الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مثل أن يَتوب الإنسان مثَلًا من نظَر المَرأة الأجنبية، لكنه لا يَتوب من غَمْز المَرأة الأجنبية، فالتَّوْبة الأُولى لا تُقبَل؛ لأنه لم يَتُبْ من الذَّنْب الذي هو من جِنْس ذَنْبه، وكذلك إذا تاب الإنسان مثلًا من رِبا النَّسيئة، ولكنه رابَى رِبَا الفَضْل، فهذه توبة غيرُ نَصوحٍ.
ولهذا نَقول: مَن تاب إلى الله تَوْبةً نَصوحًا فإنه مَقبول التوبة، ومَنِ اختَلَّ فيه النُّصْح فليس مَقبولَ التوبة.
وقوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} هذه الجُملةُ مَوْقعها ممَّا قَبْلَها أنها تعليلٌ للنَّهيِ عن القُنوط، يَعنِي: لا تَقنَطوا فإن الله تعالى يَغفِر الذنوب جميعًا إذا استَغفَرْتُموه، وقوله تعالى:{إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} تعليلٌ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} ، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} تعليل لقوله تعالى: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} فهو تَعليلٌ لتَعليلٍ.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: وُجوب إبلاغَ الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى هذا القولَ، ويُؤخَذ ذلك من قوله تعالى:{قُلْ} ؛ لأن الأصل في الأَمْر: الوجوب، لا سيَّما وأن هذا إبلاغٌ للرِّسالة، وإبلاغ الرسالة واجِبٌ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: عِناية الله عز وجل بهذا الأَمرِ، أي: بإبلاغ عِباده أنه يَغفِر الذُّنوب جميعًا، حيث أمَرَ نَبيَّه أمرًا خاصًّا بأن يُبلِغ الناس بالإِسلام، بأن يُبلِغ الناس هذه القَضيةَ، فالقُرآن كلُّه أُمِرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُبلِغه؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، لكن هناك أشياءُ خاصَّة يَنُصُّ الله تعالى عليها أن يُبلِغها،
وهذا يَقتَضي العِناية بها، مثل قوله تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 30 - 31]، وقوله تبارك وتعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا} [الزمر: 53]، فهذه تَوْصية خاصَّة بأن يُبلِغها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأُمَّة، فيَقتَضِي ذلك العِناية بهم.
ولْيُنتَبَهْ لهذه النُّقْطةِ: فإذا صدَّر الله تعالى الحُكْم بـ {قُلْ} دليل على العِناية به؛ لأن هذا أَمْر بإبلاغه على وجه الخُصوص، أمَّا القرآن فأُمِر أن يُبلِغه على سبيل العُموم؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أن الخَلْق كلَّهم عِباد الله تعالى {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} ؛ لأن العِباد هنا المُراد بها: العِبادة العامة.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن مَن تاب إلى الله تعالى تاب الله تعالى عليه من الشِّرْك فما دونَه، وهذا أمرٌ مُجمَعٌ عليه، لكن اختَلَف العُلَماءُ رحمهم الله فيمَن قتَل نَفْسًا عمدًا هل له من تَوْبة؟
فرُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لا تَوبةَ لقاتِل (1)، فأَخَذ بها بعض العُلَماء رحمهم الله وقالوا: إن القاتِل لا تَوبةَ له ولو تاب، ولكن هذا ليس بصحيح؛ لأنه مُخالِف للآيات والأحاديث الدالَّة على قَبول توبة التائِب من الشِّرْك فما دونَه.
ويَدُلُّ على بُطلان هذا القولِ قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
(1) أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قوله:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} ، رقم (4764)، ومسلم: كتاب التفسير، باب، رقم (3023).
عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68 - 70].
فهُنا ذكَر الله تعالى القَتْل، وذكَر الشِّرْك، وذكَر الزِّنا، وأَخبَر أن مَن تاب وآمَن وعمِل عمَلًا صالِحًا فيُعطَى زِيادةً على تَوْبته بأن يُبدِّل الله تعالى سيِّئاتِه حَسَناتٍ.
ومن السُّنَّة: ما قصَّه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجُلٍ أَسرَف على نَفْسه فقَتَل تِسعًا وتِسْعين نَفْسًا، ثُم سأَل عابِدًا من العُبَّاد: هل له من تَوْبة وقد قتَل تِسْعًا وتِسْعين نفسًا؟ فاستَعظَم العابِد هذا الذَّنبَ، وقال: ليس لك تَوْبة، تَقْتُل تِسعًا وتِسْعين نَفْسًا، ثُمَّ تَأتِي لتَقول: لي تَوْبة؟! ليس لك تَوْبة! فأَكمَل به المئة فقتَلَه، فأَتَمَّ به المئة؛ ثُمَّ دُلَّ على عالِمٍ، فسَأَله قال: إنه قتَل مئة نَفْس فهل له من تَوْبة؟ قال: نعَمْ، ومَن يَحول بينَك وبين التَّوْبة؟!
وهذا يَدُلُّكم على فَضْل العِلْم، وعلى قُبْح الجَهْل، فالجاهِل جنَى على نَفْسه، وأَيَّس هذا الآخَرَ من رحمة الله تعالى، فكان جَزاؤُه أن قُتِل.
فقال له العالِم: نعَمْ، ومَن يَحول بينك وبين التَّوْبة، ولكن أنت في قَرْيةٍ أهلُها ظالِمون اذهَبْ إلى القَرية الفُلانية - يَعنِي: فإنها مَرتَعٌ خَصْب لك - فذهَب، وفي أثناء الطريق جاءَه المَوْت، فأَرسَل الله تعالى إليه مَلائِكة الرحمة ومَلائِكة العَذاب فتَنازَعوا، فمَلائِكة الرحمة تَقول: أنا أَقبِض رُوحه؛ لأن الرجُل جاء تائِبًا مُهاجِرًا، ومَلائِكة العَذاب قالت: أنا أَقبِض رُوحه؛ لأن الرجُل مُسرِف ولم يَصِل إلى بلده الذي هاجَر إليها.
فأَرسَل الله تعالى إليهم حَكَمًا يَحكُم بينهم، وقال: قيسوا ما بين القَرْيتين فإلى أَيَّتِهما كان أقرَبَ فهو من أهلها، فقاسوا فوجَدوه أقرَبَ إلى القَرية الصالِحة بقليل
- بنحو شِبْر -، وقد قيل: إنه كان إلى غير الصالِحة أقرَبَ، لكنه في سِياق الموت من شِدَّة رَغْبته في الأرض الصالِحِ أهلُها كان يُزَحزِح نَفْسه، فقَبَضَتْه مَلائِكة الرحمة (1).
قالوا: فإذا كان هذا في الأُمَم السابِقة فهذه الأمةُ أَكرَمها الله تعالى من الأُمَم السابِقة، فكيف لا يَكون لها تَوْبة للقاتِل تَوْبة؟!
إذَنِ القول الراجِحُ: أن الآية هذه عامَّة حتى للقاتِل له تَوْبة، وقد حمَل ابنُ القيِّم (2) رحمه الله ما رُوِيَ عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما مَحمَلًا حسَنًا، فقال: إن قَتْل العَمْد تَتَعلَّق به ثلاثة حُقوق: حقُّ الله تعالى، وحقُّ الميت، وحقُّ أَوْليائه: أمَّا حقُّ الله تعالى فإنه يَسقُط بالتَّوْبة بلا إشكالٍ، ولا يَخفَى مثل هذا عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما؛ وأمَّا حقُّ الميت فلا يُمكِن إسقاطه الآنَ في الدنيا؛ لأنه انتَقَل عن الدُّنيا وسيُطالِب بحقِّه يومَ القيامة؛ وأمَّا حقُّ أَوْلياء المَقتول بأن يُسلِّم نَفْسه لهم، فإذا سلَّم نَفْسه لهم، فهذا دليل على صِدْق تَوْبته وتَبرَأ ذِمَّته؛ هذا ما وجَّه ابنُ القيِّم رحمه الله كلامَ ابنِ عباس رضي الله عنهما إليه.
وعِندي أنه إذا تاب: تاب الله عليه حتى عن حقِّ الميت المَقتول، والله عز وجل يَتَحمَّل حقَّ المَقتول يوم القِيامة ويُرضِيه.
وذلك لعُموم الأدِلَّة الدالَّة على أن مَن تاب من الذَّنْب وإن عظُم فإن الله تعالى يَتوب عليه، فإذا جاء هذا الرجُل تائِبًا وسلَّم نَفْسه لأَوْلياء المَقتول وقال: أنا الآنَ بين أيديكم إن شِئْتم القِصاص أو الدِّيَة أو العَفْو، فهذا أعلى ما يَقدِر عليه، وقد قال الله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
(1) أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم (3470)، ومسلم: كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل، رقم (2766)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
الجواب الكافي (ص 146 - 147).
فالقولُ الصحيحُ عندي: أنه يُعفَى عنه حتى حق المَقتول، وذلك بأن يَتَحمَّله الله تعالى يومَ القِيامة.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أن المُذنِب مُسرِفٌ على نَفْسه ظالِمٌ لها؛ لقوله تعالى: {أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} ، ويَدُلُّ لهذا قوله سبحانه وتعالى:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101].
والعَجيب: أن الظالِم لنَفْسه بالمَعصية إذا قِيل له: لماذا؟ قال: هذا القَضاءُ والقدَر! عسَى الله تعالى أن يَهدِيَني! وإذا ظلَمه أحَد بالضَّرْب فقال: لِمَ تَضرِبُني؟ قال: والله يا أخي، هذا قَضاء وقدَر؛ فلا يَرضَى بهذه الحُجَّة، وهو بظُلْمه لنَفْسه يَرضَى، وهذا تَناقُض عَجيب؛ يَعنِي: إذا ظلَمْت نَفْسك أَبَحْت أن تَحتَجَّ بالقَدَر، وإذا ظلَمك غيرُك لم تُبِحْ له أن يَحتَجَّ بالقدَر، وهذا جَوْر في الحُكْم وتَناقُض، فكيف تَرضَى أن تَظلِم نَفْسك ولا تَرضَى أن يَظلِمك غيرُك ويَحتَجَّ بالقدَر؟!.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: تَحريم القُنوط من رحمة الله؛ لقوله تعالى: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} ، وجهُ الدَّلالة: أن الأصل في النَّهيِ التحريمُ، وقد دلَّتِ السُّنَّة على أن القُنوط من رحمة الله من كبائر الذُّنوب؛ لأنه ظنَّ ما لا يَليق بالله جَلَّ وَعَلَا، فإن اللائِق بالله عز وجل أن مَن لَجَأ إليه فإنه أَكرَم الأكرَمين لا يُخيبه، فإذا قنَطْتَ من رحمته فقد استَهَنْتَ بحَقِّه سبحانه وتعالى؛ ولهذا كان القُنوط من رحمة الله من كبائِر الذُّنوب.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: إثبات الرحمة لله تعالى؛ لقوله تبارك وتعالى: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} ، والرحمة نوعان: مَخلوقة، وغيرُ مَخلوقة، فما كان من الإنعام والإحسان فهو مَخلوق، وما كان صِفةً للربِّ فهو غير مَخلوق؛ ولهذا قال الله تبارك وتعالى في الجَنَّة:
"أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءَ"(1)، مع أن الجَنَّة مَخلوقة، لكنها من آثار الرحمة.
وإذا وُلِد لشَخْص ولَدٌ، أو عاد إليه ضالٌّ من ماله، أو ضائِع من ماله، قال: والله هذا رحمة الله. فهذه الرحمةُ مَخلوقة؛ لأنها إحسان وإنعام، فإذا أُطلِقَتِ الرحمة على الإحسان والإنعام فهي مَخلوقة، وإذا أُطلِقَت على صِفة الله تعالى فهي غير مَخلوقة.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أن رَحمة الله تعالى سبَقَتْ غَضَبه، وذلك بكونه يَغفِر الذُّنوب جميعًا بالتوبة.
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أن الذُّنوب مهما عظُمت فإن الله يَغفِرها؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} كلَّ الذُّنوب؛ لأن الله تعالى ذكَرها بـ {الذُّنُوبَ} ، وأكَّد هذا العُمومَ بقوله تعالى:{جَمِيعًا} ، لكن هذا في حقِّ التائِبين.
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: أن ظاهِرها مَغفِرة الذُّنوب للتائِبين وإن كان الذَّنْب للمَخلوق، يَعنِي: لو اعتَدَيْت على شخص ثُم تُبتَ إلى الله تعالى فإن الله تعالى يَتوب عليك، ولو كان الذَّنْب للمَخلوق، لكننا اشتَرَطْنا أن تَتَوب، ومن تَمام التَّوْبة: أن تُوفَّيَ للمَخلوق حقَّه إن قدَرْت عليه، فإن لم تَقدِر عليه فأَوْفِه ولو بظَهْر الغَيْب.
ونحن نَضرِب لهذا مثَلًا: فإذا أَخَذت من شخصٍ مالًا بغير حَقًّ فهذا ذَنْبٌ فإذا تُبْت إلى الله تعالى يَغفِر الله تعالى لك الذَّنْب لا شَكَّ، لكن من تَمام التوبة أن تُوصِّل المال إلى صاحِبه، فإن مات فإلى ورَثَته، وإذا أدَّيْت إلى ورَثَته بَرِئَت ذِمَّتك منه.
لكن بَقِي ظُلْمك للمَيِّت الذي حُلْت بينه وبين ماله، هل تُحاسَب عليه أو لا تُحاسَب؟ إن قُلْت: لا تُحاسَب فسيَقول لك قائِل: كيف يَتَخلَّص الإنسان من ظُلْم
(1) أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ} ، رقم (4850)، ومسلم: كتاب الجنة، باب النار يدخلها الجبارون، رقم (2846)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الميت الذي حال بينه وبين ماله؟ وهذا صحيح؛ فأنت وإن بَرِئَت ذِمَّتك بأداء المال إلى مُستَحِقِّه بعد موت صاحِبه، لكن المُشكِل أن صاحبه حِيل بينه وبينه في حال حَياته، لو كان عنده لاشتَرى بيتًا، أوِ اشتَرى سَيَّارة، أو تَزوَّج، فحُلْت بينه وبينه، فهل يَسقُط عنك حقُّه بتَوْبتك أم لا؟
نَقول: ظاهِر الآيات الكريمة: أنه يَسقُط حقُّه عنك أنت، لكن الله تعالى يُوفِّيه من عنده؛ لأنك الآنَ لا تَستَطيع أن تَتَوصَّل إلى هذا الميتِ لتُعطِيَه حقَّه، والذي تَستَطيعه أن تُؤدِّيَه إلى ورَثته وقد فعَلْت.
مثالٌ آخَرُ: أخَذْت مالًا من شَخْص، ثُمَّ نَسِيت الشخص، ثُم تُبْت، فما هو الطريق إلى التوبة، أو الخُروج من حَقِّ الرجُل؟
الجَواب: أتصدَّق به عنه، وإذا تَصدَّقت به عنه استَفاد من هذا المالِ في الآخِرة.
لكن قد يَقول قائِل: لكنك حُلْت بينه وبينه في الدنيا، وقد يَكون له غرَضٌ في المال في الدنيا.
فأَقول: نعَمْ، أنا حُلْت بينه وبينه في الدنيا، لكِنْ عَجْزًا مِنِّي أن أَصِل إليه، والذي قَدَرْته من التَّوْبة فعَلْته، وهو الصَّدَقة به عنه؛ فهل يَبرَأ بَراءةً تامَّة بحيث لا يُطالِبه صاحِب المال في الآخِرة؟ الجَوابُ: نَقول ظاهِر النُّصوص: نعَمْ، يَبرَأ.
مثالٌ آخَرُ: قتَلْت نَفْسًا، ثُم تُبْتَ إلى الله عز وجل من قَتْل النفس، فمِن تمَام توبتك أن تُسلِّم نَفْسك لوَرَثة المَقتول، تَقول: أنا الذي قتَلْت صاحِبَكم، وأنا الآنَ بين أيديكم. فإذا سلَّمْت نَفْسَك له بَرِئَت ذِمَّتك، لكن يَبقَى عندنا حقُّ المَقتول الذي حُلْت بينه وبين بَقائه في الدُّنيا، فهل تَبرَأ منه بالتَّوْبة؟
الجَوابُ: نعَمْ تَبرَأ منه بالتَّوْبة؛ لعُموم الآية، لكن لا يَضيع حقُّ المَقتول، بل يَتَحمَّله الله سبحانه وتعالى عنك له، وهذا من فَضْل الله سبحانه وتعالى أن يَعفوَ عن حقِّه ويَتَحمَّل عنك حقَّ الآخَرين.
فإذا قال قائِل: ما هو الدليل على ما قُلْتم، وكيف يَسقُط عنه حقُّ الآدَميِّ؟
قُلنا: الدليل على هذا قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] هنا فيها حقٌّ لله تعالى، وحقٌّ للمَخلوق بالدَّمِ، وحقٌّ للمَخلوق بالعَرْض إن كان قد زنَى مُكرَهًا بالمَزنيِّ بها، وقد قال عز وجل:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 68 - 70]، حتى في القاتِل يُبدِّل الله تعالى سيِّئاتِه حسَناتٍ.
فإذا قيل: كيف يَضيع حَقُّ المَقتول؟
فالجَوابُ: لا يَضيع؛ لأن الله تعالى يَتَحمَّله عنه، وهذا من فَضله تبارك وتعالى.
إذن نَقول: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} ظاهِر الآية: العُموم، يَغفِر الذُّنوب جميعًا سواءٌ ممَّا يَتعَلَّق بحقِّ الله تعالى، أو بحَقِّ العِباد، لكن ما يَتَعلَّق بحقِّ العِباد إذا تَعذَّر إيصاله إليهم في الدُّنيا فإن الله تعالى يَتَحمَّله في الآخِرة.
مَسأَلةٌ: إذا اغتَبْت شَخْصًا فهل لا بُدَّ أن تَذهَب إليه؟
الجَوابُ: يَعنِي مع القُدْرة، وهذا الصحيحُ، لكن قال بعضهم: إذا اغتَبْت شخصًا لا بُدَّ أن تَذهَب إليه وتَستَحِلَّه مُطلَقًا. وبعضُهم فصَّل فقال: إن كان قد عَلِم
فلا بُدَّ أن تَستَحِلَّه لأنه حمَل عليك في نَفْسه، وإن لم يَكُن علِم فأَثْنِ عليه في المَواطِن التي كنت تَغتابه فيها ويَكفِي. وهذا التَّفصيلُ جيِّد؛ لأنك لو ذهَبْت إليه وقلت: إني اغتَبْتُك. وهو لم يَعلَم أَنشَأْت في نفسه عليك ما تُنشِئُه، لكن إذا استَغْفَرت له وأَثنَيْت عليه في المكان الذي أنت اغتَبْتَه فيه حصَل المَطلوب.
مَسأَلةٌ: إذا سرَق مُسلِم من كافِر ولم يَعلَم به فماذا يَفعَل؟
الجَوابُ: إن كان الكافِر حَرْبيًّا فالمال له، وإن كان له عَهْد فإنه يُسلِّمه إلى بيت المال؛ لأن بيت المال يَتقبَّل الأموال التي لا يُعرَف مالِكُها، فإن لم يَكُن هناك بيت مال فلْيَتخَلَّص منه بالصدَقة، لكن الكافِر لا يُثاب على هذه الصَّدَقةِ إلَّا إن أَسلَمَ.
الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إثبات اسمَيْن من أسماء الله تعالى عَظيمين يَقتَرِنان كثيرًا في القُرآن، هما:(الغَفور) و (الرَّحيم).
ووجهُ اقتِرانهما: أن بالأوَّل زوال المَكروه، وبالثاني: حُصول المَطلوب، فيَتَكوَّن من اجتِماعهما وَصْفٌ زائِد على الوَصْف عند انفِرادهما؛ لأنه إذا انفرَد (الغَفور) استَفَدْنا المَغفِرة منه وإن انفَرَد (الرحيم) استَفَدْنا الرحمة، لكن إذا اجتَمَعا استَفَدْنا فائِدة جديدة، وهي: أن مَغفِرة الله عز وجل مَقرونة برَحْمته، فهو جامِع بين المَغفِرة والرحمة.
وهذان الاسمان من الأسماء المُتعَدِّية {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} وأيضًا {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: 21]، والأسماءُ المُتعَدِّية قال العُلَماء رحمهم الله: لا يَتِمُّ الإيمان بها إلَّا بثلاثة أمور: الإيمان بالاسْمِ، والإيمان بما تَضمَّنه من صِفة، والإيمان بالحُكْم المُترَتِّب على تِلكَ الصِّفةِ، الذي يُطلَق عليه بعضهم: الأثَر.
فالإيمان بالاسم هنا (الغَفور) فنُؤمِن بأن الغَفور من أسماء الله تعالى؛ ونُؤمِن بأن لله تعالى مَغفِرة دَلَّ عليها اسمُ الغَفور، ونُؤمِن أيضًا بما تَضمَّنه ذلك؛ فإنه يَدُلُّ
على المَغفِرة ويَدُلُّ على العِلْم؛ لأنه لا يَغفِر ما لا يَعلَمه، ودَلالته على العِلْم من باب دَلالة الالتِزام؛ لأن المادَّة (غ. ف. ر) ليس فيها (ع. ل. م)، فيَكون هذا من باب الالتِزام.
إذَنِ: (الغَفور) اسمًا، و (المَغفِرة) وَصْفًا، و (يَغفِر الذُّنوب) حُكْمًا، وكذلك نُؤمِن بـ (الرحيم) اسمًا، وبـ (الرحمة) صِفة، وبأنه (يَرْحَم) حُكْمًا. غفَرَ الله تعالى لنا ولكُمْ ورَحِمنا وإيَّاكم.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أن أحكام الله تعالى من مُقتَضى أسمائه وصِفاته أحكامٌ جَزائية؛ فلِكَوْنه غَفورًا رحيمًا كان ذا مَغفِرة فغفَر لمَنْ تاب.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الإشارة إلى أن الإنسان بعد التَّوْبة قد يَكون خَيْرًا منه قبلَها وقبل فِعْل الذَّنْب؛ لقوله تعالى: {الرَّحِيمِ} ؛ لأن الرحمة تَقتَضي عَطاءً جديدًا، وهذا هو المُشاهَد، فإن الله عز وجل ذكَر عن آدَمَ أنه لمَّا عصَى ربَّه وغوَى وتاب قال:{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122]، وهذه المَنقَبة - وهي الاجتِباء والهِداية - لم تُذكَر له قبلُ.
والإنسان إذا أَذنَب ونَدِم يُحِسُّ من نَفْسه رجوعًا إلى الله تعالى وشِدَّة افتِقاره إليه، بخِلاف ما إذا كان مُستَقيمًا على طاعة الله تعالى فإنه لا يُحِسُّ بالرجوع إلى الله عز وجل والإنابة إليه، وربما يُصاب بالغُرور بأنه لم يُذنِب؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مُسلِم:"لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ ثُمَّ جَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ الله فَيَغْفِرُ لَهمْ"(1).
(1) أخرجه مسلم: كتاب التوبة، باب سقوط الذنوب بالاستغفار توبة، رقم (2749)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
إذن نَقول: إن الإنسان إذا تاب إلى الله تعالى فقَدْ يَكون بعد التَّوْبة خَيرًا منه قَبْلها، وقد يَكون بالعَكْس، لكن هذا أمرٌ حصَل قَدَرًا في آدَمَ، وكذلك شَرْعًا، كما تَدُلُّ عليه هذه الآيةُ:{إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .