداريًا وجعل الإدارة في البوسنة والهرسك مستقلة، وتقدير غرامة حربية تدفعها تركيا لروسيا.
وما انتشر خبر هذه الإتفاقية التي عقدت في [أدرنة] بين المتحاربين حتى هاجت الخواطر في النمسا ضد روسيا، ورأت حكومة الأمبراطور فرنسو جوزيف أن هذه الشروط التي جبرت روسيا الدولة العثمانية على قبولها ماسة بحقوقها ومصالحها في البلقان وعلى شواطئ نهر الدانوب، فأعلنت الدول الأوربية بأنها تعتبر كل اتفاق يقع بين المتحاربين لاغٍ لا عمل له، وأن أوربا كلها يجب عليها أن تجتمع في مؤتمر للفصل بين تركيا وروسيا.
أما أنكلترا فقد أظهرت عندئذٍ ميلها للدولة العثمانية وتظاهرت بالمحبة والصداقة لملك آل عثمان، وأرسلت بأسطولها إلى ميناء البوسفور وهددت روسيا بإنزال العساكر الإنكليزية إلى الأستانة.
وسيرى القارئ إلى أي غاية كانت ترمي إنكلترا عندئذٍ، وهل كانت صادقة في
تظاهرها بالمودة للدولة العثمانية أو غير صادقة، وقد أجابت الحكومة الروسية على إعلان النمسا بأن ليس لأوربا حق في أن تتداخل في أمور لا تمس مصالحها مطلقًا، وأن روسيا تعرض على الدول عقد مؤتمر أوربي للنظر في شروط الصلح، وبعد هذا المؤتمر الذي عقد ببريل وعرضت فيه شروط الإتفاق التي منها أن الدولة تدفع لروسيا غرامة حربية قدرها 1400 مليون من الروبل وأنها قد تنازلت روسيا إلى 1100 مليونا من الروبل، فاعترف سواس الدول الأوربية لما علمت بهذه الشروط باعتداء روسيا على الدولة العثمانية شر اعتداء، وكان أشد الدول تهيجًا على روسيا هي النمسا لاتفاقية بينها وبين روسيا عقدت في السنة التي قبلها، فخابرت إنكلترا واتفقت معها على معارضة روسيا كل المعارضة، غير أن القيصر أجاب بأنه لا يرضى بأن دول أوربا تناقش في الشروط التي لا تخص إلا روسيا وتركيا.
ولما رأت روسيا أنه لا استطاعة لها على محاربة النمسا والإنكليز بعد محاربتها تركيا وقعت الإتفاقية، وبهذا خسرت الدولة العثمانية شيئًا كثيرًا من ممالكها، وسبب ذلك هو انخداعها للدول الأخرى بأنها ناصحة لها وهي غير ناصحة، لا سيما إنكترا فإنها لم تسعف الدولة العثمانية بشيء من الإسعافات في هذه الحروب سوى أن اشترطت على روسيا عند الشروع فيها بأنه لا يصل إلى الإنكليز ما يضر بمصالحها فيا عجبًا لهذه المناصرة.
وفيها عزم القاضي الشيخ سليمان بن علي بن مقبل على أن يسافر إلى مكة المشرفة يريد الحج وأظهر أنه سيستقر فيها مجاورًا بدعوى أنه كبر سنه وسئم من القضاء، وكان إذ ذاك قاضيًا في بريدة، ثم إنه أشار على أمير بريدة حسن بن مهنا أن يجعل على قضاء بريدة الشيخ الإمام محمد بن عبد الله بن سليم، وذكر للأمير ما لهذا الشيخ من المواهب والفضائل وأنه لا يقوم بأعباء هذه المسألة غيره، فبعث ابن مهنا إلى الشيخ محمد بن عبد الله وأحضره لديه وطلب منه القيام بهذه المهمة كما تقتضيه الظروف، فتولى الشيخ محمد القضاء في بلد بريدة، وكان موفقًا في أقضيته وتصديراته.