الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (67)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].
قوله تعالى: {مَا} نافية، و {قَدَرُوا} بمَعنَى: عظَّموا، ولَفْظ الجلالة مَفعول لـ (قَدَروا)، و {حَقَّ قَدْرِهِ} مَفعولٌ مُطلَق؛ لأنه أُضيف إلى المَصدَر، والمُضاف إلى المَصدَر يُسمَّى مَفعولًا مُطلَقًا؛ لأنه بمَنزِلة المَصدَر، وعلى هذا فنَقول:{حَقَّ قَدْرِهِ} أي: حقَّ تَعظيمه.
قال المُفسِّر رحمه الله: [ما عرَفوه حَقَّ مَعرِفته، أو ما عظَّموه حقَّ عظَمَته حين أَشرَكوا به غيرَه]، والصَّواب: الثاني: أن المَعنَى: ما عظَّموه حقَّ عظَمته حين أَشرَكوا به غيره، لأن من عَظَّم الله تعالى حقَّ تَعظيمه لا يُمكِن أن يُشرِك به أحَدًا.
ودليلُ ذلك: أن هؤلاءِ عرَفوا الله تعالى كما في قوله تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، وقوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38]، لكن لم يُعظِّموا مَن عرَفوه حقَّ تَعظيمه، وهذا هو الذي نَفاه الله تعالى هنا.
ثُمَّ قال تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الواو للحال، ويَجوز أن تَكون استِئْنافية؛ لبيان عظَمة الله تعالى.
وقوله تعالى: {الْأَرْضُ} مُبتَدَأ، و {جَمِيعًا} حال، و {قَبْضَتُهُ} خبَر المُبتَدَأ؛ يَعنِي: أن الأرض كلَّها جميعًا - كل الأرَضين السَّبْع - تَكون يوم القيامة قَبْضتَه؛ قال المُفسِّر رحمه الله: [{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا} حال؛ أيِ: السَّبْع]، فقوله تعالى:{جَمِيعًا} حال من {الْأَرْضُ} .
وبهذا نَعرِف أنه يَجوز مجَيءُ الحال من المُبتَدَأ قبل الإتيان بالخَبَر، فتَقول مثَلًا: زيدٌ قائِمًا خيرٌ منه قاعِدًا.
وقوله رحمه الله: [{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} أي: مَقبوضةٌ له، أي: في مُلْكه وتَصرُّفه] فسَّر المُفَسِّر رحمه الله القَبْض بمَعنى المُلْك والتَّصرُّف، وفي هذا نظَرٌ ظاهِر، بل هذا تَحريف؛ لأن المُلْك والتَّصرُّف كل شيء في مُلكه وتَصرُّفه الأرض والسماء يومَ القيامة وقبلَ يوم القيامة، لكن القَبضة بمَعنَى: المَقبوضة التي تَكون في اليَدِ تُحيط بها اليد.
فيُقال مثَلًا: قبضةٌ من طعام؛ بمَعنَى أن الإنسان يَقبِض الطعام بيَدِه، فالأرض يوم القِيامة قَبْضة الله عز وجل، وقد جاء ذلك مُبيَّنًا في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قِصَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم مع حَبْرٍ من أحبار اليَهود أن الله تعالى يَجعَل الأرض على إِصبَع والشجَر على إِصبَع والجِبال على إِصبَع
…
إلخ (1).
فالصوابُ المُتعيَّن: أن يُقال: المُراد بالقَبْضة أنها في قَبْضة يَدِه عز وجل.
فإن قال قائِل: وهل يَجوز لنا أن نُمثِّل هذه القَبضةَ بحيث نَأخُذ تَمرةً أو تُفَّاحة ونَضَعها في أيدينا، ونَقول: قَبْضَتُه ثُم نَقبِض على التُّفَّاحة أو التَّمرة؟
(1) أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} ، رقم (7451)، ومسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، رقم (2786).
الجَوابُ: لا؛ لأنَّنا لو فعَلْنا ذلك لكان هذا تَمثيلًا لقَبْضة الله عز وجل للأرض، وهذا لا يَجوز، أمَّا أن نُبيِّن مَعنَى القبضة فلا بأسَ بأن نَقول: القبضة هي وَضْع الشيء في اليد ثُمَّ قَبْضه بها، لكن نُكيِّف كيف قبَضَ الله عز وجل على الأرض، هذا خِلاف مُعتَقَدِ أهل السُّنَّة والجماعة، كما هو معروف.
فإن قال قائِل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قرَأَ قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] وَضَع إِصبَعه على عَيْنه وأُذُنه (1)، فهل يَجوز مثل هذا في قوله تبارك وتعالى:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} ؟
فالجَوابُ: الجمع بينهما أن ما جاءت به السُّنَّة نَأخُذ به، وما لا فالأصل المَنْع، فأنت إذا قبضت شيئًا بيدك، فواضِح أنك كيَّفْت، لكن نَقول:{قَبْضَتُهُ} : أن تَكون هذه الأرضُ جميعًا في يدِ الله عز وجل، أمَّا (كيف) فاللهُ تعالى أَعلَمُ.
فيَجِب أن نَعلَم أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعَل هذا تَحقيقًا لا تَكييفًا، فهو يُحقِّق مَعنَى السمع والبصَر، سَمْع وبَصَر حَقيقيٌّ.
وعلى كل حال: نَقتَصِر في هذا على ما ورَد مهما كان الأمرُ.
ومثل هذا في صِفة الطَّي والقبض، فنَقول: يَطوِي ويَقبِض، والله تعالى يَقدِر ويَبسُط، كما في قوله تعالى.
فإن قال قائِل: ما حُكْم مَن يَقول: (بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِن أَصابِعِ الرَّحْمَنِ) فيُشِير بإِصْبعيه؟
فالجَوابُ: هو لا يَستَطيع أن يُحدِّد أيَّ الأصابع، ثُمَّ إذا أَشار فقد يَفهَم الرائِي
(1) أخرجه أبو داود: كتاب السنة، باب في الجهمية، رقم (4728)، من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
أن أصابع الرحمن عز وجل مُباشِرة للقَلْب، وليس كذلك، فالقلب بين إِصْبَعين من أصابع الرحمن (1)، لكن لا نَقول: إنه مُباشِر.
فإذا قال قائِل: كيف يُعقَل أن يَكون القلب بين إِصبَعين من أصابع الرحمن بدون مُباشَرة؟
قلنا: استَمِع لقول الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، السَّحاب مُسخَّر بين السماء والأرض، فهل هو مُباشِر للسماء والأرض؟
الجوابُ: لا، فلا يَلزَم من البَينية المُباشَرة، فلا يَجوز أن يُعيِّن إِصبَعين، لأنه إذا فعَل لزِم من ذلك أنه جزَم بأنه بين هذَيْن الإِصبَعين.
وقوله تعالى: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ظَرْف للقَبْضة، أي: أنها تَكون قبضةً له يوم القِيامة، ويوم القِيامة هو اليوم الذي يُبعَث الناسُ من قبورهم لله عز وجل، وسُمِّيَ بهذا الاسمِ لوجوهٍ ثلاثةٍ: لقيام الناس من قُبورهم لربِّ العالَمين؛ ولإقامة العَدْل؛ ولقِيام الأشهاد؛ لقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
وقوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [مجَموعات بيَمينِه وقُدْرته].
قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ} الطَّيُّ مَعروف: عَطْف الثَّوْب بعضِهِ على بعضٍ يُسمَّى: طيًّا، ومنه طيُّ الورَقة، فإذا فرَغ الكاتِب منها طواها، يَعنِي: عطَف
(1) أخرجه مسلم: كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، رقم (2654)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
بعضَها على بعضٍ، وقد شبَّه الله عز وجل طيَّه للسَّمَوات بطيِّ السِّجِلِّ للكتُب، فقال جَلَّ وَعَلَا:{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104]، فتَبارَك اللهُ ربُّ العالَمين!.
فهذه السماءُ العَظيمة الواسِعة الأَرْجاء التي ورَد أن سُمْكها خَمسُ مئة عامٍ، يَطوِي الله عز وجل هذه السمواتِ كما يَطوِي السجِلُّ الكتُبَ، أو كما يُطوَى السجلُّ الكتُبَ {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} يَعني: كما يَطوِي السجِلُّ وهو كاتِب القاضي، أو كما يُطوى السجِلُّ الذي تُكتَب به القضايا، فالطيُّ مَعروف قُلنا: إنه عَطْف الثوب بعضِه على بعضٍ، أو الورَقة، وما أَشبَه ذلك.
وقوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ} أَتَى بصيغة اسم المَفعول للعِلْم بالطاوِي وهو الله سبحانه، كما تُفسِّره الآياتُ الأخرى {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} .
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{مَطْوِيَّاتٌ} مَجموعاتٌ] وهذا فيه نظَر؛ لأننا: نَقول هي مجَموعةٌ طيًّا، وإذا فسَّرْناها بالمَجموعات فإننا لم نُفسِّر تَفسيرًا دقيقًا؛ لأن الشيء قد يَكون مَجموعًا بلا طيٍّ، ولكن إذا كان مَطويًّا فهذا مَعنًى زائِدٌ على مُجرَّد الجَمْع، فالصواب أن يُقال:{مَطْوِيَّاتٌ} أي: مَلفوفٌ بعضُها إلى بعضٍ.
وقوله رحمه الله: [{مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} بقُدْرته] وهذا تَحريف على مَذهَب مَن لا يُؤمِنون بصِفات الله سبحانه وتعالى الخبَرية، والصوابُ: أن المُراد باليَمين اليدُ اليُمنَى يَطويها جَلَّ وَعَلَا بيَدِه اليُمنى.
فإن قال قائِل: إنه وَصْف في السُّنَّة أن كِلتا يدَيِ الله عز وجل يَمين، فما فائِدة ذِكْره في الآيةِ:{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ؟
فالجَوابُ: كما تَقدَّم وقُلْنا: لله تعالى يَدٌ يمين ويدٌ شِمال، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ"(1)، يَعنِي: من اليُمن وهو البرَكة؛ ولدَفْع تَوهُّم أن تَكون اليد الأُخرى ناقِصةً؛ لأن اليَدَ الشِّمال بالنِّسبة لنا ناقِصة عن اليَد اليمين، وقد أَفتَى شيخ الإسلام مُحمَّدُ بنُ عبد الوهَّاب رحمه الله في آخِر (كتاب التوحيد) فقال: وفيه التصريح بالشِّمال لله عز وجل (2).
قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ} اسمُ مَصدَر، وفِعْله: سبَّح، والمَصدَر: تَسبيحٌ، واسمُ المَصدَر: سُبحانَ، وهو مَنصوب على المَفْعولية المُطلَقة دائِمًا، ومُلازِم للإضافة غالِبًا.
وعلى هذا فلا يُخطِئ المَرء في إعرابه؛ فيُعرِبه دائمًا على أنه مَفعول مُطلَق لفِعْلٍ مَحذوف، والتَّقدير: يُسبِّح تَسبيحًا.
وقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تَنزيهًا له، فقَدْ فسَّرْنا كلمة التَّسبيح من حيث التَّصريف، أمَّا مَعنَى التسبيح: التَّنزيه؛ لأنه مِن سبَح يَسبَح إذا بَعُد في الماء، فالتَّنزيهُ: الإبعاد عن السُّوء؛ وعلى هذا فمَعنَى: (سُبحانَ اللهِ) أي: تَنزيهًا له، ويُنَزَّه الله تعالى عن شيئين:
1 -
عن مُماثَلة المَخلوق.
2 -
وعن كل نَقْص وعَيْب في صِفاته.
فمثَلًا: قُدْرته مُنَزَّهة عن العَجْز، وعِلْمه مُنزَّهٌ عن الجَهْل والنِّسْيان، وقوَّتُه مُنزَّهة عن الضَّعْف، ويَدُه مُنزَّهة عن مُماثَلة المَخلوقين، ووجهُه كذلك، وهلُمَّ جَرًّا.
(1) أخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب فضل الإمام العادل، رقم (1827)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(2)
كتاب التوحيد (ص 150).
الخُلاصةُ: أن تَنزيه الله عز وجل يَعود إلى شيئين:
الأوَّل: مُماثَلة المَخلوق.
والثاني: العَيْب والنَّقْص.
والدليلُ على أن الله تعالى مُنزَّهٌ عن النَّقْص: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]، وقوله تعالى:{وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، أي: من تعَبٍ وإِعياءٍ.
والدليل على تَنزُّهِه عن المُماثَلة قولُه تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
مَسأَلةٌ: لماذا قُلْنا: "يُنزَّه الله تعالى عن كل نَقْص وعن المُماثَلة" أليسَتِ المُماثَلة نقصًا؟
فالجَواب: أن النقص شيء والمُماثَلة شيء آخَرُ، مثَلًا: لله تعالى القُدْرة، فنَقول: ليسَت كقُدْرة المَخلوق، لكن لا يُمكِن أن يَلحَقها النقصُ.
إذَنْ: لا بُدَّ أن نَقول: "عن كل نَقْص"، فلا يَكفِي نفيُ المُماثَلة، ربما يُغنِي قولُنا:(عن كل نَقْص) عن نفي المُماثَلة؛ لأن المُماثَلة نَقْص، لكن نَقول: إذا كان الله تعالى قد نصَّ على ذلك فقال: {فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]؛ فيَنبَغي أن نُنَبِّهَ عليه.
وقوله تعالى: {وَتَعَالَى} أي: تَرفَّع لعظَمته.
وقوله رحمه الله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} ] أي: عمَّا يُشرِكون معَه، ولا شكَّ أن هذا هو الواقِعُ.