الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (53)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
ثُمَّ قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} .
قوله تعالى: {قُلْ} الخِطاب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي أُوحِيَ إليه هذا القرآنُ، واعلَمْ أن القُرآن كلَّه قد قيل للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيه:{قُلْ} ، لكن بعضه يُصرَّح فيه بـ {قُلْ} ، وبعضه لا يُصرَّح؛ لأن قوله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، يَعُمُّ القُرآن كلَّه، فيَجِب عليه أن يَقول للناس القُرآن كلَّه، لكن بعض الآيات أو بعض الأحكام تُصدَّر بـ {قُلْ} للعِناية بذلك، أي: بذلك الحُكمِ المُصدَّر بـ {قُلْ} ، فهنا يَقول الله تعالى:{قُلْ} أي: قُلْ يا مُحمَّدُ {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أي: قُلْ لهم مُبلِّغًا عن الله تعالى أن الله تعالى قال: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} .
فقوله تعالى: {قُلْ} يَعنِي: أَبلِغ عِبادي بذلك، أَبلِغْهم بأني أَقول: يا عِبادي، ولا يَصِحُّ أن نَقول: قل أنت يا مُحمَّدُ: يا عِبادي. فتُضيف المَعنَى إلى نَفْسك، بل المَعنَى: أَبلِغْ عِبادي أني أَقول: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} ، وقُلْنا بهذا التَّفسيرِ؛ لأن
النبيَّ صلى الله عليه وسلم لو قال للناس: (يا عِبادي الذين أَسرَفوا على أَنفُسِهم) فإنه لا يَستَقيم الكلام، ولكن المَعنَى: قل للناس. أي: أَبلِغْهم بأني أَقول: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} ، وفي قِراءة أُخرى:(لَا تُقْنِطوا).
فإن قال قائِل: كيف يُبلِغ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قولَه تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} ؟
فالجَوابُ: المَعنَى هنا: قل مُبلِغًا عَنِّي: يا عبادي. فيَقول الرسول صلى الله عليه وسلم مثَلًا: قال ربُّكم: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} ، فهذا كيفية إبلاغَ هذه الآيةِ.
وقوله تعالى: {يَاعِبَادِيَ} يَشمَل العِباد بالمَعنَى الخاصِّ، والعِباد بالمَعنَى العامِّ، يَعنِي: حتى الكُفَّار، يُقال لهم مثلُ هذا القولِ.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أي: جاوَزوا الحدَّ في الرِّعاية على الأنفُس، والواجِب على الإنسان في رِعاية نَفْسه أن يَرعاها حَقَّ رِعايتها بحيث يَقوم بما يُصلِحها ويَتجَنَّب ما يُفسِدها، فإذا لم يَفعَل فقد أَسرَف على نَفْسه.
فالمُراد بالإِسْراف أنهم جاوَزوا الحدَّ في رِعايتها، وذلك بأن أَوْقَعوها في المَعاصِي أو جنَّبوها الطاعاتِ؛ مثال ذلك: رجُل سرَق، والسرِقة إسراف على النَّفْس؛ لأن الواجِب: حِماية النَّفْس من السرِقة، وكذلك رجُل شرِب الخَمْر، هذا إسراف على النَّفْس، وأيضا رجُل سجَد لصَنَم، فهذا إسراف على النَّفْس؛ لأنه مُجاوَزة للحَدِّ.
وقوله تعالى: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} القُنوط واليَأس مَعناهُما مُتَقارِب، لكنهم فرَّقوا بينهما بأن القُنوط أَشَدُّ اليأسِ، وأمَّا اليَأْس فمَعروف أنه عدَم الرجاء وعدَم الأمَل في حُصول الشيء؛ فقوله تعالى:{لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} أي: من رحمة الله لكم؛ فـ (رَحْمة) هنا مُضافة إلى الفاعِل، أي: من رحمة الله تعالى إيَّاكم.
وتَكون الرحمة بأن يَهدِيَ الله عز وجل الرجُل إلى التَّوْبة والاستِغْفار ويَتوب عليه، فأنت لا تَقنَط من رحمة الله تعالى لا بنَفْسك ولا بغَيْرك، ولكنِ افعَلِ السبَب؛ فلو قال قائِلٌ مُسرِفٌ على نَفْسه: أنا لا أَقنَطُ من رحمة الله. ولكنه يَفعَل المَعصية مُستَمِرٌّ عليها، نَقول: هذا غلَط؛ لأنك إذا استَمْرَرْت على المَعصية فأنت آمِنٌ من مَكْر الله تعالى.
وكلا الطَّرَفين ذَميم: القُنوط من رحمة الله تعالى، والأَمْن من مَكْر الله تعالى، لكن نَقول: افعَلِ السبَب ولا تَقنَط من رحمة الله تعالى.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [(لَا تقْنِطُوا) بكَسْر النون وفتحها، وقُرِئَ بضَمِّها] ففيها ثلاث قِراءات: قِراءتان سَبْعيَّتان وقِراءة شاذَّة ليست سَبْعية؛ لأن مُصطَلَح مُؤلِّف الجَلالَيْن رحمه الله إذا قال: (في قِراءة) فهي سَبْعية، وإذا قال:(قُرِئ) فهي شاذَّة، وإذا قال: بفَتْح وضَمِّ فهما سَبْعيتان، فهنا الآنَ قوله تعالى:{تَقْنَطُوا} في النون ثلاث حرَكات: (تقنِطوا){تَقْنَطُوا} وهاتان سَبعيتان، و (تقنُطوا) وهذه شاذَّة، والقِراءة الشاذَّة لا يُقرَأ بها في الصلاة، لكن يُستَدَلُّ بها في الأحكام إذا صحَّتْ؛ وقال شيخُ الإسلام ابنُ تَيميَّةَ (1) رحمه الله: بل إذا صحَّتْ، فإنه يُقرَأ بها في الصلاة كما يُستَدَلُّ بها في الأحكام.
والفَرْق بين الشاذَّة والسَّبْعية أن العُلَماء رحمهم الله اصطَلَحوا أن ما جاء عن طريق القُرَّاء السَّبْعة المَشهورين فهي سَبْعية، وما جاء عن طريقٍ آخَرَ، ولو صحَّ فهو عندهم شاذٌّ.
فالشاذُّ إِذَنْ: ما خرَج عن القِراءات السَّبْع، ولكنه يُحتَجُّ به في الأحكام، ولا يُقرَأ به في الصلاة إلَّا في رأْيِ شيخ الإِسلام ابنِ تَيميَّةَ رحمه الله فإنه يَقول: متى صحَّتِ
(1) مجموع الفتاوى (13/ 392 - 393).
القِراءة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فإنها تُقرَأ في الصلاة وإن لم تَكُن من القِراءات السَّبْع.
وقال المُفَسِّر رحمه الله في تفسير (تَقْنِطُوا): [تَيْأَسوا] والصحيح: أن هذا التَّفسيرَ تقريب؛ لأن القُنوط أشَدُّ اليَأْس، فهو أعلى درَجات اليَأْس فمَعنَى (تَقْنِطُوا) أي: يَبلُغ بكم اليَأْس أَشدَّه.
وقوله تعالى: {مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} يَعنِي: من أن يَرحَمكم الله عز وجل؛ لأن الإنسان إذا قنَط من رحمة الله تعالى وأَيِس لم يَتَعرَّض للرحمة؛ لأنه آيِسٌ؛ ولهذا يُقال: اليَأْس مِفتاح التَّرْك. وأَضرِب لكم مثَلًا: حاوِلْ أن تَحُلَّ عُقدةً من خَيْط، فإذا أَعْيَتْك فإنك تَترُكها، وإذا أَيِسْت منها ترَكْتها، لكن بالنسبة لرحمة الله تعالى لا تَيْأَس مهما عمِلت من الذُّنوب والمَعاصِي فلا تَيْأَس.
وهنا نهيٌ وتَعليل: النهيُ في قوله تعالى: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} ، والتَّعليل في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} .
قال المُفسِّر رحمه الله: [{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} لمَن تابَ من الشِّرْك {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}]، قوله تعالى:{يَغْفِرُ} مَأخوذٌ من المَغفِرة، وهي: سَتْر الذَّنْب والتَّجاوُز عنه، وليسَتْ مُجرَّد السَّتْر؛ لأنها مَأخوذة من المِغفَر، وهو ما يُوضَع على الرأس عند الجِهاد للوِقاية، فهو جامِعٌ لأَمْرين: السَّتْر والوِقاية؛ فمثَلًا: الغُتْرة هذه لا نُسمِّيها مِغْفَرًا، وأيضًا الطاقية؛ لأنها مع أنها ساتِرة، لكنها ليسَتْ واقِيةً، لكن بَيْضة الحديد التي تُوضَع على الرأس عند القِتال نُسمِّيها: مِغفَرًا؛ لأنها ساتِرةٌ واقِية، فمَغفِرة الذُّنوب سَتْرها والتَّجاوُز عنها، فأنت إذا قلتَ:(اللهُمَّ اغفِرْ لي) تَسأَل الله تعالى شَيْئين: أن يَستُر ذُنوبك عن غيرك، والثانية أن يَتَجاوَز الله تعالى عنها.
وقوله تعالى: {الذُّنُوبَ} هذه صيغة عُموم، وأكَّد هذا العُمومَ بقوله تعالى:{جَمِيعًا} .
وهذه المَغفِرةُ التي أَثبَتَها الله عز وجل شامِلةٌ لكل ذَنْب فيمَن تاب، فكُلُّ مَن تاب تابَ الله تعالى عليه، ألَا تَرَى قوله تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 68 - 70]، فهؤلاء جمَعوا بين الشَّرْك وقَتْل النَّفْس، وهو اعتِداءٌ على النُّفوس، والزِّنا وهو اعتِداءٌ على الأعراض والأَخْلاق، ومع ذلك إذا تابوا تابَ الله تعالى عليهم.
وهذه الآيةُ أَجمَعَ العُلَماء رحمهم الله على أنها في التائِبين؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} ولم يُقيِّد فهي في التائِبين؛ أمَّا غير التائِبين فقد قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، فغَيْر التائِبين نَجزِم بأن الله تعالى لا يَغفِر الشِّرْك في حَقِّهم، وما دون الشِّرْك تحت المَشيئة إن شاء عَذَّب وإن شاء غفَرَ.
فلِلإِنْسان حالان:
الحالُ الأُولى: التَّوْبة، فحُكْم ذَنْبه حينئذٍ الغُفران مهما عظُم الذَّنْب.
الحالُ الثانية: عدَم التَّوْبة، يَعنِي: بدون التَّوْبة نَقول: الشِّرْك لا يُغفَر قَطْعًا، وما دون الشِّرْك تحت المَشيئة.
ويُستَدَلُّ بالآية التي ذكَرْناها استِشْهادًا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ
مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} يَستَدِلُّ بها المُسرِفون على أنفسهم بالمَعاصِي، فإذا نَهَيْتهم عن مَعصية قالوا لك:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
ونقول له - بكُلِّ بَساطة -: وهل تَجزِم أنت أنك ممَّن شاء الله تعالى أن يُغفَر له؟
الجَوابُ: لا، إذَنْ أنت على خطَر، وأنت الآنَ فَعَلْت سبب العُقوبة، وكونُكَ يُغفَر لكَ فهذا أَمْرٌ راجِع إلى مَشيئة الله عز وجل.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الجُملة تَعليلٌ للحُكْم الذي قبلها وهو: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} والجُملة هنا مُؤكَّدة بمُؤكِّدين، هما:(إن) و (هو){إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، أمَّا كون (إنَّ) مُؤكَّدة فظاهِر؛ لأن (إِنَّ) من أَدَوات التَّوْكيد.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} كلِمة {هُوَ} لو حُذِفت لاستَقام الكلام بدونها، ويُسمِّيها النَّحويُّون: ضميرَ فَصْل، وبعضُهم يُسمِّيها: عِمادًا، وليس ضَميرَ الشَّأْن، وضمير الشأن هو الضمير الذي يَدُلُّ على القِصَّة، وليس مَوْجودًا، وإنما يَكون في الغالِب مَحذوفًا.
يَقولون: إن في ضمير الفَصْل ثلاثَ فوائِدَ:
الفائِدةُ الأُولى: التَّوْكيد.
الفائِدةُ الثانيةُ: الحَصْر.
الفائِدةُ الثالِثةُ: التَّمييز بين الخَبر والصِّفة.
مثالُه: إذا قُلتَ: زيدٌ هو الفاضِل؛ فالضَّمير في (هو) ضمير فَصْل، ولو قُلتَ: زيدٌ الفاضِلُ. وحذَفْت الضميرَ لاستَقام الكلامُ، ولكن يُحتَمَل أن يَكون (الفاضِلُ) صِفةً، والخَبَر مُنتَظَرًا، ويُحتَمَل أن يَكون (الفاضِلُ) هو الخبَر، فإذا قلتَ: زيدٌ هو
الفاضِل. ارتَفَع الاحتِمال الأوَّلُ، وهو أن يَكون الفاضِل صِفَةً، وتَعيَّن الاحتِمالُ الثاني وهي: أن تَكون خبَرًا.
فاستَفَدْنا إذَنْ من هذا التَّركيبِ: (زَيْدٌ هو الفاضِل) فوائِدَ منها:
أوَّلًا: تَوْكيد الفَضْل في زَيْد.
ثانِيًا: حَصْر الفَضْل في زَيْد.
ثالِثًا: التَّمييز بين الصِّفة والخبَر.
فالآنَ ليس عندنا احتِمال أن تَكون صِفة، هذا من حيثُ المَعنَى في ضمير الفَصْل.
فقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فيها فائِدتان:
الفائِدةُ الأُولى: التَّوْكيد.
الفائِدة الثانِية: الحَصْر.
أمَّا التَّمييز بين المُبتَدَأ والخبَر فهنا لا حاجةَ له؛ لأن الضميرَ يَقولون: إنه لا يُنعَت ولا يُنعَت به؛ وعليه: فتكون الفائِدة في قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الحَصْرَ والتَّوْكيد.
أمَّا من حيثُ الإِعْراب فالصحيح: أنه حَرْفٌ لا محَلَّ له من الإعراب، حرفٌ جاء في صورة الاسم، وليس له مَحَلٌّ من الإعراب.
والدليل على أنه لا مَحلَّ له من الإعراب: كثير في القُرآن وغير القُرآن، قال الله تعالى:{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 40]؛ لأنه إذا كان له مَحلٌّ من
الإعراب صار محَلُّه الرفعَ وما بعده خبَر، ولكنه ليس له مَحَلٌّ من الإعراب، بل جاء عِمادًا أو جاء فَصْلًا.
وقوله تعالى: {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} سبَقَ أن مَعنَى (المَغفِرة) سَتْر الذَّنْب والتَّجاوُز عنه.
وقوله تعالى: {الرَّحِيمُ} أي: ذو الرحمة التي يَحصُل بها المَطلوب، فالرَّحْمة يَحصُل بها المَطلوب، والمَغفِرة يَزول بها المَرهوب، فالجَمْع بين الاسمَيْن الكريمين يُفيد السَّعادة الكامِلة، فالنَّجاة من المَرهوب في قوله تعالى:{الْغَفُورُ} ؛ لأن هذا مَغفِرة للذَّنْب، وحُصول المَطلوب في قوله تعالى:{الرَّحِيمُ} ؛ لأن الرحمة يَحصُل بها المَطلوب والخَيْرات والنِّعَم، وبزَوال المَرهوب وحُصول المَطلوب يَتِمُّ الفَوْز، قال الله جَلَّ وَعَلَا:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] فقوله تعالى: {زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ} فيه النَّجاة من المَرهوب؛ وقوله سبحانه وتعالى: {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ} فيه حُصول المَطلوب {فَقَدْ فَازَ} .
وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} : {الْغَفُورُ} مَعناه: الذي يَستُر الذَّنْب ويَتَجاوَز عنه، وهو مُشتَقٌّ من المِغفَر وهو الذي يَستُر الرَّأْس ويَقيه.
وقوله رحمه الله: [{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} لمَن تاب مِن الشِّرْك]، وكذلك مَن تاب مِن غيره ممَّا دونَه، لكن ذَكَر المُفَسِّر رحمه الله الشِّرْك؛ لأنه أَعظَمُ الذُّنوب؛ ولأنه لا يُغفَر إلَّا بتَوْبة، وإذا تاب الإنسان من الشِّرْك وبَقِيَ على شيء من المَعاصي كان يَقوم بها في حال كُفْره، فهل تُغفَر هذه المَعاصِي أو لا بُدَّ لها من تَوْبة؟
الصحيحُ: أنه لا بُدَّ لها من تَوْبة كما لو كان يَشرَب الخَمْر وهو كافِر، ثُم أَسلَم وبَقِي على شُرْب الخَمْر، فإن إسلامه لا يُوجِب أن يَسقُط عنه إِثْم شُرْب الخَمْر؛ لأنه
لم يَتُبْ منها، لكن إذا تاب من الشِّرْك ولم يُصِرَّ على المَعاصي الأُخرى، ولم تَطرَأ له على بالٍ فإن جميعَ ذُنوبه تُغفَر.
فالتائِبُ من الشِّرْك في الحقيقة له ثلاث حالات:
1 -
إمَّا أن يَستَحضِر أنه تاب من الشِّرْك ومن جميع المَعاصي التي كان يَعلَمها، فهذا لا شكَّ في أن تَوبَتَه تَعُمُّ كلَّ ذَنْب.
2 -
وإمَّا أن يَتوب من الشِّرْك مع الإصرار على بعض المَعاصي التي كان يَفعَلها في حال الشِّرْك، فهنا لا تُغفَر له هذه المَعاصي التي أَصَرَّ عليها؛ لأنه استَمَرَّ فيها مثل أن يَكون مُعتادًا لشُرْب الخَمْر في حال كُفْره فيُسلِم وهو مُصِرٌّ على شرب الخَمْر، فإنه لا يُغفَر له ما قد سلَفَ من الذُّنوب؛ قال تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
3 -
وإمَّا أن يَتوب من الشِّرْك ولم يَطرَأ على باله بَقية المَعاصي، لكنه لم يَفعَلها بعد إسلامه، يُغفَر له جميع الذُّنوب؛ لأنها تَندَمِج الصِّغار بالكِبار فيُغفَر له جميع الذُّنوب.
فإن قال قائِل: هل يَجزِم الإنسان إذا تاب من الذَّنْب أن الله عز وجل تاب عليه؟
فالجَوابُ: نعَمْ، إذا تُبتَ توبةً نَصوحًا، فإن الله تعالى يَقبَلها، لكن مَن الذي يَقول: إن تَوبته نَصوحًا، فالمُشكِل الذي يَكون من فِعْل العَبْد لا من فِعْل الربِّ، فالربُّ إذا وقَع فِعْل العَبْد على ما يَرْضاه حصَل مَوعودُه؛ لأن الله تعالى لا يُخلِف المِيعاد، لكن الذي يَكون محَلَّ إشكال هو فِعْل العَبْد، هل هذه التَّوْبةُ توبة نَصوح على حسَب ما رُسِم في الشَّرْع؟ فنحن نَجزِم، لكن قد يَكون في قلب الإنسان بِلاء، فقد يَكون عنده شيءٌ من الرِّياء، أو يَكون عنده شيءٌ من المَنِّ على الله عز وجل، وغير ذلك من الأسباب، فحينئذ تَكون التَّوْبة غيرَ نَصوح.