الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (43)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} [الزمر: 43].
ثُمَّ قال الله عز وجل: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} : {أَمِ} هنا مُنقَطِعة؛ ولهذا تُقدَّر بـ (بل) والهَمْزة أي: أنها بمَعنَى: (بل) والهَمْزة.
وقولنا: (مُنقَطِعة) يُفيد أن هناك مُقابِلًا لهذا المَعنَى وهو كذلك، والمُقابِل لهذا المَعنَى أن تَكون مُتَّصِلة، وحينئذٍ نَحتاج إلى الفَرْق بين المُنقَطِعة والمُتَّصِلة، والفرق بينهما من وجهين:
الفَرْق الأوَّل: أن (أَمِ) المُنقَطِعة لا مُعادِلَ فيها، بمعنَى أنه لا يُذكَر فيها مُعادِل، بخِلاف (أَمِ) المُتَّصِلة فإنها تَحتاج إلى مُعادِل، فقوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6]، هذه مُتَّصِلة لذِكْر المُعادِل {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} ، وأمَّا قوله تبارك وتعالى:{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الطور: 33]، فهذه مُنقَطِعة؛ لأنها بمَعنَى: بل أيَقولون؛ لأنه لم يُذكَر فيها المُعادِل فتَكون مُنقَطِعة.
الفَرْق الثاني بينهما: أن (أَمِ) المُتَّصِلة بمَعنى (أَوْ)، و (أَمِ) المُنقَطِعة بمَعنَى (بل) والهَمزة ففي قوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} لو جعَل بعدَها (أَوْ)
لكان المَعنَى: أَنذَرْتهم أو لم تُنذِرْهم، فالمُنقَطِعة أي: بمَعنَى (بل) والهَمزة، وليسَتْ بمعنى (أو).
ونُطبِّق هذا الفَرْقَ على ما معَنا {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} تَكون مُنقَطِعة؛ أوَّلًا: لأنه لم يُذكَر المُعادِل. وثانيًا: لأنها تُقدَّر بـ (بل) والهمزة، فقوله تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: سِواه، (دون) بمَعنَى (سِوى)؛ لا بمَعنَى دون الرُّتبة، بل (مِن دون الله) أي:(مِن سِوى الله).
وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا} هنا تَنصِب مَفعولين: الأوَّل: {شُفَعَاءَ} ، والثاني:{مِنْ دُونِ اللَّهِ} يَعنِي: اتَّخَذوا من دون الله تعالى آلهةً شُفَعاءَ، ويَجوز أن نَقول: إن المَفعول الأوَّلَ مَحذوف تَقديرُه: آلهة، والثاني:{شُفَعَاءَ} ، يَعنِي: أنهم اتَّخَذوا مَعبوداتٍ يَعبُدونها يَدَّعون أنها شُفعاءُ لهم عند الله تعالى، قال الله تعالى عنهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فصرَّحوا بأنهم يَعبُدون هذه الآلهةَ، ولكنهم يُريدون أن تَكون مُقرِّبةً لهم إلى الله عز وجل.
وسُبحان الله! كيفَ تَتَّخِذ بمَن عصَيْت اللهَ فيهم وَسيلةً ليُقرِّبوك إلى الله! وهذا من سَفَههم؛ قال رحمه الله: [{اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أيِ: الأصنام آلِهة {شُفَعَاءَ} عند الله بزَعْمهم]، والشُّفَعاء جَمْع شَفيع، والشَّفيع مَن يَتَوسَّط لغيره بجَلْب مَنفَعة أو دَفْع مَضرَّة، فالشَّفاعة لأهل المَوقِف إذا أَصابَهم الهمُّ والغَمُّ أن يَقضِيَ الله تعالى بينهم من باب دَفْع المَضرَّة، والشفاعة لأهل الجنَّة أن يَدخُلوها من باب جَلْب المَنفَعة.
فالشفاعة هى أن تَتَوسَّط لغيرك بجَلْب مَنفعة أو دَفْع مَضرَّة، وهي لا شَكَّ أنها خير، قال تَعالى:{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء: 85] إلَّا في بعض المَواطِن كالشفاعة في الحدِّ بعد أن يَصِل إلى السُّلْطان، فإن مَن حالت شفاعته
دون حَدٍّ من حُدود الله فقد ضادَّ الله تعالى في أَمْره، وإذا بلَغتِ الحُدود السُّلْطان فلَعَن الله تعالى الشافِعَ والمُشفوع له، هؤلاء الجماعة الذين يَعبُدون الأصنام يَقولون: إنها شُفَعاءُ.
وقوله تبارك وتعالى: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} يَعنِي: أتَتَّخِذونهم شُفَعاءَ، وهم لا يَملِكون شيئًا لا شفاعةً ولا غير شفاعة، وهنا قال تعالى:{لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا} و (شيئًا) نَكِرة في سِياق النفيِ، فتكون للعُموم، وكان مُقتَضى السِّياق أن يَقول: أَوَلَوْ كانوا لا يَملِكون الشفاعة، ولكنه أتَى بالعُموم ليَدُلَّ على أن هذه الأصنامَ لا تُفيد شيئًا أبَدًا لا تَشفَع ولا تَدفَع، وهي قد سُلِبت الشفاعة لدُخولها في العُموم، يَعنِي: لا يَملِكون الشفاعة ولا غيرها.
قوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانُوا} فيها حَرْف عطفٍ بعد الهَمزة وقد ذكَرْنا مِرارًا ما يَقوله عُلماءُ النَّحو رحمهم الله في مثل هذا التركيبِ وهو أنه إذا جاء حرف العَطْف بعد همزة الاستِفْهام يَقول علماءُ النَّحو رحمهم الله: في إعرابه وَجْهان:
الوَجْه الأوَّلُ: أن تَكون الجُمْلة مَعطوفة، يَعنِي: الواو عاطِفة على الجُملة وتَكون مُقدَّرة.
الوجه الثاني: أو تَكون الهَمْزة في مَكانها، وحَرف العَطْف على شيء مُقدَّر يُناسِب المَقام.
وذكَرْنا أن الثانيَ رَأْي البَصْريِّين، والأوَّل رأيُ الكوفيين، وذكَرْنا أن القول بأن حَرْف العَطْف عاطِفٌ على ما سبَق أَوْلى؛ لأنه يَكفيك التَّقديرَ؛ ولأنه أحيانًا لا يَستَطيع الإنسان أن يُقدِّر الشيء المُناسِب، فإذا قال: الهَمزة حَرْف عَطْف، الهَمْزة للاستِفهام، والواو حَرْف عَطْف وما بعدها مَعطوفٌ على ما سبَق استَراح.
فقوله هنا: {أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا} على رأيِ مَن يَرَى أن حرف العَطْف على مُقدَّر يَقول: أيَتَّخِذونهم شُفَعاءَ ولو كانوا لا يَملكون؛ وعلى الرأيِ الثاني يَقول: الواو حَرْف عَطْف والمعطوف عليه ما سبَق من الجُملة {أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} يَعنِي: لا يَعقِلون أنكم تَعبُدونها، فالأصنام أَحجار لا تَدرِي، ولا يَعقِلون أيضًا شيئًا من الشفاعة يَدخُلون منه، فهُمْ جهَلة في حالِكم، وجهَلة فيما تَستَحِقُّون.
فقوله الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [{أَمِ} بل] لكنَّنا لا نَقرَؤُها: (أَتَّخَذُوا) بهَمْزة القَطْع؛ لأن القرآن ليستِ الهَمزة فيه هَمْزة قَطْع، لكن لو كان التَّرْكيب في غير القُرآن لقُلْنا:(بلِ اتَّخَذوا من دونه)، وإذا قُلنا:(أَتَّخَذوا) سيَسأَل سائِل: أين ذهَبَت هَمْزة الوَصْل في (اتَّخَذوا)؟ فنَقول: لأنه لمَّا دخَلَت هَمْزة القَطْع على الفِعْل استَغْنَيْنا بها عن هَمْزة الوَصْل؛ لأن هَمزة الوَصْل إنما يُؤتَى بها لسُهولة البَدْء بالساكِن، فإذا لم نَبدَأ به وبدَأْنا بهَمْزة قَطْع استَغْنَيْنا عنها وحذَفناها، قال تعالى:{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات: 153]، فكلِمة:{أَصْطَفَى} هذه أَصلُها: (اصطَفَى) دخَلت عليها الهَمزة، فلمَّا دخَلَت عليها الهَمزة صِرْنا في غِنًى عن همزة الوَصْل؛ لأن همزة الوَصْل يُؤتَى بها للضَّرورة؛ ولهذا سُمِّيَت: همزة وَصْل يُؤتَى بها للضرورة؛ لئلا نَبتَدِئ بالساكن، فإذا زالَتْ هذه الضرورةُ سقَطَتْ.
ثُم قال المُفَسِّر رحمه الله: [{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أيِ: الأصنامَ آلهِةً {شُفَعَاءَ} عند الله بزَعْمهم] يَعنِي: هم صَيَّروا هذه الأصنامَ آلِهة تَشفَع لهم عند الله تعالى.
وقول المُفَسِّر رحمه الله: [بزَعْمهم] يَعنِي: لا بحسَب الواقِع؛ لأن هذه الأصنامَ لا تَشفَع لهم، بل إنه في يوم القِيامة يَكفُر مَنِ اتَّخَذ إلهًا مع الله تعالى بعِبادة مَن عبَده،
وهذا كلام صحيح نَأخُذه من قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5، 6]، وكذلك قوله سبحانه وتعالى:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 14]، بل حتى الذين اتَّخَذوا غير الرُّسُل اتَّخَذوهم مَتبوعين من أهل الضَّلال يَتبَرَّؤُون منهم {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166].
فانظُرْ في القُرآن كُفْر مَن جعَلوا شُرَكاءَ في الرِّسالة، وكُفْر مَن جعَلوا شُرَكاء في العِبادة، لأن كلًّا منهم لم يُحَقِّق شهادة أن لا إلهَ إلَّا الله، وأن محمدًا رسول الله، فالذين اتَّخَذوا شُرَكاءَ في العبادة قال الله عنهم:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 14]، وقال تعالى:{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 6]، والذين اتَّخَذوا شُرَكاءَ في الرسالة قال الله تعالى عنهم:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} ؛ لأن المُتابَعة لغير الرُّسُل والمُعارَضة لأقوال الرُّسُل شِرْك مع الرُّسُل في الرسالة؛ لأن الذي يَجِب اتِّباعه من البَشَر همُ الرُّسُل، فإذا جعَل هذا الرجُلُ مَتبوعه بمَنزِلة الرسول عليه الصلاة والسلام فيَأخُذ بقوله فِعْلًا وتَرْكًا وتَصديقًا، فقد جعَله رَسولًا.
ولهذا بعضُ العُلَماء رحمهم الله يَقول: إن التوحيد نوعان: تَوْحيد عِبادة، وتَوْحيد رِسالة؛ فتَوْحيد عِبادة فيما يَتَعلَّق بحقِّ الله تعالى، وتَوْحيد رِسالة فيما يَتَعلَّق بحقِّ الرسول صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يَقرُن بين هذا وهذا في القُرآن، قال تعالى:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [المؤمنون: 68، 69].
فالحاصِلُ: أن هؤلاء الذين اتَّخَذوا شُفَعاءَ قد ضَلَّوا ضلالًا مُبينًا؛ لأنها لا تَنفَعهم، قال الله تعالى لنبيِّه عليه الصلاة والسلام: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا