الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} يُحتَمَل أن يَكون المُشار إليه باسْمِ الإشارة (ذلك) ما حصَل لهم من الخَشْية، وعلى هذا فيَكون المُراد بالهِداية هِداية التَّوفيق؛ لأن الخَشْية عمَل، ويُحتَمَل أن يَكون المُشار إليه بـ {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ} الكِتاب الذي هو أحسَنُ الحديث، فتَكون الهِدايةُ هنا هِدايةَ دَلالة؛ لأن الكِتاب يَهدِي بمَعنَى: يَدُلُّ، والتَّوفيق بيَدِ الله عز وجل.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{ذَلِكَ} أيِ: الكِتاب] أَفادَنا المُفَسِّر رحمه الله أن الإشارة في قوله ذلك تَعود إلى الكِتاب، وعلى هذا فيَكون المُراد بالهِداية هنا هِداية الدَّلالة، فإن القُرآن هُدًى بمَعنَى أنه دالٌّ على كل خَير، بل على كل شيء؛ لقوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
فقوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ} هنا الهِداية هِدايةُ الدَّلالة والتَّوفيق؛ لأنها أُضيفت إلى الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى بيَدِه الهِدايتان، والباء في قوله تعالى:{يَهْدِي بِهِ} لم يُبيِّن المُفَسِّر رحمه الله مَعناها، ولكن مَعناها: السَّبَبية.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} هذه جُمْلة شرْطية بيَّن الله تعالى فيها أن مَن كتَبه ضالًّا فما أحَدٌ يَهديه.
وقوله تعالى: {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أَصلُها (هادِي) بالياء، لكن حُذِفت الياء لالتِقاء الساكِنين وهُما التَّنوين في الدال والياء الساكِنة المَحذوفة، ويَجوز إبقاؤُها فيُقال: هادِي، لكنها تُحذف كثيرًا للتَّخفيف والتِقاء الساكِنين.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: إثبات أن القُرآن نزَل من عند الله تعالى؛ لقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: إثبات عُلوِّ الله تعالى، ووجهُه: أنه إذا كان القُرآن كلامه ووصَف القُرآن بأنه مُنزَّل دلَّ على أن المُتكلِّم به عالٍ، وعُلوُّ الله عز وجل يَنقَسِم إلى قِسْمين: عُلوِّ ذات، وعُلوِّ الصِّفة.
فأمَّا عُلوُّ الصِّفة فمُتَّفَقٌ عليه بين أهل السُّنَّة وأهل البِدْعة.
وأمَّا عُلوُّ الذات فمُختَلِفٌ فيه:
فأَهلُ السُّنَّة يُؤمِنون بأن الله تعالى عالٍ فوق خَلْقه بذاته.
وأَهْل التَّعطيل يُنكِرون ذلك، ثُم انقَسَموا إلى قِسْمين:
القِسْم الأوَّل: قالوا: إنه بذاته في كلِّ مَكان، وليس فوقَ السَّمَوات، بل هو فوق السَّمَوات، وفي السَّمَوات وفي الأرض وفي البُيوت وفي المَساجِد وفي الأسواق وفي كل شيء حتى تَوصَّلت الحال في بَعضِهم إلى أن قالوا: إنه حالٌ حتى في الأجسام حتى في البشَر حتى في الكِلاب حتى في الحَمير! والعِياذُ بالله تعالى! وهَؤلاءِ هم حُلولية الجَهْميَّة الذين فتَحوا البابَ لحُلول الاتِّحاد.
القِسْم الثاني: قالوا: إن الله تعالى لا يُوصَف بعُلُوٍّ ولا نُزول، فهو ليس فوقَ العالَم ولا تَحتَه ولا مُتَّصِلًا بالعالم، ولا مُنفَصِلًا عن العالم، ولا داخِلَ العالَم، ولا خارِج العالَم، وهذا تَعطيل محَضٌ؛ ولهذا قال بعضُ العُلماء رحمهم الله: لو قيل صِفوا لنا العدَم؟ ما وجَدْنا أدَقَّ من هذا الوَصفِ: أن العدَم كلُّ مَن ليس في داخِل العالَم، ولا خارِجه، ولا فوقَ العالَم، ولا تَحتَه، ولا مُتَّصِلًا، ولا مُنفَصِلًا؛ ولهذا قال محُمود بنُ سبكتكين رحمه الله لابنِ فَوْرك ما مَعناه: بيِّنَ لنا ربَّك إذا كنتَ تَصِفه بهذا الوَصْفِ؟! فأين الرَّبُّ الذي تَعبُده؟! وصدَق.
إِذَنِ: المُنكِرون لعُلوِّ الله تعالى انقَسَموا إلى حُلولية ومُعطِّلة تَعطيلًا محَضًا.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أن هذا القُرآنَ أحسَنُ الحديث، لقوله تعالى:{أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} وهكذا حديث الله عز وجل هو أحسَنُ الحديث، قال الله تعالى:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} .
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن القُرآن مَكتوب؛ لقوله تعالى: {كِتَابًا} ، وسَبَق أنه يُكتَب في ثلاث مَواضِعَ: اللَّوْح المَحفوظ، الصُّحُف التي بأَيْدي المَلائِكة، الصُّحُف التي بأَيْدينا.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أن القُرآن مُتشابِهٌ؛ لقوله تعالى: {مُتَشَابِهًا} ، وحينئذٍ يُطلَب الجَمْع بين هذه الآيةِ، وبين قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، ففي هذه الآيةِ جعَل الله تعالى القُرآن نَوْعَيْن: محُكَمًا ومُتَشابِهًا، وفي الآية التي في الزُّمَر جعَله نوعًا واحِدًا مُتَشابِهًا؟
والجَمْع بينهما أن يُقال: إن التَّشابُه المَذكور في الزُّمَر غير المُتَشابِه المذكور في آل عِمرانَ، فالتَّشابُه المَذكور في الزُّمَر أنه يُشبِه بعضُه بعضًا في الكمال والجَوْدة، والتَّشابُه المذكور في آل عِمرانَ هو اشتِباه المَعنَى وخَفاؤُه، فالقُرآن بهذا الوجهِ يَنقَسِم إلى قِسْمين:
الأوَّلُ: مُحكَم، أي: واضِح المَعنى، والثاني: مُتَشابِه أي: خَفيُّ المَعنَى.
فالتَّشابُه في الزُّمَر بمَعنَى أن بعضَه يُشبِه بعضًا، كل القُرآن مُتَشابِه، وأمَّا في آل عِمرانَ هو الخَفاء، فـ {مُتَشَابِهَاتٌ} أي: خَفيَّات المَعنَى، فالقُرآن بعضُه محُكَمٌ بيِّن، وبعضُه مُتَشابِه، لا يَعرِفه إلَّا الراسِخون في العِلْم.
وفي بعض الآيات وَصَف القُرآن بأنه حَكيم بدون أن يَذكُر التَّشابُه، مثل قوله تعالى:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1]، وهذا بمَعنَى المُحكَم المُتقَن الذي لا يَتَناقَض، فهو عكس المُتشابِه؛ لأن المُحكَم هو الذي لا يَتَناقَض.
فالقُرآن إِذَنْ وُصِف بأنه مُحكَم كلُّه، وأنه مُتشابِه كُلُّه، وأن بعضَه مُحكَم، وبعضُه مُتَشابِه، فوَصْفه أنه كلُّه محُكَمٌ مُتقَن لا يَتَناقَض في قوله تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، ووَصْفه بأنه كلُّه مُتَشابِه، أي: يُشبِه بعضُه بعضًا في الكَمال والجَوْدة وصفُه بأن بعضَه مُحكَمٌ وبعضُه مُتشابِه، أي: أن بعضَه واضِح المَعنَى وبعضَه خَفيُّ المَعنَى.
ومِثال الواضِح المعنى: السماء والأرض والنُّجوم الشمس والقمر والإنسان وما أَشبَهها، فهذا واضِح.
ومِثال المُتشابِه: أن تُوجَد آيتان ظاهِرُهما التَّعارُض مثل قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]، وفي آية أُخرى:{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، فكيف تَجمَع المَعنيَيْن هنا، ففي هذه الآيةِ يُنكِرون، وفي الآية التي ذكَرْناها قبلُ لا يَكتُمون الله تعالى حديثًا، إذ قد يَأتي إنسان فيَقول: أنا لا أَعرِف وجهَ الجَمْع!!
ولكن الراسِخون في العِلْم يَعلَمون كيف يَجمَعون بين هذه وهذه، فالجَمْع بينهما أن يومَ القِيامة للناس فيه أحوال؛ لأنه يَومٌ مِقدارُه خَمسون ألفَ سَنَةً، فمَرَّةً يَكتُمون ومرَّةً يُقِرُّون ولا يَكتُمون الله تعالى حديثًا.
ومن ذلك أيضًا ذكَر الله أنه {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه: 102]، وقال تعالى:
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] فكيف نَجمَع، فإنه مرَّةً يَقول: تَسوَدُّ، ومرَّةً يَقول: زُرْقًا؟
الجَواب: أن يُقال: إن بعضهم هكذا وبعضهم هكذا، أو إنهم في وقتٍ يَكونون زُرقًا، وفي وقتٍ يَكونون سُودًا، أو أن الأزرق الداكِن يَكون مائِلًا إلى السَّواد فيُطلَق عليه أنه أسودُ، أو أن الزُّرقة في عُيونهم والسَّواد في بقية الجِسْم، وما أَشبَه ذلك.
فالمُهِمُّ: أن الراسِخين في العِلْم يَعرِفون كيف يَجمَعون، لكن غيرهم يَكون خَفيًّا عليهم؛ ولهذا يَقول العُلَماء رحمهم الله: إن القُرآن وُصِف بالتَّشابُه على سبيل العُموم وبالإِحْكام على سبيل العُموم، ووُصِف بأن بعضَه مُحكَم وبعضه مُتشابِه، والجَمْع للراسِخين في العِلْم.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أن القرآن قد بلَغ الغايةَ في البَلاغة؛ لكونه يَأتي مَثانيَ.
ويَتفرَّع على هذه الفائِدةِ: أنه يَنبَغي لمَن تَكلَّم في مَوْعِظة الناس أن لا يَأتِيَ بالتَّرغيب المُطلَق ولا بالتَّرهيب المُطلَق، وذلك أنه إذا أتَى بالتَّرغيب المُطلَق حمَلهم على الرَّجاء فتَهاونوا، وإذا أتَى بالتَّرهيب المُطلَق حمَلهم على اليَأْس فقنَطوا من رحمة الله تعالى، فالذي يَنبَغي للإنسان الذي يَتكلَّم مع الناس في المَواعِظ: أن يَكون يَتكلَّم أحيانًا بهذا وأحيانًا بهذا حتى لا يَحمِل الناسَ على القُنوط أو على الرَّجاء الذي يُوجِب الأَمْن من مَكْر الله تعالى.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أن المُؤمِن يَتأثَّر بالقُرآن، ويَقشَعِرُّ منه جِلْده، ويَخاف، ثُمَّ بعد ذلك تَرجِع إليه الطُّمأنينة ويَلين قَلْبه.
ويَتفرَّع على هذه الفائِدةِ: أنك إذا رأَيْت نَفْسك على غير هذه الحالِ فاعلَمْ أن
إيمانك ضعيف؛ لأن هذا الخبَرَ خبَرٌ من الله عز وجل، فلا يُمكِن أن يَتخَلَّف مُخبِره فكل مُؤمِن يَقشَعِرُّ جِلْده ممَّا يَسمَع من القُرآن الكريم في الوعيد، وإذا لم تَكُن كذلك فإن إيمانَك ضعيف.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أن ذِكْر الله عز وجل سبَبٌ للِين القُلوب وطُمأْنِينتها؛ لقوله تعالى: {تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، ويَشهَد لهذا قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: امتِنان الله عز وجل على هَؤلاء بالهِداية؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} .
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: إثبات الأسباب؛ لقوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ} الباء للسبَبية كما تَقدَّم في التفسير، وإثبات الأَسباب هو المُوافِق للمَنقول والمَعقول:
أمَّا المَنقول فما أكثَرَ الآياتِ التي فيها إثبات الأَسباب مِثل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63]، وقوله تعالى:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17]، وقوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9]، والآياتُ في هذا كثيرةٌ.
والمَعقول كذلك يَدُلُّ على إثبات الأَسباب، وأن لها تَأثيرًا في مُسبَّباتها، فكُلُّنا يَعرِف أن ضَرْب الزُّجاج بالحجَر يَكسِره، وأن الزُّجاج انكَسَر بضَرْب الحجَر؛ وهذا خِلافًا لمَن أَنكَر الأسباب، وقال: إنه لا أثَرَ للأسباب في مُسبَّباتها، فإن قوله هذا خِلاف الشَّرْع وخِلاف العَقْل؛ حتى إنه قيل لهم: أَلَيْسَتِ الوَرَق تَحتَرِق بالنار؟ فقالوا: لا، تَحتَرِق عند النار لا بالنار! وقيل لهم: أَلَيْس الزُّجاج يَنكَسِر بالحجَر يُرمَى به؟ فقالوا: لا، يَنكَسِر عند الحجَر لا بالحجَر. قالوا: لأننا لو أَثبَتْنا تَأثير الأسباب
في أسبابها لأَشْرَكْنا بالله تعالى، وجعَلْنا معه فاعِلًا مُؤثِّرًا! ولا أحَدَ يَرضَى أن يُشرِك بالله تعالى شيئًا!.
وجَوابُنا على هذه الشُّبْهةِ أن نَقول: إن الأسباب لم تُؤثِّر بذاتها، وإنما أَثَّرَت بما أَودَع الله تعالى فيها من القُوة؛ والدليلُ على هذا أن الله تعالى قال لنار إبراهيمَ عليه السلام:{كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا} [الأنبياء: 69]، فكانت بَرْدًا وسلامًا ولم تُحرِق، فإذا قُلنا: إن هذه الآثارَ المُترتِّبة على الأسباب إنما هي بما أَوْدَع الله تعالى في هذه الأسبابِ من القُوَّة المُؤثِّرة، فإننا بذلك لم نُشرِك بالله تعالى.
وتَطرَّف آخَرون من وجهٍ آخَرَ فقالوا: إن للأسباب تَأثيرًا بذاتها، وإننا نَعلَم أن الحجَر إذا أُرسِل على الزُّجاج كسَره بنَفْسه. ولكن هؤلاءِ همُ الذين جعَلوا مع الله تعالى شُرَكاءَ فإننا نَقول: هذا الحجَرُ لو شاء الله تعالى أن لا يَكسِر الزُّجاجة لم يَكسِرها كما أن الله تعالى لمَّا شاء أن لا تُحرِق النارُ إبراهيمَ عليه السلام لم تُحرِقه.
فأهلُ السُّنَّة والجماعة وسَطٌ بين هاتين الطائِفتَيْن المُتطرِّفتين؛ الغالية في الأسباب، والغالية في مَشيئة الله تعالى، فنَقول: الأسبابُ مُؤثِّرة، لكن بمَشيئة الله تعالى.
الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إثبات أن الهِداية بمَشيئة الله تعالى؛ لقوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} ، وهذه الآيةُ فَرْدٌ من أفراد أدلَّةٍ كثيرة تَدُلُّ على أن فِعْل العَبْد واقِعٌ بمَشيئة الله تعالى، ومن ذلك قوله تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 28، 29].
وهذا المَوطِنُ حصَل فيه مُعتَرَكٌ عظيمٌ جِدًّا بين ثلاثة طوائِفَ: طائِفتان مُتطَرِّفتان وطائِفةٌ مُعتَدِلة:
الطائِفتان المُتطَرِّفتان: إحداهما قالت: إن الإنسان يَشاء عمَله، ولا عَلاقةَ لله تعالى به، فالإنسان حُرٌّ يَتصرَّف كما يَشاء، وليس لله تعالى فيه تَدخُّل إطلاقًا هو يَهدِي نفسه، وهو يُضِلُّ نَفْسه. قالوا: ولولا ذلك لكان تَعذيب الله تعالى للعاصي ظُلمًا وثوابه للطائِع عبَثًا؛ لأنك إذا قُلت: إن الإنسان ليس بحُرٍّ، فهو مُدبَّر، والمُدبَّر لا يُحمَد على فَضْل، ولا يُذَمُّ على سوء.
ومن المَعلوم: أن الله تعالى رتَّب الذَّمَّ على العاصي والمَدْح على المُطيع، فهذا يَدُلُّ على أن فِعْل العَبْد فِعْلٌ مُستَقِلٌّ.
أمَّا المُتطرِّفون الآخَرون فقالوا: إن الإنسان لا مَشيئةَ له، ولا قُدرةَ له، ولا اختِيارَ له في فِعْله، بل هو مُجبَرٌ عليه عاجِزٌ عن المُخالَفة يُجبَر جبرًا؛ فيَأكُل جَبْرًا، ويَشرَب جبرًا ويَتقدَّم جبرًا، ويَتأخَّر جبرًا، وليس له اختِيار على أيِّ حال، وتعذيب الله تعالى للظالِم ليس ظُلْمًا، وإن كان الظالِم يَفعَل بغير اختِياره؛ لأن تَعذيب الله تعالى له تَصرُّفٌ في مِلْكه، والله عز وجل يَفعَل ما يَشاء، لا مُعقِّب لحُكْمه، فحينئذٍ لا يَرِد علينا ما استَدَلَّ به الطرَف الأوَّل الذي قال: لو كان الإنسان غير مُطلَق الحُرِّية لكان تَعذيب العاصي ظُلمًا، وإثابة الطائِع لَغوًا.
ونحن نَقول: إن تعذيب الظالِم ليس بظُلْم، وإن كان مُجبَرًا؛ لأن الله تعالى مالِكه يَفعَل فيه ما يَشاء كما أنت تَفعَل في مِلْكك ما تَشاء؛ فتَهدِم البيت، وتَبني البيت، وتَبيع السَّيَّارة، وتَشتَري بدَلها، وما أَشبَه ذلك.
فالطرَف الثاني يُسمَّوْن: الجَبْرية، والطرَف الأوَّل يُسمَّوْن: القدَريَّة، وسُمِّيَ الطرَف الأوَّل: القَدَرية؛ لأنهم يُنكِرون قَدَر الله عز وجل فيما يَتعَلَّق بفِعْل العَبْد، وسُمِّيَ هؤلاء: جَبْرية؛ لأنهم يَرَوْن أن العَبْد مُجبَر على عمَله.
ويَتساوَى عند هؤلاء مَن نزَل من السُّلَّم بتُؤدة وطُمأنينة دَرجةً دَرجةً ومَن دُفِع من أعلى السُّلَّم حتى انزخَّ (1) على وَجْهه، يَقولون: كلٌّ سواءٌ، كلٌّ مُجبَر.
أمَّا أَهْل السُّنَّة والجماعة فإنهم تَوسَّطوا في هذا، وقالوا: إننا نُثبِت الأدِلَّة الدالَّة على أن كل شيء واقِع بمَشيئة الله تعالى، ونُثبِت الأدِلَّة الدالَّة على أن للإنسان اختِيارًا وإرادةً، وبذلك نَجمَع بين الأدِلَّة، فنَقول: فِعْل العبد واقِعٌ بمَشيئته، لكن مَشيئته تَحت مَشيئة الله تعالى، فإذا شِئْت أنا شيئًا فإنني أَعلَم أن الله تعالى شاءَه، ولا يُمكِن أن أَعلَم بأن الله تعالى شاء شيئًا إلَّا بعد أن يَقَع؛ لأن قضاء الله تعالى سِرٌّ مَكتوم لا نَعلَم عنه، لكن إذا وقَعَ علِمنا بأن الله تعالى شاءَه، فأَنا لا أَشاءُ إلَّا ما شاء الله تعالى، ولكني في نَفْس الوقت لي حُرِّية أن أَشاء ما شِئْت إلَّا أنني أُومِن بأن مَشيئتي هذه كانت بمَشيئة الله تعالى.
ويَدُلُّ لهذا: أن الإنسان أحيانًا يَعزِم على فِعْل شيء، وبين ما هو مُتَّجِهٌ له إذ انتقَضَت عَزيمته إلى اتِّجاهٍ آخَرَ أو إلى إلغاء العمَل؛ إِذَنْ فهناك سُلْطة فوقَ سُلْطته، لكِنَّ هذه السُّلطةَ غير مَعلومة، ولا تُعلَم إلَّا بآثارها؛ وقد قيل لأَعرابيٍّ: بمَ عرَفْت ربَّك؟ قال: بنَقْض العَزائم، وصَرْف الهِمَم. فهذا أَعرابي بدَويٌّ أَجاب بهذا الجوابِ العَجيب: عرَفْت ربِّي بنَقْض العزائِم، يَعنِي: أَعزِم على الشيء ثُم تَنتَقِض عَزيمتي بدون سبَب، وصَرْف الهِمَم، أي: أَهِمُّ بشيء إلى اليَمين، ثُم أَجِدني مُنصرِفًا إلى اليسار بدون سبَب إلَّا من الله عز وجل.
فأَهْل السُّنَّة والجَماعة يَقولون: الإنسان يَشاء ويَختار، وليس مُجبَرًا، لكن أي شيء يَشاؤُه فهو بعد مَشيئة الله تعالى نَعلَم أن ذلك بمَشيئة الله تعالى، وهذا هو الذي
(1) انزخ: أي دُفع ورُمي إلى مكان منخفض. تاج العروس (زخخ).
تَطمَئِنُّ إليه النَّفْس، وتَجتَمِع به الأدِلَّة.
فإن قال قائِل: إِذَن يَكون قول المُشرِكين: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]؛ لأننا لمَّا عبَدْنا غيرَ الله تعالى: علِمنا أنَّ الله تعالى شاء ذلك، وليس لنا القُدرة في مُخالَفة المَشيئة، فهل هذا صحيح؟
فالجَوابُ: أَقولُ: لا، بل هذا حُجَّة داحِضة أَبطَلها الله عز وجل ويُبطِلها العَقْل، فأَبطلَها الله تعالى بقوله:{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام: 148]، وفي آية أخرى قال تعالى:{كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35].
فلمَّا أَبطَلها الله تعالى شَرْعًا، نَنظُر هل هي باطِلة عَقْلًا أو لا؟
نَقول أيضًا: هي باطِلة عَقْلًا؟ لأنك لم تَعلَم أن الله تعالى ما قضَى عليك بعِبادة الأصنام إلَّا بعد العِبادة، فلماذا لم تَعدِل عن عِبادة الأصنام وتُقدِّر أن الله تعالى قضَى عليك بتَرْك عِبادة الأَصْنام؟! فإِقدامُك على عِبادة الأصنام وأنت لم تَعلَم أن الله تعالى كتَب ذلك هو منك وأنت الذي أرَدْتَه، ولو أنك قدَّرْت الأفضَل والأحسَن، وأن الله تعالى قدَّر أن تَكون مُوحِّدًا مُجتَنِبًا لعِبادة الأصنام لحصَل لك ذلك.
ثُمَّ إننا نَقول: هناك أيضًا دَليل حِسِّيٌّ؛ فلو خُيِّر الإنسان بين شَيْئين أحدُهما أفضَلُ من الآخَر سيَختار الأفضَل، وهل يُمكِن لشَخْص أن يَختار الأَردَأَ ويَقول: هذا الذي قُدِّر لي؟! أبَدًا.
ولو قيل له: لِمكَّةَ طُرُق، طريقٌ آمِن وطريق مَخُوف. فقال: نَذهَب مع الطريق المَخوف؛ لأن الله تعالى كتَب علينا هذا!! فهل هذا يُمكِن أو لا يُمكِن؟
الجَوابُ: لا يُمكِن أبَدًا، بل سيَسلُك الطريق الآمِن بلا شَكٍّ.
ولو عُرِض عليه عمَلانِ في وظيفة مثَلًا أحَدُ العمَلَيْن شاقٌّ وأُجرَتُه قليلة، والثاني خَفيف وأُجْرته كثيرة، فسيَختار الثانيَ بلا شَكٍّ.
فهذه أدِلَّة مَحسوسة تَدُلُّ على أن الاحتِجاج بالقَدَر على المَعاصي أو على تَرْك الواجِبات احتِجاجٌ باطِل لا يَستَقيم، لا شَرْعًا ولا عَقلًا ولا حِسًّا، فهذا هو مَذهَب أهلِ السُّنَّة والجماعة؛ يَقولون: نحن نَفعَل باختِيارنا، ولكن اختِيارنا نَعلَم أن الله تعالى قدِ اختاره لنا قبل أن نَختاره نحن إلَّا أنه لا حُجَّةَ لنا في أن نَقول: هذا مُختار الله تعالى لنا، فلا نَستَطيع أن نَتخَلَّص منه لأننا حين الفِعْل لم نَعلَم ما قدَّر، ولا يُمكِن لأيِّ إنسان يَدرِي أن الله تعالى قدَّر شيئًا إلَّا بعد الوقوع؛ ولهذا قال الله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، فجعَلهم السبب في ذلك.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أنه يَنبَغي للإنسان - وهذه فائِدة مَسلَكية - أن يَلجَأ إلى الله تعالى وحدَه في طلَب الهِداية؛ لقوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} ، فأنت لا تَعتَمِد على نَفْسك فتَهلِك، بلِ اعتَمِد على ربِّك، واتَّجِه إليه دائِمًا في سُؤال الهِداية حتى يَهديَك الله تعالى، وكان النبيُّ عليه الصلاة والسلام وهو الهادِي المَهديُّ - يَستَفتِح ويَقول:"عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمْ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لمِا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"(1) فهذا وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم! فكَيْف بنا نحن! فعليك أن تَلجَأ إلى ربِّك في طلَب الهِداية، وألَّا تَعتَمِد على نفْسِك، بلِ اعتَمِدْ على الله عز وجل، فإن الله تعالى مَرجِعك.
(1) أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم (770)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أن مَن يُضِلُّه الله تعالى فلا هاديَ له؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ، وفي آية أُخرى:{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر: 37].
فإن قال قائِل: أفلا يُوجِب لنا هذا الحُكْمُ أن نَتَوقَّف عن دَعوة الناس إلى الحَقِّ؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ؟
فالجَوابُ: لا يُوجِب، لكن الفائِدة من ذلك أننا إذا دعَوْنا أحَدًا للحَقِّ ولم يَقبَل فإننا لا نُهلِك أَنفُسنا من أَجْله، بل نَقول: هذا قد قَضَى الله تعالى عليه بالضَّلال، وليس لنا في أَمْره من شَأْن؛ ولهذا نَجِد الله عز وجل يَقول لنبيِّه مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]، أي مُهلِك نَفْسك ألَّا يَكونوا مُؤمِنين، فلا تُهلِك نَفْسك، وأَنزَل الله تعالى عليه تَسليةً حين دعا عمَّه أبا طالِبٍ ولم يَهتَدِ، فقال تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56].
وحينئذٍ لا يَمنَعنا مثل هذا الحُكمِ أن نَدعوَ إلى الله تعالى، ولكن إذا دعَوْنا إلى الله تعالى ولم نَجِد الناس اهتَدَوْا فإننا لا نُكلِّف أَنفُسنا، ولا نُهلِكها بالهَمِّ والغَمِّ؛ لأن الإنسان إذا نظَر هذه النَّظرةَ سوف تَتَكدَّر عليه دُنياه، بل سَوْف يَضيع عمَله الصالِح؛ لأن الناس ليسوا بمُهتَدين على ما يُريد، فإذا أَتعَب نَفْسه وراءَ الناس، وصار يَلهَث وراءَهم تَعِبَ، فالواجِب عليه أن يَبذُل ما يَجِب عليه، والباقي على الله عز وجل.
وبالنِّسبة لمَن يَدعو الناس والناس لم يَهتَدوا، فعليهم أن يَستَمِرُّوا؛ لأن الله عز وجل قد يُؤخِّر هِدايتهم إلى أجَلٍ مُسمًّى.
وبخُصوص مَن لم يَصِلهم الإسلام فهؤلاءِ كفَّار، لكن لعُذْرهم بعدَم وُصول الرِّسالة إليهم يُكلِّفهم الله تعالى يومَ القيامة بما شاء من أنواع التَّكليف، ثُم إنِ اهتَدَوْا
في ذلك الوقتِ فهم من أهل الجَنَّة، وإن ضلُّوا فهُمْ من أهل النار، هذا أصَحُّ ما قيل في الجَواب عن هؤلاء، أَعنِي: أَهل الفَتْرة والذين بعد الرِّسالة، ولكن لم تَبلُغهم؛ فالصحيح: أنهم يُمتَحَنون يوم القِيامة بما شاء الله تعالى من التكاليف التي لا نَعلَمها، ثُمَّ إنِ اهتَدَوْا فنَجَوْا وإلَّا عُوقبوا.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أن اسمَ الهادِي يُطلَق على غير الله تعالى؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ، وكما قال تعالى:{وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، فالهادِي تُطلَق على الله تعالى وعلى غيره، لكن الذي يَمتَنِع إطلاقه على غيره هو هِداية التَّوْفيق، فإن هِداية التَّوْفيق لا تَكون إلَّا لله تعالى وحدَه، أمَّا هِداية الدَّلالة فإنها تَكون لله تعالى ولغيره.