الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (71)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71].
قوله تعالى: (سِيق) فِعْل ماضٍ مَبنيٌّ للمَجهول، والأَوْلى أن نَقول: مَبنيٌّ لما لَمْ يُسمَّ فاعِله؛ قالوا: أن الأَوْلَى الثاني؛ لأنه قد يَكون الفاعِل مَعلومًا، لكن حُذِف لغرَض آخَرَ؛ ولهذا كان تَعبير المُحقِّقين من النَّحويِّين أن يَقولوا: ما لم يُسمَّ فاعِله. وفي هذا الفِعْلِ نَقول: مَبنيٌّ لما لَمْ يُسمَّ فاعِله. فالظاهِر أن السائِق المَلائِكة، يَسوقُونهم إهانةً.
وقول المُفسِّر رحمه الله: [بعُنْف] دَليله قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ} [الطور: 13] مَعنَى الدَّعِّ: الدَّفْع بشِدَّة وقوة، هذا كيفية سَوْق الذين كفَروا.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا} حُذِف المَفعول ليَعُمَّ كل ما يُكفَر به ممَّا يَجِب الإيمان به، فإذا كفَروا بالمَلائِكة فهم داخِلون في هذا، وكذلك إذا كفَروا بالنَّبيِّين، وبالكِتاب، وباليوم الآخِر، وبالقَدْر؛ فهم داخِلون في هذه الآيةِ، وكذلك إذا استكبَروا عمَّا يَجِب عليهم الإيمان به فإنهم يَكفُرون؛ لأن الكُفْر نَوْعان: كُفرُ جُحود، وكُفرُ
استِكْبار؛ فالتَّكذيب كُفْر جُحود، وتَرْك العمَل كُفْر استِكْبار، والآية تَشمَل هذا وهذا.
فإن قال قائل: في هذه الآيةِ: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} ، وفي الحديث في صحيح البُخارِيِّ وغيره: أنه تُصوَّر لهم النار كأنها سَرَاب فيَأتون مُسرِعين (1)، فكيف يُمكِن الجَمْع بين السُّوق وبين كونهم هم يَتَبادَرونها؟
فالجَوابُ: أن الجَمْع من أحد الوَجْهين:
إمَّا أنه يُجمَع لهم بين السَّوْق وبين انطِلاقهم، ولا مانِعَ من أن يَركُض الإنسان وهناك واحد وراءَهُ يَدفَعه.
أو يُقال: إنهم إذا وصَلوا إلى حَوْلها ورأَى المُشرِكون النار هابوا ووقَفوا، وعلِموا أنها ليسَتْ بماءٍ، فسوف يَنكِصون وحينئذ يُساقون ويَدَعُّون إلى جَهنَّمَ دعًّا.
وإن قال قائِل: هل يُعذَّب الجِنَّ كما يُعذَّب الإنسان في جَهنَّمَ؟ وهل هُما سواءٌ؟
فالجَوابُ: نعَمْ، هذا هو الظاهِر، أن الجِنَّ يُعذَّبون كما يُعذَّب الإِنْس، قال تعالى:{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38].
قوله تعالى: {إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} قوله: {جَهَنَّمَ} سبَق الكلام عليها، وأن العُلَماءَ رحمهم الله اختَلَفوا فيها، وهل هي مُعرَّبة أو عرَبية أصلِيَّة.
(1) أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، رقم (7439)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، رقم (183)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وقوله تعالى: {زُمَرًا} قال المُفسِّر رحمه الله: [جماعاتٍ مُتَفَرِّقةً] ووجهُ التَّفريق في هذه الجَماعاتِ قد يَكون باعتِبار الأُمَم، أو باعتِبار الأعمال، بحيث تَكون الزُّمْرة الأُولى هي الكافِرة المُشرِكة، والثانية ما دونَها، والثالِثة ما دونَها وهكذا.
فإن قُلْنا بالأوَّل - أي: أن هذه الزُّمَرَ باعتِبار الأُمَم - فإن دليله قولُه تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف: 38]، فإن هذا يَدُلُّ على أنهم يُذهَب بهم إلى النار أُمَمًا.
وإن قُلنا بالثاني: فدَليله ما يُصنَع بأهل الجَنَّة أن أوَّل زُمْرة تَدخُل الجَنَّة وجوهُهُم كالقمر ليلةَ البَدْر، أو على صُورة القمَر ليلةَ البَدْر، فإن هذا يَقتَضي أن يَكون الزُّمَر باعتِبار العمَل، فالله أَعلَمُ.
المُهِمُّ: أن نَعرِف أنهم يُساقون زُمَرًا.
فإن قال قائِل: أَلَا يَمنَع من كونه المَعنَى {زُمَرًا} أن يَكون جَماعاتٍ باعتِبار العمَل؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ ثَلَاثَةٌ"(1)؟
فالجَوابُ: نعَمْ، هذا يُؤيِّد أن المُراد باعتِبار العمَل؛ لأن هؤلاءِ الثلاثةَ يَكونون في الأُمَم من قَبْلنا وفينا.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} شَرْطها: {جَاءُوهَا} ، وجوابُها:{فُتِحَتْ} يَعنِي: من حين أن يَصِلوا إليها تُفتَح، وفَتْحُها أَكْرَهُ شيءٍ إليهم - نَسأَل اللهَ العافِيةَ -؛ لأنهم يَوَدُّون أن يَقِفوا ولو على شَفيرها دون أن يَدخُلوا فيها، ولكنهم يُفاجَؤُون بفَتْحها من أَجْل مُبادَرتهم بالعَذاب، والعِياذ باللهِ.
(1) أخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، رقم (1905)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه.
وقوله تعالى: {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} فقوله تعالى: {أَبْوَابُهَا} جَمْع: باب، وقد بيَّن الله تعالى في كِتابه أن أبوابها سَبْعة، فقال تعالى:{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: 43، 44] حَسْب عمَله.
وقوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} : {خَزَنَتُهَا} أيِ: القائِمون عليها المُوكَّلون بها، وهم مَلائِكة غِلاظ شِداد؛ غِلاظ الطِّباع، شِداد الأجسام، هؤلاء هُمْ خزَنة النار، ليس فيهم رحمة إلَّا امتِثالًا بأَمْر الله عز وجل، والله تبارك وتعالى يوم القيامة لا يَظلِم الكافِر، بل يَقول تبارك وتعالى:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، فهُمْ أبعَدُ الناس عن رحمة الله.
وقوله تبارك وتعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} مُوبِّخين ومُقرِّرين {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} ، فالاستِفْهام هنا للتَّوْبيخ والتَّقرير، يَعنِي: يُقَرِّرون إتيان الرسُل، ويُوبِّخون هؤلاء على الكُفْر بهم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} يَعنِي: لا من غيركم، فلو أَرسَل الله تعالى للبشَر مَلائِكة لكانوا يَنفِرون، يَقول تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 95]، وهذا رَدٌّ عليهم لمَّا قالوا: أين المَلائِكةُ؟ فليس من الحِكْمة أن نُنزِل للبشَر ملَكًا، قال تعالى:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا} لو أَنزَل الله تعالى ملَكًا، أي: لو فُرِض أن الله تعالى يُرسِل للبشَر ملَكًا {لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 9]، أي: على صورة الرجُل؛ كي لا يَنفِروا منه.
وهنا يَقول: {يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} وهذا أبلَغُ؛ من أن يُقال: (مِن أَنفُسِكم)، فمُحمَّد عليه الصلاة والسلام من قُرَيْش من بني هاشِمٍ، يَعرِفونه ويَعرِفون أباه ويَعرِفون أجداده، ويَصِفونه بالأمين، ويَثِقون به، وحَكَّموه حين اختَصَموا في وَضْع الحجَر
في مَكانه في الكعبة حتى حكَم فيهم ذلك الحُكْمَ العَدْلَ (1)؛ ولهذا قال الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] من جِنْسهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس مَلَكًا، وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2]؛ لأنه من العرَب.
ولمَّا جاءَهُم بالبينات قالوا: هذا الساحِر، هذا الكذَّابُ، هذا المَجنونُ، هذا الكاهِنُ، هذا الشاعِرُ. سبحان الله! وهو رجُل منهم يَعرِفونه، لكن الاستِكْبار يَأبَى أن يَقول الحقَّ.
وقوله سبحانه وتعالى: {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} جُمْلة: {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} يَجوز أن تَكون حالًا، ويَجوز أن تَكون صِفةً أُخرى؛ لأن قوله تعالى:{مِنْكُمْ} صِفة، والنَّكِرة إذا وُصِفت جاز وقوع الحالُ منها، وجاز أن تَكون الجُمْلة صِفةً أُخْرى؛ لأنه لا مانِعَ من تَعدُّد الصِّفات، على أن الحال في الواقِع صِفة، كما قال ابنُ مالِك رحمه الله:
الحَالُ وَصْفٌ فَضْلَةٌ مُنْتَصِبُ
…
مُفْهِمُ فِي حَالٍ كَفَرْدًا اذْهَبُ (2)
وقوله تعالى: {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ} أي: يَقرَؤُون عليكم آياتِ ربكم، والمُراد بالآيات هنا: الآياتُ الشَّرْعية؛ لأن المُراد بها ما نزَل من الوَحيِ.
وقول المُفَسِّر رحمه الله: [القُرآن وغيره] يَعنِي: أنه يَشمَل كلَّ الكتُب التي أُنزِلت.
(1) أخرجه الطيالسي في مسنده رقم (115)، وابن أبي شيبة في مصنفه (15/ 44)، من حديث علي رضي الله عنه.
(2)
الألفية (ص 32).