المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أحال علمه إلى الله فكأنه قال: لا أعلم حالهم (الَّذِي - تفسير الإيجي جامع البيان في تفسير القرآن - جـ ٢

[الإيجي، محمد بن عبد الرحمن]

فهرس الكتاب

الفصل: أحال علمه إلى الله فكأنه قال: لا أعلم حالهم (الَّذِي

أحال علمه إلى الله فكأنه قال: لا أعلم حالهم (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا): كالمهد، (وَسَلَكَ): حصل (لَكُمْ فِيهَا سُبُلا): تسلكونها (وَأَنزَلَ مِنَ السمَاءِ ماءً) أي: المطر (فَأَخْرَجنا بِهِ) قيل: تم كلام موسى وهذا من كلام الله، وقيل: من تمام كلام موسى لكن عدل إلى التكلم على الحكاية لكلام الله تنبيهًا على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال قدرته، وإيذانًا بأنه مطاع تذعن الأجناس المتفاوتة لمشيئته، ويمكن أن يكون كلام موسى، فأخرج بصيغة الغيبة لكن لما حكى الله قوله حكاه لفظًا بلفظ حتى انتهى إلى قوله:" فأخرجنا " غير الأسلوب إلى التكلم تنبيهًا على عظم قدره، وأنه أمر لا يدخل تحت قدرة غيره (أَزْوَاجًا): أصنافًا (مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى)؛ مفترقات جمع شتيت والنبات مصدر سمي به النابت فاستوى فيه الواحد والجمع فلهذا جاز وصفه بـ شَتَّى التي هي جمع وقيل شيء صفة أزواجًا (كُلُوا) أي: فأخرجنا قائلين كلوا (وَارْعَوْا أَنعَامَكُمْ) أي كلوا أنتم من النبات وأسرحوا أنعامكم فيها (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) ذوي العقول الناهية عن القبائح.

* * *

(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ‌

(55)

وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ

ص: 511

يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا

ص: 512

قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)

* * *

(مِنْهَا): من الأرض (خَلَقْنَاكُمْ): فإن أب الكل منها وعن بعض الملك يأخذ من تراب الأرض الذي قدر أن يدفن فيها فيذره على النطفة فيخلق منها (وَفيهَا نُعِيدُكُمْ): بالموت (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ): يوم البعث (تَارَةً أُخْرَى).

(وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا) أي: الآيات التي ظهرت على يد موسى (فَكَذَّبَ): الآيات وقال إنَّهَا سحر، (وَأَبَى): قبولها (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى): فيبقى لك ديارنا (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ): مثل سحرك (فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا) اسم مكان أو زمان (لا نُخْلِفُهُ) جعل المكان أو الزمان مخلفًا على الاتساع كيوم شهدناه (نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا) بدل من الموعد على الأول، وظرف لـ لا نخلفه على الثاني، وقيل مفعول أول لـ اجعل (سُوًى) منصفًا يستوى مسافته

ص: 513

إلينا وإليك أو عدلاً أو مستوىً يتبين الناس وما فيه فيه، (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ): يوم عيد لهم، وعن ابن عباس رضي الله عنه يوم عاشوراء إذا كان الموعد اسم زمان فهو ظاهر، وأما إن كان اسم مكان فهو كما تقول يوم عرفة في جواب أين أراك؟ أي: في عرفة فإن له مكانًا معينًا معروفًا (وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ)، عطف على اليوم والزينة (ضُحًى): في وقت الضحوة جهارًا في محضر الخلائق ليتضح الحق على رءوس الأشهاد ويشتهر، (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ) هو كما تقول ذهب يفعل كذا أي شرع فيه (فَجَمَعَ كَيْدَهُ): ما يكاد به من السحرة وآلاتها (ثُمَّ أَتَى): الموعد (قَالَ لَهُمْ): للسحرة (مُوسَى) وفي عددهم اختلاف كثير قيل سبعون رجلاً، وقيل ثمانون ألفًا أو ثلاثون أو تسعة عشر ألفًا، أو خمسة عشر ألفًا، أو اثنا عشر ألفًا (وَيْلَكُمْ لا تَفتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا)، بأن تخيلوا للناس ما لا حقيقة له، فتقولوا إنه مخلوق لله وأن تدعوا معجزاته سحرًا أو تدعوا له ندا (فَيُسْحِتَكُمْ): يستأصلكم (بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ): خسر (مَنِ افْتَرَى): على الله (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي: تشاجر السحرة سرًّا من فرعون في أمرهم فقائل منهم يقول ليس هذا بساحر إنما هو كلام نبي وقائل يقول بل هو ساحر (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) أي: تناجوا فيما بينهم (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ)، تفسير لـ أَسَرُّوا النَّجْوَى وهذا من اسم إن لغة من يجعل التثنية غير مختلف في الرفع والنصب والجر، أو تقديره أنه هذان لساحران (1) (يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِن أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتكُم الْمُثْلَى): بملككم وعيشكم الذي أنتم فيه أو بأشراف قومكم أو بدينكم الذي هو أمثل الأديان، (فأَجْمِعوا كَيْدَكُمْ) أي: أحكموا واعزموا كلكم على كيدهما مجتمعين لهما (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا): مصطفين فإنه أهيب في عين الرائين، وهذا قول بعض السحرة لبعضهم (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى): فإن

(1) قال العلَّامة السمين ما نصه:

قوله: {إِنْ هذان} : اختلف القُرَّاءُ في هذه الآيةِ الكريمة: فقرأ ابن كثيرٍ وحدَه «إنْ هذانِّ» بتخفيف إنْ، والألفِ، وتشديدِ النون. وحفصٌ كذلك إلَاّ أنه خَفَّف نونَ «هذانٍ» . وقرأ أبو عمرو «إنَّ» بالتشديد «هذين» بالياء وتخفيفِ النون. والباقون كذلك إلَاّ أنهم قَرَؤوا/ «هذان» بالألف.

فأَمَّا القراءةُ الأولى وهي قراءةُ ابنِ كثير وحفص فأوضحُ القراءاتِ معنىً ولفظاً وخَطَّاً؛ وذلك أنهما جعلا «إنْ» المخففةَ من الثقيلة فَأُهْمِلَتْ، ولَمَّا أُهْمِلَتْ كما هو الأفصحُ مِنْ وجهيها خِيْفَ التباسُها بالنافية فجيء باللامِ فارقةً في الخبر. ف «هذان» مبتدأٌ، و «لَساحران» خبرُه، ووافَقَتْ خَطَّ المصحفِ؛ فإن الرسم «هذن» بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ وسيأتي بيانُ ذلك.

وأمَّا تشديدُ نونِ «هذان» فعلى ما تقدَّم في سورةِ النساءِ، وقد أَتْقَنتُ ذلك هناك.

وأمَّا الكوفيون فيزعمون أنَّ «إنْ» نافيةٌ بمعنى ما، واللامُ بمعنى إلَاّ، وهو خلافٌ مشهورٌ وقد وافقَ تخريجُهم هنا قراءةَ بعضِهم «ما هذانِ إلَاّ ساحران» .

وأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فواضحةٌ من حيث الإِعرابُ والمعنى. أمَّا الإِعرابُ ف «هذَيْن» اسمُ «إنَّ» وعلامةُ نصبِه الياءُ. و «لَساحِران» خبرُها، ودخَلَتِ اللام توكيدًا. وأمَّا مِنْ حيث المعنى: فإنَّهم أَثْبتوا لهما السحرَ بطريق تأكيديٍّ من طرفيه، ولكنهم استشكلُوها من حيث خَطُّ المصحفِ؛ وذلك أنَّ رَسْمَه «هذن» بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ، فإثباتُه بالياءِ زيادةٌ على خطِّ المصحفِ. قال أبو إسحاق:«لا أُجيز قراءةَ أبي عمرو لأنَّها خلافُ المصحفِ» . وقال أبو عبيد: «رأيتُهما في الإِمام مصحفِ عثمان» هذن «ليس فيها ألفٌ، وهكذا رأيتُ رفعَ الاثنين في ذلك المصحفِ بإسقاط الألفِ، وإذا كتبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء، ولا يُسْقِطونها» .

قلت: وهذا لا ينبغي أَنْ يُرَدَّ به على أبي عمرو، وكم جاء في الرسم أشياءُ خارجةٌ عن القياسِ، وقد نَصُّوا هم أنه لا يجوزُ القراءةُ بها فليكنْ هذا منها، أعني ممَّا خَرَجَ عن القياس. فإن قلتَ: ما نَقَلْتَه عن أبي عبيد مشتركُ الإِلزامِ بين أبي عمروٍ وغيرِه، فإنهم كما اعترضوا عليه بزيادةِ الياء يُعْترض عليهم بزيادةِ الألفِ: فإنَّ الألفَ ثابتةٌ في قراءتِهم، ساقطةٌ من خَطِّ المصحفِ. فالجواب ما تقدَّم مِنْ قولِ أبي عبيدٍ أنهم رآهم يُسْقِطون الألفَ مِنْ رفع الاثنين، فإذا كتُبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء.

وذهب جماعةٌ منهم عائشةُ رضي الله عنها وأبو عمروٍ إلى أن هذا ممّا لَحَنَ فيه الكاتبُ وأُقيم بالصواب.

يَعْنُون أنه كان مِنْ حقه أن يكتبَه بالياءِ فلم يفعلْ، فلم يقرَأْه الناسُ إلَاّ بالياءِ على الصوابِ.

وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجه، أحدُها: أن «إنَّ» بمعنى نَعَمْ، و «هذان» مبتدأٌ، و «لَساحران» خبرُه، وكَثُرَ ورودُ «إنَّ» بمعنى نعم وأنشدوا:

3297 -

بَكَرَ العَواذِلُ في المَشِيْ

بِ يَلُمْنَني وأَلوْمُهُنَّهْ

ويَقلْن شَيْبٌ قد عَلا

كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ

أي: فقلت: نَعَمْ. والهاءُ للسَّكْتِ. وقال رجلٌ لابن الزبير: لَعَن اللهُ ناقةً حَمَلَتْني إليكَ. فقال: «إنَّ وصاحبَها» أي: نعم. ولَعَنَ صاحبَها. وهذا رأيُ المبردِ وعلي بن سليمان في آخرين. وهو مردودٌ من وجهين، أحدهما: عدمُ ثبوتِ «إنَّ» بمعنى نعم، وما أوردُه مُؤَوَّلٌ: أمَّا البيتُ فإنّ الهاءَ اسمُها، والخبرَ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرُه: إنه كذلك. وأمَّا قولُ ابنِ الزبير فذلك مِنْ حَذْفِ المعطوفِ عليه وإبقاءِ المعطوف وحَذْفِ خبر «إنَّ» للدلالةِ عليه، تقديره: إنَّها وصاحَبها ملعونان، وفيه تكلُّفٌ لا يَخْفَى والثاني: دخولُ اللامِ على خبرِ المبتدأ غيرِ المؤكَّد ب «إنَّ» المكسورةِ، لأَنَّ مثلَه لا يقعُ إلَاّ ضرورةً كقولِه:

3298 -

أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوْزٌ شَهْرَبَهْ

تَرْضَى من اللحمِ بعظمِ الرَّقَبَهْ

وقد يُجاب عنه: بأنَّ «لَساحِران» يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ دَخَلَتْ عليه هذه اللامُ تقديرُه: لهما ساحران. وقد فعل ذلك الزجاج كما ستأتي حكايتُه عنه.

الثاني: أنَّ اسمَها ضميرُ القصةِ وهو «ها» التي قبل «ذان» وليست ب «ها» التي للتنبيهِ الداخلةِ على أسماءِ الإِشارةِ، والتقدير: إنَّ القصةَ ذانِ لساحران. وقد رَدُّوا هذا من وجهين، أحدهما: من جهةِ الخَطِّ، وهو أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن تُكتبَ «إنها» فيصِلوا الضميرَ بالحرفِ قبلَه كقوله تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبصار} [الحج: 46] فكَتْبُهم إياها مفصولةً من «إنَّ» متصلةً باسمِ الإِشارة يمنع كونَها ضميرًا، وهو واضح. الثاني: أنَّه يؤدِّي إلى دخولِ لامِ الابتداءِ في الخبرِ غيرِ المنسوخِ. وقد يُجاب عنه بما تقدَّم.

الثالث: أنَّ اسمَها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ، والجملةُ من المبتدأ والخبرِ بعدَه في محلِّ رفعٍ خبرًا ل «إنَّ» ، التقديرُ: إنَّه، أي: الأمرُ والشأنُ. وقد ضُعِّفَ هذا بوجهين، أحدهما: حَذْفُ اسمِ «إن» ، وهو غيرُ جائزٍ إلَاّ في شعرٍ، بشرطِ أَنْ لا تباشرَ «إنَّ» فعلاً كقولِه:

3299 -

إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكنيسةَ يومًا

يَلْقَ فيها جَآذرًا وظِباءَ

/ والثاني: دخولُ اللام في الخبرِ.

وقد أجابَ الزجَّاج بأنها داخلةٌ على مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: لهما ساحران. وهذا قد استحسنه شيخُه المبردُ، أعني جوابَه بذلك.

الرابع: أنَّ «هذان» اسمُها، و «لَساحران» خبرُها. وقد رُدَّ هذا بأنه كان ينبغي أَنْ يكونَ «هذين» بالياءِ كقراءةِ أبي عمرو.

وقد أُجيب عن ذلك: بأنه على لغةِ بني الحارثِ وبين الهُجَيْم وبني العَنْبر وزُبَيْد وعُذْرَة ومُراد وخَثْعَم. وحكى هذه اللغةَ الأئمةُ الكبارُ كأبي الخَطَّاب وأبي زيد الأنصاري والكسائي. قال أبو زيد: «سمعتُ من العربِ مَنْ يَقْلِبُ كلَّ ياءٍ ينفتح ما قبلها ألفًا» ، يجعلون المثنى كالمقصورِ فيُثْبِتون ألفًا في جميع أحواله، ويُقَدِّرون إعرابَه بالحركاتِ، وأنشدوا قولَه:

3300 -

فأَطْرَق إطْراقَ الشُّجاعِ ولو يرى

مَسَاغاً لِناباه الشُّجاعُ لصَمَّما

أي: لنابَيْه. وقولَه:

3301 -

إنَّ أباها وأبا أباها

قد بَلَغا في المجدِ غايتاها

أي: غايتيهما، إلى غير ذلك من الشواهد.

وقرأ ابن مسعود: «أنْ هذان ساحِران» بفتح «أَنْ» وإسقاط اللامِ: على أنها وما في حَيِّزها بدلٌ من «النجوى» كذا قاله الزمخشري، وتبعه الشيخ ولم ينكره. وفيه نظرٌ: لأنَّ الاعتراضَ بالجملة القولية بين البدلِ والمبدلِ منه لا يَصِحُّ. وأيضًا فإنَّ الجملةَ القوليةَ مفسرةٌ للنجوى في قراءةِ العامَّة، وكذا قاله الزمخشريُّ أولاً فكيف يَصحُّ أَنْ يُجْعَلَ «أنْ هذان ساحران» بدلاً من «النجوى» ؟. اهـ (الدر المصون في علوم الكتاب المكنون. 8/ 63 - 68)

ص: 514

من غلب، (قَالُوا يَا مُوسَى)، بعدما جمعوا كيدهم وأتوا، (إِمَّا أَن تُلْقِيَ): عصاك أولاً، (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى)، ما بعد أن منصوب بمحذوف أي: اختر إلقاءك أو إلقاءنا أو مرفوع أي: الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا. (قَالَ بَلْ أَلْقُوا)، قيل: لما علم ميلهم إلى البدء أمرهم به وليشعر علية تغيير نظمهم عن إما أن تلقي إلى أو أن نكون أول من ألقى (فَإِذَا حِبَالُهُمْ)، إذا للمفاجأة أي: فألقوا فإذا حبالهم (وَعِصِيُّهُمْ)، جمع عصى (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)، وتحريكها ما كان إلا بحيلة وحاصل الكلام فألقوا ففاجأ موسى تخيله وقت تخيل سعى حبالهم وعصيهم من سحرهم ومن قرأ تخيل بالتاء فقوله: أنها تسعى بدل اشتمال من ضميره الراجع إلى الحبال والعصي قيل لطخوا بالزئبق فلما ضربت عليهما الشمس اضطربت. (فَأَوْجَسَ): أضمر (فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى): من أن يلتبس الأمر على القوم فلا يتبعونه وقيل من: طبع البشرية ظن أنها تقصده (قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى)، وهذا مشعر ومؤيد للوجه الأول، وإلا فالمناسب أن يقال لا تخف إنك آمن (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) لم يقل عصاك تحقيرًا لها أي العويدة التي في يدك ولا تبال بعصيهم (تَلْقَفْ) تبتلع جواب الأمر وقراءة تلقف بالرفع أي: تتلقف فبالحال أو الاستئناف. (ما صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا) أي: إن الذي زوروا (كَيْدُ سَاحِرٍ)، وحد الساحر لأن المراد به الجنس، وقراءة سِحْرٍ كعِلْمُ فِقْهٍ بأن الإضافة للبيان أو جعل الساحر سحر للمبالغة (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيثُ أَتَى): حيث كان (فأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا)

ص: 515

أي: ألقى موسى عصاه فتلقفت فألقى ذلك السحرة على وجوههم ساجدين لله (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَموسَى)، وعن بعض لما سجدوا رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها (قَالَ) فرعون:(آمَنتمْ به) أي: لموسى واللام لتضمين معنى الاتباع (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكمْ): في اتباعه (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ): أستاذكم (الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ) أي: مختلفات من اليد اليمني ومن الرجل اليسرى، ومن للابتداء، فإن القطع ناشئ من مخالفة العضو العضو. أي: من وضع المخالفة فقد لابس المخالفة أيضًا وقيل من أجل خلاف ظهر منكم (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي: عليها شبه تمكن المصلوب بالجذوع [بتمكن] المظروف بالظرف، فقال: في جذوع (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا): أنا أو موسى وأراد به الهزء فإنه لم يكن من التعذيب في شيء وقيل أينا أي؛ أنا أو رب موسى الذي آمنتم به (أَشَدُّ عَذابًا وَأَبْقَى قَالُوا لَن نُؤْثِرَكَ): نختارك، (عَلَى مَا جَاءَنَا) الضمير لما (مِنَ الْبَيِّنَاتِ): المعجزات (وَالَّذِي فَطَرَنَا)، عطف على ما جاءنا وقيل قسم (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) أي: قاضيه يعني اصنع ما تصنع (إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَ) أي: إنما لك تسلط في دار الزوال ونحن قد رغبنا في دار القرار (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) أخذ فرعون أربعين غلامًا من بني إسرائيل، وأمر بتعليم

ص: 516

السحر لهم كارهين، وهم الذين قالوا ذلك، وقيل لما رأى السحرة عصاهُ يحرس موسى وهو نائم قالوا لفرعون: إن هذا ليس بساحر فأبى إلا المعارضة (وَاللهُ خَيْرٌ): جزاءً أو لنا منك (وَأَبْقَى) عقابًا أو لنا فإنك فانٍ. (إِنَّهُ) الضمير للشأن (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا): بأن يموت كافرًا (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا): فيستريح (وَلَا يَحْيَى): حياة مرضية وهذه الجملة إما من تمام قول السحرة وإما ابتداء كلام من الله، وفي مسلم وغيره وإما أناس تصيبهم النار بذنوبهم، وليسوا من أهلها فيميتهم إماتة حتى يصيروا فحمًا يقوم الشفعاء فيشفعون فيؤتى بهم نهرًا يقال له الحياة فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل. (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) وفي مسند أحمد والترمذي: قال عليه السلام: " في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة " (جَنَّاتُ

ص: 517