الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (7)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر: 7].
ثم قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} أي: إنْ تكفروا بالله وبما يَجِبُ الإيمان به، فإنَّكُم لن تضروا الله؛ لأنَّ الله غَنيٌّ عنكم، ولم يَأمر الله سبحانه وتعالى العبادَ بعبادَتِه والإخلاص له لحاجَتِه إليهم، ولكن لمَنْفَعَتِهم هم؛ لأنَّهُم يُثابون على هذا أعظَمَ الثَّواب، ويَنْجُون به من العِقابِ، أما الله عز وجل فإنه لا يَضُرُّه إذا كَفَرَ كُلُّ الخَلْق، {إِنْ تَكْفُرُوا} ولو كل الخَلْق، {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} .
وقد جاء في الحديث القُدُسِيِّ: "يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُم ما نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا"(1)، لو كان النَّاس كُلُّهُم، بل البَشَر وغيرُ البشر لو كانوا على أَفْجَرِ قلبِ رَجُل لم يَنْقُص ذلك مِن مُلْك الله شيئًا، ولن يَضُرَّ اللهَ شيئًا.
ولهذا قال: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} ، ولا يرضى لهم أن يَكْفُروا بالله، وتَأَمَّل قوله:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ} ؛ يعني أنَّ الكُفُر أَمْرٌ لا يَليقُ بالعباد،
(1) أخرجه مسلم: كتاب البر، باب تحريم الظلم، رقم (2577)، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
فلا يَرضى لهم أن يَقوموا به؛ وذلك لأنَّ الله خَلَقهم، فكيف يَرضى للإنسان العاقِلِ أن يَصْرِف العبادة لغير الخالِق؟! ولهذا قال:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ} ولم يقل: مِن عباده، أو عن عباده؛ لأنَّ اللام أَبْلغ في كَوْن هذا الشَّيْء لا يليقُ بهم.
وقوله: {لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} العبودية تنقسم إلى قِسْمَيْنِ: عامَّة وخاصَّة، فمِن الأول - أي مِن العامِّ - قولُه تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]{إِنْ كُلُّ} [مريم: 93](إن) هنا بمعنى (ما)، وعلامةُ (إن) التي بمعنى (ما): أنْ يأتي بعدها (إلَّا)، قال تعالى:{إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 23]؛ يعني: ما أنت إلا نذيرٌ؛ فقوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] هذه مِن العبودية العامَّة، حتى الشياطينُ والكُفَّار كُلُّهم عِبادُ الله بالمعنى العام، أما القِسْم الخاصُّ بالعبادة عبادَةِ المؤمنين: وهي العبادَةُ الشَّرْعيَّة؛ أي التعَبُّد لله تعالى شَرْعًا، فهذه خاصَّة بمَن أطاعه، ومِن ذلك قوله تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]، وقوله: في الرُّسُل إنهم عباد الله: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] هذه عبودية خاصَّةٌ، فقوله:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ} هنا من العامة؛ يعني لا يَرْضى الكُفْر لأي واحِدٍ من عباد الله.
وقوله: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} قال رحمه الله: [وإن أراده من بَعْضِهِم] هذا كلام جيِّدٌ؛ يعني هو لا يرضاه، لكن يريده مِن بَعْضِهِم، يريده بالإرادة الكَوْنِيَّةِ لا الإرادة الشَّرْعيَّة، وهذا ردٌّ على قولٍ مُبْتَدَعٍ، يقولون: إنَّ الله لا يُريد إلَّا ما يَرضَى، وأمَّا ما لا يرضاه فلا يُريده؛ وعلى هذا القول الباطِلِ تكون المعاصي واقعةً بغيرِ إرادة الله، ولا شَكَّ أن هذا قولٌ يُبْطِله نصوصٌ كثيرةٌ.
مثل قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ
يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]، فالله عز وجل مُرِيدٌ لهذا وهذا، لكن بالإرادة الكَوْنِيَّة؛ لأنَّ الكلَّ ملكه سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال:[وإن أراده مِن بَعْضِهم] يعني فإرادته مِن بعضهم لا تقتضي أن يكون راضيًا به؛ إذ قد يُريد ما لا يرضاه.
فإن قال قائل: كيف يريد ما لا يرضاه؟ وهل أحدٌ يُكْرِهه؟
قلنا: لا يُكرِهُه أحَدٌ، لكن يُريد ما لا يرضى لحِكْمَة بالغة؛ فلو كان الله تعالى لا يريد إلا ما يرضاه، لأصبح النَّاس كلُّهم مؤمنين، ولم يكن هناك مَيْزَة للمُؤْمِن عن الكافِرِ، ولم يُقَم عَلَم الجهادِ، ولا الأَمْرُ بالمعروفِ والنَّهْيُ عن المُنْكَر، ولا مُلِئَتِ النَّار، كما وعد الله عز وجل، إلى غير ذلك مِن المصالِح العظيمة التي تَنْتُج عن وجود الكفر في عباد الله.
قال: [{وَإِنْ تَشْكُرُوا} اللهَ فَتُؤْمِنُوا]{يَرْضَهُ لَكُمْ} ، إِنْ تَشْكُرُوا، مقابل إنْ تَكْفُرُوا؛ لأنَّ الإنسانَ في نِعَمِ الله بين كافرٍ وشاكِرٍ، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وتأمل كيف قال في الكُفْر: إنَّ الله غَنِيٌّ ولا يرضى، وهنا قال:{وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} فبدأ في جواب الشَّرْط في {إِنْ تَكْفُرُوا} ببيان غناه عن الخَلق عز وجل، أما الشُّكر فإنه هو الذي يُثيبُ عليه؛ ولهذا قال:{وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} فإذا رَضِيَه فسوف يثيبه، قال الله تبارك وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 7، 8] ولهذا أثابهم الجنَّاتِ، أسأل الله أن يَجْعَلَنِي وإيَّاكُم منهم.
قال: {يَرْضَهُ لَكُمْ} في هذا الفعل إشكال من النَّاحِيَة النحوية، فإنه جوابُ الشَّرْط، فـ (إن تشكروا) هذا فِعْل الشَّرْط، (يَرْضَه) جوابُ الشَّرْط، ومع ذلك فهو
مَفتوحٌ، لأنَّه مَجْزومٌ بحذف الأَلِف، وأصلها (يَرْضَى)، ولكن حُذفت الأَلِفُ للجزم، قال:[(يَرْضَهْ) بِسُكُونِ الْهَاء] تَسْكينها خفيفٌ جدًّا؛ يعني تقرأه بخِفَّة؛ ويقول: [وضَمُّها {يَرْضَهُ} في حال الضم مَعَ إشْبَاعٍ وَدُونه] إشباع: {يَرْضَهُ لَكُمْ} تُشْبِعُها حتى يخرج منها واو، ودونه تحذف الواوَ، إذن نقْرَؤُها:(وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهْ لَكُمْ) بسكون الهاء {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} بإشباع وبدونه؛ وكل هذا جائِزٌ، وهي قراءة سَبْعِيَّة متواتِرَة.
وكما تقدَّم ونُعيده: أنَّه ينبغي للإنسان أنْ يقرأَ القرآنَ بِجَميعِ القِراءات؛ لأنَّ الكُلَّ حقٌّ، فلا ينبغي أن يَهْجُر حقًّا من الحقوق، ولكن بشرط أن يكون مُتيقِّنًا القراءةَ، فلا يكفي غَلَبَة الظَّنِّ، لا بُدَّ أن يتيقَّنَ، وإلا قرأ بالمتيقَّنِ عنده؛ وشرطٌ آخَرُ: ألَّا يكون عند العامَّة؛ لأنَّ العامَّة إذا قَرَأْتَ عندهم قراءةً تُخالف مُصحَفَهم، صار في ذلك تشويشٌ عليهم بالنِّسْبة للقرآن، وسوءُ ظنٍّ بالنسبة إليك، ورحم الله امرأً كفَّ الغِيبَةَ عن نَفْسِه.
أما في مقام التَّعليمِ، أو في القراءة بينك وبين نفسك، فإنه ينبغي إذا كنت عالِمًا بالقراءة أن تقرأ بها أحيانًا؛ بهذا أحيانًا وبهذا أحيانًا، فمِثْل:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 3، 4] فيها قراءة: (مَلِك) وقراءة: (مَالِك) فاقرأ بها، مرةً بهذه، ومرةً بهذه.
مسألة: إذا قرأ الإنسان في الصَّلاة في الركعة الأولى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وفي الركعة الثانية قرأ:(مَلِك يوم الدين) هل هذا صحيح؟
الجواب: لا بأس، ولا مانع، ولا حَرَج.
يقول: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} : {يَرْضَهُ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [أَيِ الشُّكْرَ]
فما هو الشُّكْر؟ الشُّكْر حدَّه بعْضُهم بحدًّ جامعٍ مانِعٍ، فقال: الشُّكْر هو القيامُ بطاعة المُنْعِم اعترافًا له بالجَميل، ويكون بالقَلْب واللِّسان والجوارِح.
وعلى هذا قول الشاعر:
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ منِّي ثَلَاثَةً
…
يدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ المُحَجَّبَا (1)
إذن: الشُّكْر القيامُ بطاعة المُنعِم اعترافًا له بالجميل، ومَحَلُّه في القلب واللسان والجوارح:
الأول: بالقَلْب؛ أن يُؤْمِن الإنسان بِقَلْبه بأنَّ هذه النِّعَم مِن الله عز وجل تَفضُّلًا منه، ولا يقول: هذا لي، أُوتِيتُه على عِلْمٍ عندي، بل يقول: هذا مِن فَضْل ربي.
الثاني: باللِّسانِ؛ أن يتعبَّد لله تعالى بكلِّ قولٍ شَرَعه، ومن ذلك أن يتحدَّث بنِعْمَة الله، فإنَّ هذا مِن الشُّكْر؛ لأنَّه قول مَشْروع، قال الله تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] مثل أن يقول: كنت فقيرًا فأغناني الله، الحَمْد لله، أنا عندي وَلَد، عندي زوجة، عندي بيت، عندي سيارة، الحمد لله أنا أَطْلُب العلم، أنا حَصَّلتُ كثيرًا من العلم، وهكذا؛ فهذا من الشكر بشرط ألا يكونَ الحامِلُ على ذلك الفَخْرَ أو الرِّياءَ؛ لأنَّ بعضَ النَّاس يتحدث بالنِّعَم من باب الثَّناء على الله؛ أنَّ الله أعطاه ومَنَّ عليه وتَفضَّل عليه.
وأما الجوارح فظاهِرٌ؛ أن تُظهِرَ نِعْمَة الله عليك بالجوارح؛ فمثلًا إذا أعطاك الله قوةً وشجاعَةً تُظهِر ذلك بالقُوَّة في ذاتِ الله مِن جهادِ الكفَّار والمنافقين وغيرهم.
المهم: أنْ يَظْهَر عليك أثَرُ النِّعْمَة في أفعالك، فتقوم بعبادة المُنْعِم عز وجل.
(1) غير منسوب، وانظره في غريب الحديث للخطابي (1/ 346)، والفائق للزمخشري (1/ 314).
وقوله رحمه الله: [{وَإِنْ تَشْكُرُوا} اللهَ فَتُؤْمِنُوا]؛ يعني: فتؤمنوا الإيمانَ المُستَلْزِم للعَمَل الصَّالِح، لا مجرد الإيمان بالله عز وجل؛ إذ الإيمانُ بالله لا يكون إيمانًا حقيقيًّا حتى يستلزم القَبولَ والإذعان؛ وكثيرٌ مِن العامَّة يظنون أنَّ الإيمان بالله: أنْ تؤمِنَ بوجود الله فقط، وهذا خطأٌ، بل الإيمان بالله هو: الإيمان المُسْتَلْزِمُ للقَبُول والإذعان؛ القَبُول لِما أمر به، وانشراح الصَّدْر به، والإذعان والانقياد التَّام، قال الله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
فعلى رأي مَن يقول: إنَّ الإيمانَ هو: الإيمانُ بوجود الله، يظنُّون اليهودَ والنصارى مؤمنين، وقد يُصرِّحونَ بهذا، يقول: النَّصراني مُؤْمِنٌ يؤمن بالله، وإذا مات له شَخْص قال: رحمه الله، واليهود كذلك!
ونقول: إنَّ هذا ليس هو الإيمانَ بالله، الإيمانُ بالله لا يَصِحُّ - وليس يتمُّ فقط - إلَّا بالقَبول والإذعان؛ فالقَبولُ لِمَا جاء به الوَحْيُ، والإذعانُ والانقياد التَّام.
وقوله تعالى: {يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال المُفَسِّر رحمه الله في التفسير: [{وَلَا تَزِرُ} نَفْسٌ {وَازِرَةٌ وِزْرَ} نَفْسٍ {أُخْرَى} أي: لا تحمله]{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ} : (لا) نافية، و {وَازِرَةٌ} فاعِلٌ، وهو نكرة في سياق النفي، فيَعُمُّ كلَّ وازِرٍ.
والوازرة: التي تتحَمَّل الإثم وتقوم به؛ وعلى هذا فمَن دونَ البُلُوغ ليس نَفْسًا وازِرَة؛ لأنَّها لا تتحمَّل الإثْمَ، ومَن كان بالغًا، ولم يَفْعَل الإثم فليس بوازِرٍ.
إذن: فالوازِرَة؛ يعني القابِلَة للوِزْر، وهي: النَّفْس المُكَلَّفَة، وإذا أردنا أن نقول: وازِرَة بالفِعْل، نقول: هي الفاعِلَة للإثم، فـ {وَازِرَةٌ} هنا تشمل الوازِرَة حُكمًا، وقد تشمل الوازِرَة فعلًا أيضًا.
فالوازرة حكمًا هي: القابِلَة للإثم؛ يعني التي يمكن أن تتحمَّل الإثْمَ، وإن لم تَعْمَلِ الوِزْر، والوازِرَة حقيقةً هي: التي فَعَلَتِ الإثْمَ.
مثال ذلك: رجلٌ بالغٌ عاقلٌ، لكنه صالِحٌ نقول: هذا وازرٌ حُكْمًا، ورَجُلٌ آخر زنى أو سرق، نقول: هذا وازرٌ فِعلًا، إذا كان بالغًا عاقلًا، وهذا هو السِّر في أنَّ الله قال:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ} ، ولم يقل:(ولا تزر نفسٌ وِزْرَ أخرى)، بل قال:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ} ؛ لأنَّ مَن ليست وازِرَة، لا تَزِرُ شيئًا لا عن نفسها ولا عن غيرها {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ} {وِزْرَ أُخْرَى} ؛ أي إثْمَ نفسٍ أخرى، ومعنى (لا تَزِرُ)؛ أي لا يَلْحَقُها وِزْرُه؛ أي الإثْمُ؛ ولهذا فسَّره المُفَسِّر رحمه الله بقوله:[أي لا تَحْمِله] لا تَحْمِل وازرةٌ وِزْرَ أخرى.
فإن قال قائل: الغلامُ إذا بلغ عشرة سنين فإنه يُكلَّف بالصَّلاة، هل يكون وازِرَة؟
فالجواب: لا، لا يُكلَّفُ؛ ولكنْ يُضرَبُ عليها لعشرٍ من باب التَّأديب على التَّمَرُّن على الطَّاعَة، وإلا لو تركها فإنه لا يأثَمُ.
وإن قيل: كيف نجمع بين هذه الآية: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ} وبين ما ورد أنَّ المَيَّتَ يُعَذَّبُ ببكاء أهله عليه (1)؟
فالجواب: هذا ينبغي أن يُورَد على الآية، وهو أنَّ النَّبِي عليه الصلاة والسلام ثبت عنه: أنَّ الميِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكاءِ أَهْلِهِ عليه، وعائِشَةُ رضي الله عنها قالت: إنَّ المرادَ بذلك
(1) أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه". إذا كان النوح من سنته، رقم (1286). ومسلم: كتاب الكسوف، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، رقم (927)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
الكافِرُ (1)، ولا شكَّ أنَّها رضي الله عنها بَشَرٌ تُخْطِئُ وتُصيبُ؛ وذلك لأنَّ الكافر يُعَذَّب، سواء بكى عليه أَهْلُه أم لا، لكن هي أرادَت أن تقول: إنَّ معنى الحديث: أنَّ الكافِرَ لَيُعَذَّبُ وأهله يَبْكون عَلَيْه، جعلت هذا معنى الحديث، واستَدَلَّتْ بالآية، ولكَّننا نقول: لا يستقيم هذا التَّأْويلُ بل معنى الآية: أنَّ المراد بالعذابِ: التألُّم النفسي، وليس التألُّمَ البَدَنِيَّ.
ونظير هذا قولُ الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ"(2) مع أنَّ المسافِرَ لا يتعذَّب تعذُّبًا بدنيًّا، قد يكون من آنَسِ ما يكون إذا كانت الأَرْضُ مُخْصِبَة، والإِبِلُ طيِّبة، والرِّفاق أصحابًا، فيكون السفر نُزْهَة، ومع ذلك فهو قِطْعَة من العذاب القَلْبِيِّ، نحن في الطَّائِرَة مستريحون، ففيها دِفءٌ في الشتاء، وبرودة في الصيف، ونَشْرَب القهوة والعصير، ونأكل التَّمْر، وكلُّ ما طَلَبْنا يأتي، ومع ذلك القَلْب متألِّم، ليس مثل إنسان مُسْتَقِرٍّ في بيته، فالعذاب الذي في القَبْر هو هذا النَّوْع من العَذابِ.
وقال بعض العلماء: يعذَّب عذابًا بدنيًّا؛ أي: يعاقَبُ عقوبة بدنية، ولكن هذا فيمن أوصى أَهْلَه أن يَنوحُوا عليه، وإن كان هذا لم يُذْكَرْ بالحديث، لكن يُحْمَل الحديث على ما تَقْتَضيه النُّصوصُ الأخرى.
وقال بعضهم: هذا في الرَّجُل الذي يَعْلَمُ في أهله أن ينوحوا عليه ولم يَنْهَهُم والفَرْقُ بين القَوْل هذا والذي قبله؛ فالذي قبله أوصاهم، وهذا ما أوصاهم لكن يَعْلَم أنَّهُم يفعلون فلم يَنْهَهُم.
(1) أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه"، رقم (1288)، ومسلم: كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، رقم (929).
(2)
أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب السفر قطعة من العذاب، رقم (1804)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب السفر قطعة من العذاب، رقم (1927)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فهذه أربعةُ أقوالٍ في الحديث، وأصَحُّها أنَّ المراد بالعذاب: العذابُ النَّفْسِيُّ، وليس العذابَ البَدَنِيَّ؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18].
ثم قال تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} : {ثُمَّ} يعني بعد الشُّكْر من الشاكر، والكفر من الكافر، يكن إلى الله وحده المَرْجِع.
وقوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} في هذه الجملة حَصْر، طريقُهُ: تقديم ما حقُّه التَّأخير؛ لأنَّ قوله: إلى ربِّكم؛ خبرٌ مُقَدَّم، ومَرْجِعُكُم؛ مبتدأ مؤخَّر.
وقوله: {إِلَى رَبِّكُمْ} ولم يَقُلْ: إلى الله؛ لأنَّ المقام هنا مقام رُبُوبِيَّة؛ لأنَّ الرَّبَّ هو المالِكُ المُتصَرِّف الخالق، فكان المناسِبُ أن يقول: إلى ربِّكم، ولو قال: إلى الله مَرْجِعُكم لصَحَّ؛ لأنَّ الله تعالى أيضًا هو المستحِقُّ للعبادة، ولا يستحِقُّ العبادَةَ إلا مَن كان ربًّا.
وقوله: {مَرْجِعُكُمْ} يوم القيامة، ولكن اعْلَمْ أنَّ كل مَن مات فقد قامت قيامته؛ لأنَّه انتقل من دار العَمَل إلى دار الجزاء.
قال شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّةَ رحمه الله في (العقيدة الواسِطِيَّة): "ومن الإيمان باليَوْمِ الآخِرِ: الإيمانُ بكلِّ ما أخبر به النَّبِي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت"(1)، مع أنَّ الذي يكون بعد المَوْت قبل قيامِ السَّاعة، لكن مَن مات فقد قامت قيامَتُه.
قال تعالى: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يُنَبَّئُكم: يُخْبِرُكم، لكن قد قيل: إنَّ النَّبَأَ لا يكون إلا في الأَمْرِ الهامِّ، بخلاف الخبر، فيكون حتى في الأمور التَّوافِهِ؛ وقال بعض العلماء: هما بمعنًى واحِدٍ.
(1) العقيدة الواسطية (ص 95).
وقوله: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} : {بِمَا} ما اسم موصول بمعنى الذي، وعائدها محذوف وهو المفعول به في قوله:{تَعْمَلُونَ} أي: بما كنتم تَعْمَلونه. و (ما) الموصولة، بل وجميع الأسماء الموصولة، تفيد العموم، والدليل على أنَّ الأسماء الموصولة تفيد العموم قوله تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33] فأعاد الإشارة إليه جمعًا مع أنه مفرد، وهذا يدلُّ على أنه يفيد العموم.
إذن: كل ما نَعْمَلُ من خير وشَرٍّ وصغير وكبير وسابقٍ ولاحِقٍ، فإن الله تعالى يُنَبَّئُنا به؛ أي: يُخْبِرُنا به.
وتأمَّلِ اللُّطْف والإحسان؛ حيث قال تعالى: {يُنَبِّئُكُمْ} [الأنعام: 60] ولم يقل: (يُؤاخِذُكم) لأنَّه ثبت في الصَّحيح: "أنَّ اللهَ عز وجل يخلو بِعَبْدِهِ المُؤْمِنِ، فيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، ويقول: عَمِلْتَ كَذَا في يَوْمِ كَذَا، وعَمِلْتَ كَذَا في يَوْمِ كذا حتى يَعْتَرِفَ، ثم يقول الله له: قَدْ سَتَرْتُها عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وأنا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ"(1).
فهذا إنباءٌ بدون مؤاخَذَةٍ؛ ولهذا قال {يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60] ثم المؤاخَذَة إليه، فالإنباءُ وعدٌ عليه، والمؤاخَذَة إليه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]؛ ولهذا كان الكُفَّار لا يُنَبَّؤُون بعملهم كما يُنَبَّأُ المؤمن؛ يعني أنَّ الله يخلو به، ويستر عليه، ويُقَرِّره بذنوبه معه وَحْدَه، أما الكُفَّار - والعياذ بالله - فيُنادَى على رؤوس الأشهاد {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] والله أعلم.
(1) أخرجه البخاري: كتاب المظالم، باب قول الله تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ، رقم (2441)، ومسلم: كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، رقم (2768)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.