الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حيث خسروا الاجتماع بهم في الآخِرَة.
قال الله عز وجل: {أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} إِيْ واللهِ، {أَلَا ذَلِكَ} وهذا التَّأكيد البالغ؛ فقوله:{أَلَا} أداة اسْتِفْتاح، والفائِدَة منها: التَّوْكيد والتَّنْبِيه {ذَلِكَ} إشارة للبُعْد؛ لأنَّه خُسْرانٌ سحيقٌ - والعياذ بالله - يعني لم يقل: ألا هذا، مع أن ذِكره قريبٌ لكنه خسرانٌ سحيقٌ، فأشير إليه بإشارَةِ البعد، ثم حَصَر، قال:{هُوَ الْخُسْرَانُ} يعني: لا غَيْره، ثم أكَّدَ بفداحَتِه فقال:{الْمُبِينُ} أي: [البَيِّن] الذي لا يَخْفَى على أحد، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الرَّابِحينَ.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
الْفَائِدَة الأُولَى: أنَّه ينبغي للإنسانِ أن يُعْلِنَ بالحَقِّ الذي هو عليه، ولا يبالِي بمن خالَفَه؛ لقوله:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} يعني: فلا أبالي بكم، أنا سأعبد الله وأسيرُ على الطَّريقَة السَّليمَة، وأنتم سيروا على ما شِئْتُم.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِن أشَدِّ النَّاس امتثالًا لأَمْرِ الله؛ لأنَّه قال فيما سبق: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُحْتاجٌ إلى العمل الذي يُنْجِيه من عذاب الله؛ لقوله: {مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} بالياء بالإضافَةِ، وهو كذلك، ولمَّا حَدَّث أصحابه بأنه:"لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ"، قالوا: ولا أَنْتَ يا رسول الله؟ قال: "وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَتِهِ"(1).
(1) أخرجه البخاري: كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، رقم (5673)، ومسلم: كتاب صفة القيامة، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، رقم (2816)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: تحريم عبادَةِ غَيْرِ الله؛ تؤخَذُ من قوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} لأنَّنا ذَكَرْنا أنَّ الأَمْرَ هنا للتَّهْديد، ولا تهديدَ إلا على شيء مخالِفٍ ومَعْصِيَةٍ.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: في قوله تعالى: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} إلخ؛ بيان أنَّ الخَسارة الفادِحَة التي ليس معها رِبْحٌ هي خسارة هؤلاء الذين خَسِروا أنْفُسَهم وأهليهم يومَ القِيامَة.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: الإشارَةُ إلى أنَّ الشِّرْكَ هو سبب هذه الخَسَارَة؛ لأنه تلا قوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ} .
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أنَّ أَهْلَ الشِّرْك يَوْمَ القيامة لا يَجْتَمِعون بأَهْليهم؛ لقوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} .
الْفَائِدَةُ الثَّامِنةُ: أنَّ عُمُرَ الإنسان حقيقةً هو ما أمضاه في طاعَةِ الله؛ ولهذا وصَف الله هؤلاء بأنَّهُم قد خَسِرُوا أَنْفُسَهم؛ لأنَّهُم لم يعملوا خيرًا.
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أنَّ هذه الخَسارَةَ أعْظَمُ خَسارةٍ تكون؛ لقوله: {أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .
فضمير الفصل حرفٌ ليس اسمًا على القَوْلِ الرَّاجِحِ، فليس له مَحَلٌّ من الإعراب، لكنه يُؤْتَى به لفوائِدَ ثلاثٍ:
الأولى: حتى لا يَشْتَبِهَ الخَبَرُ بالصِّفَة؛ يعني: يَفْصِل بين الخَبَر والصِّفَة، ويظهر هذا بالمثال؛ فلو قُلْتَ: زيدٌ الفَاضِلُ فهنا يُحْتَمَل أن يكون الفاضِلُ صِفَةً، وأنَّ الخبر محذوفٌ؛ أي: زيدٌ الفاضِلُ في البيت مثلًا، فإذا قلت: زيدٌ هو الفاضِلُ. تعَيَّن أن تكون الفاضِلُ خبرًا.
الثانية: الحَصْر؛ فإنك إذا قُلْتَ: زيدٌ هو الفاضِلُ؛ يعني: لا غيره، بخلاف لو قلت: زيدٌ الفاضِلُ، فهو فاضل وقد يكون غَيْرُه فاضلًا أيضًا.
الثالثة: التَّوْكيد؛ لأنَّ قَوْلَ القائِلِ: زيدٌ هو الفاضل، أَوْكَدُ من قوله: زيدٌ الفاضل.
أما هو فليس له محلٌّ من الإعراب؛ ودليل ذلك في القرآن؛ قال الله تعالى: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 40] ولو كان له مَحَلٌّ من الإعراب لكانَ مُبْتَدَأً ولَرُفِعَ الذي بعده، ولكانت الآيَةُ: لَعَلَّنَا نَتَّبعُ السَّحَرَةَ إن كانوا هُمُ الغالِبونَ.