الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيتان (14، 15)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 14، 15].
يقول عز وجل: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} في الآية الأُولى قال: {أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} في الأَوَّل يفعل هو يَعْبُد الله مخلصًا له الدِّين، وفي الثاني أُمِرَ أن يُعْلِنَ للمَلَأِ أنه مُخْلِصٌ، وإعلانه أنه مُخْلِصٌ؛ يعني أنه متبَرِّئٌ من شِرْكِهم.
وقوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ} إعرابُ اسم الجلالة: مفعولٌ به لـ {أَعْبُدُ} قُدِّم المفعول به للحَصْر؛ يعني لا أعبد غَيْرَه، ونظيره من حيث التَّرْكيبُ قولُه تعالى: في سورة الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ثم أكد هذا أيضًا بقوله: {مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} يعني: لا أعبد غَيْرَ الله، وفي عبادتي له أيضًا أَكونُ مُخْلِصًا له لا يَشوبُ عبادتي إياه شَيءٌ من الشِّرْك.
وقوله: {دِينِي} يعني: عَمَلي، قال المُفَسِّر رحمه الله:[من الشِّرْك].
وإذا جَمَعْت بين الآيتين: الآية الأولى: وهي قوله: {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} والثانية هنا؛ عَرَفْتَ شِدَّة امتثال الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام لرَبِّه، وأنه عَبَدَ الله مُخْلِصًا له الدِّين، وأَعْلَنَ ذلك للمَلَأِ غيرَ مُبالٍ بمخالَفَتِهِم.
قوله تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} : {فَاعْبُدُوا} هذا يُحْتَمل أن يكون تهديدًا،
ويُحْتَمَل أن يكون تحَدِّيًا، فالمُفَسِّر رحمه الله يقول:[فيه تَهْديدٌ]، ويمكن أن يكون تحَدِّيًا، أما كوْنُه تهديدًا فظاهِرٌ {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} لأنَّه قال بعده:{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ} إلخ، وأما كونه تَحَدِّيًا فلأنَّه لمَّا ذكر أنه يعبد الله وحده مُخْلِصًا تحدَّاهم، قال: أنا لا أُبالي، أنتُم اعبُدوا ما شِئتُم وأنا لا أُبالي بكم، فسوف لا أُشْرِك بالله، وسوف أَعْبُد اللهَ وَحْدَه مُخْلصًا.
والقاعدة عندنا في التَّفْسير: أنَّه إذا كانت الآيةُ تَحْمِلُ مَعْنيينِ لا يتنافيان تُحْمَلُ عليهما جميعًا.
وقوله: {مَا شِئْتُمْ} يعني الذي شئتم.
وقوله: {مِنْ دُونِهِ} أي: مِن سواه، اعبدوا ما تشاؤون مِن سواه، مَلِك، وَلِي، شَجَر، حجر، شمس، قمر؛ أي أَحَد تعبدونه، فلا يُهِمُّني، وأنا سوف أبقى مُخْلِصًا لله، وأنتم اعبدوا ما شئتم.
يقول المُفَسِّر رحمه الله: [{مِنْ دُونِهِ} غَيْره] أي: غير سواه [فيه تهديدٌ لهم، وإيذانٌ بأنَّهُم لا يعبدون الله تعالى]: [إيذان] يعني إعلان؛ أي: إنَّ هذه الجملةَ فيها تهديدٌ، وفيها أنَّهُم لا يعبدون الله وإنما يَعْبُدون غيره.
وقوله: {قُلْ} يعني: قل لهم مع تهديدك إيَّاهم: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} والجملة فيها تأكيدٌ وفيها حَصْر؛ فالتَّأكيد: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ} ، والحصر أنَّ طَرَفَيِ الجملة مَعْرِفتانِ:{الْخَاسِرِينَ} {الَّذِينَ خَسِرُوا} ، فكأنه قال: إنَّ الخاسرينَ هم الذين خسِروا أنْفُسَهم وأهليهم يوم القيامة.
وقوله: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ} الخاسِرُ بيَّنَه الله عز وجل في قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2، 3] يعني: الخُسران ضِدُّ الربح، وذلك أنَّ المُعامِل إما أن
يأخُذَ رأس ماله، وإمَّا أن يَخْسَر فيأتيه أقَلُّ من رَأْسِ ماله، وإما أن يَرْبَحَ فيأتيه أكثر، والخُسْران الحقيقي هو ما ذكره الله هنا {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، فهؤلاء هم الذين خَسِروا، وليس الخاسِرُ من فقد ملايينَ الدَّراهم، وليس الخاسِرُ من فقد أهله في الدنيا، وليس الخاسر من فقد نَفْسَه في الدنيا، بل الخاسِرُ من خسر نفسه وأهله يوم القيامة.
يقول المُفَسِّر رحمه الله: [بِتَخْلِيدِ الْأَنْفُس فِي النَّار وَبِعَدَمِ وُصُولهِمْ إلَى الْحُور المُعَدَّة لَهُمْ فِي الْجَنَّة لَوْ آمَنُوا] قوله: بتخليد الأنفس في النار؛ هذا بيانٌ لخسرانِهِم أنْفُسَهم؛ لأنَّه خَسِرَ نفسه في الحقيقة؛ ووجه الخسران: أنَّ حياته في الدُّنيا لم يَسْتَفِدْ منها في الآخرة إطلاقًا، فخسر نفسه، خَسِرَ عُمُرَه كله راح هباءً منثورًا؛ فلو أنه مؤمن مُخْلِص لاستفاد، لكان كلُّ حياته الدنيا رِبْحًا؛ لأنَّه سوف يُخَلَّد في الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سَمِعَت ولا خطر علي قلب بشر؛ أمَّا الآن فسَيُخَلَّد في النار؛ هذه خسارة النفس.
وأما خسارَةُ الأَهْل فقد فسَّرها المُفَسِّر رحمه الله: بأنه يَفوته الحُورُ العِينُ في الجنة لو آمن، وهذا وإن كان له وَجْهٌ لكنه بعيدٌ من الصَّواب؛ وذلك لأنَّ الحور في الجنة لم تكن أهلًا له حتى يقال: خَسِرَهم، وإنما المراد: خَسِرُوا أَهْليهم؛ لأنَّ أهليهم إن كانوا مؤمنين فهم في الجَنَّة ولم يَجْتَمِعوا بهم، وإن كانوا كفَّارًا فهم في النار ولم يجتمعوا بهم أيضًا، ولو كانوا مؤمنين وذُرِّيَّتهم مؤمنة لكانوا كما قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] يعني لن يَجْتَمِع أحدٌ مع أهله في الآخِرَة إلا إذا كان هو وهم مُؤْمِنينَ، فسيجتمعون اجتماعًا لا فِرَاقَ بعده، أما من لم يكن كذلك فلا اجتماعَ.
وعلى كلِّ حال: الصَّحيحُ أنَّ المراد بـ (أهليهم) يعني أهليهم الذين في الدنيا؛