الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (73)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73].
نَقول في قوله تعالى: (سِيق) ما قُلناه فيما سبَق: أنها فِعلٌ ماضٍ مَبنيٌّ للمَجهول، أو مَبنيٌّ لما لم يُسمَّ فاعِله، وجاءت بصيغة الماضِي مع أنها للمُستَقبَل تَحقيقًا لوقوعه؛ لقول الله تعالى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، فالماضِي يَأتي بصورة المُضارِع أحيانًا حِكايةً للحال، والمُستَقبَل يَأتِي بصيغة الماضي تَحقيقًا لوقوعه كأنه شيء وقَع ويُتحدَّث عنه.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} التَّقوَى أن يَتَّخِذ الإنسان وِقايةً من عذاب الله تعالى، وذلك بفِعْل أوامِره واجتِناب نواهيه؛ لأنك لو سأَلْت: ما الذي يَقِي من عَذاب الله تعالى؟ لقيل لك: طاعته بامتِثال أَمْره، واجتِناب نَهيِه.
وقيل في التَّقوَى: أن تَعمَل بطاعة الله تعالى على نور من الله تعالى تَرجو ثَواب الله تعالى، وأن تَترُك ما نَهَى الله تعالى على نور من الله تعالى، تَخشَى عِقاب الله تعالى.
وقيل في التَّقوَى:
خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا
…
وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى
وَاعْمَلْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ
…
ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى
لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً
…
إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الحَصَى (1)
ولكن ما ذكَرْناه أوَّلًا هو الجامِع المانِع؛ أن يَتَّخِذ الإنسان وِقايةً من عَذاب الله تعالى بفِعْل أَوامِره واجتِناب نواهيه، فإن خالَف وترَكَ شيئًا من الأوامِر أو فعَل شيئًا من النواهِي؛ فإنه يَنقُص من تَقْواه بقَدْر ما أخلَّ به، وحينَئِذ يَجتَمِع في الإنسان تَقوى وعِصيان، وهذا مَذهَب أهل السُّنَّة والجماعة: أن الإنسان يَجتَمِع فيه خِصال إيمان وكُفْر، خِصال تَقوَى وفِسْق، ولا مانِعَ، ولكلًّ حُكْمه.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} أَضاف الرُّبوبية إليهم؛ لأن رُبوبية الله تعالى للمُتَّقين رُبوبية خاصَّة ليست كالرُّبوبية العامة لجميع العالَمين، بل هي رُبوبية خاصَّة ربَّاهم حتى اتَّقَوْا ربَّهم.
وقول المُفَسَّر رحمه الله: [بلُطْف] مُقابِل قوله في أهل النار: [بعُنْف]؛ لأن الله تعالى صرَّح بأن أهل النار يُدفَعون دَفْعًا إلى نار جهنَّمَ، أمَّا المُؤمِنون فإنهم يُساقون سَوْق إكرام، كأن المَلائِكة تَحتَفُّ بهم إكرامًا لهم وإجلالًا.
وقوله تعالى: {إِلَى الْجَنَّةِ} الجَنَّة في اللغة: البُستان الكثير الأشجار، وسُمِّيَ بذلك لأنه يَجِنُّ مَن فيه، أي: يَستُرُه، وأصل المادة الجيم والنون، أصلُها من السَّتْر؛ ولهذا سُمّيَ القلبُ: جَنَانًا؛ لأنه مُستَتِر، وسُمّيَ الجِنُّ: جِنًّا؛ لأنهم مُستَتِرون، وسُمِّيتِ الجَنَّةُ: جَنَّةً؛ لأنها تَستُر مَن فيها؛ لكثرة أشجارها، هذا في الأصل.
(1) الأبيات لابن المعتز، انظر: ديوانه (ص 29).
أمَّا في الشَّرْع: فالجَنَّة هي الدار التي أَعَدَّها الله تعالى لأَوْليائه، التي فيها ما لا عَينٌ رأَتْ، ولا أذُنٌ سمِعَت، ولا خطَر على قَلْب بشَر.
وقوله تعالى: {زُمَرًا} جَمْع: زُمْرة، ومَعناها: جماعات مُتفرِّقة، وكيفية تَوْزيع هذه الجَماعات قيل: جماعات حسَب الأُمَم. وقيل: حسَب الأعمال. والقول الأَرجَحُ: أنه بحسَب الأعمال، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ"(1)، ثُم يَتَتابَع الناس على حسَب أعمالهم، فالنار مِثلها، يَعنِي: أن الأسبَق إلى النار الأشَدُّ جُرْمًا كالأسبَق إلى دُخول الجنَّة الأفضَلُ عمَلًا.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} الفاتِح خزَنَتُها.
وقوله تعالى: {حَتَّى} للغاية {إِذَا جَاءُوهَا} أي: جاؤُوا الجَنَّة.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} إذا قرَأْت الآية هكذا سيَبقَى قلبُك مُعلَّقا، ستَقول: أينَ جوابُ {إِذَا} ؟ فقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} كلُّها جُمَل مُتَعاطِفة.
الجَوابُ: اختَلَف المُعرِبون في ذلك:
فمِنهم مَن قال: إن جوابَ (إِذَا)(فُتِحَتْ)، وإن الواو زائِدة. ولكن هذا القولَ ضعيف؛ لأن زيادة الواو لم يُعهَد في اللغة العربية.
ومنهم مَن قال: إن الواو للحال بتَقدير (قَدْ)، أي: (حتى إذا جاؤُوها وقد
(1) أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، رقم (3254)، ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، رقم (2834) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فُتِحَت أبوابُها)، ويَكون الجواب على هذا محَذوفًا، وهذا ما ذهَب إليه المُفسِّر رحمه الله.
وقيل: الواو حرفُ عَطْف، والجوابُ مَحذوف مُقدَّر قبلَها، والتَّقدير:(حتى إذا جاؤُوها هُذِّبوا ونُقُّوا وفُتِحَت أبوابُها)، وهذا القولُ أصَحُّ الأقوال أن الواو للعَطْف وليست للحال، وأن الجواب مَحذوف مُقدَّر قبل الواو.
وهذا القولُ هو الراجِحُ لدَلالة الأحاديث عليه، فإنه قد ورَدَ في الأحاديث الصحيحة أنهم إذا عبَروا الجِسْر - الصِّراط المَمدود على جَهنَّمَ - وقَفوا على قَنطرةٍ بين الجَنَّة والنار، فيُقتَصُّ لبعضهم من بعض، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِن لهم في دُخول الجَنَّة، ثُمَّ إنهم أيضًا إذا وصَلوا الجَنَّة لا يَجِدون أبوابها مَفتوحة، بل يَجِدونها مُغلَقة حتى يَشفَع النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فيَفتَح الله تعالى أبوابَها، هذا القولُ هو الراجِح المُتعَيِّن بدَلالة السُّنَّة عليه.
مَسأَلةٌ: ورَد أن المُؤمِنين قبل دُخولهمُ الجَنَّة يُوقَفون على قَنطَرة يُقتَصُّ من بعضهم لبعض، فهل هذه القَنطرةُ من الصِّراط أم غيره؟
الجَوابُ: القنطرة التي يُوقَفون عليها بعد العُبور على الصِّراط؛ قيل: إنها طرَف الصِّراط، فهي قَنطرة وإن لم يَكُن تَحتَها شيء، فـ (وُقِفُوا على القَنْطرة) أي: على جانِب الصِّراط الكبير، وقيل: إنها قَنطَرة أُخرى للعُبور عليها، فالله أَعلَمُ.
فإن قال قائِل: كيف يُقتَصُّ لبعضهم من بعض والقِصاص كان في عرَصات القيامة قبل العُبور على الصِّراط؟
فالجَوابُ: هذا الاقتِصاصُ غير الاقتِصاص الأوَّل، الاقتِصاص الأوَّلُ للجزاء والمُعادَلة، وهذا الاقتِصاصُ لإزالة ما بَقِيَ في النفوس من أجل إزالة الغِلِّ والحِقْد؛
وقد تَقدَّم: أنهم إذا هُذِّبوا ونُقُّوا دخَلوا الجنَّة كما جاء في الحديث.
وقوله تعالى: {أَبْوَابُهَا} قد عَلِم أن أبوابها ثمانية لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الوُضوء: "فُتَّحَتْ له أَبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ"(1). وقوله: {وَقَالَ لَهُمْ} العجَب أن بعض النَّحويِّين قال: إن الواو هنا واوُ الثمانية، فأَحدَث للواو مَعنًى جديدًا، واستَدَلَّ لقوله بأَمْر عَجيب؛ قال: إن الله تعالى قال قي القرآن: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، فالواو للثَّمانية، فيُقال: سُبحانَ الله! من أين جاءَتْ؟! فالفائِدة في قوله تعالى: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} تَقرير ما ذكَرَ؛ لأن الله تعالى قال: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} .
قال العُلَماءُ رحمهم الله: إنه قال: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} تَقريرًا لهذا القولِ؛ ولهذا قال فيما قبله: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} وفي قوله تعالى: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} لم يَقُل: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} ؛ لأن الواو عاطِفة تَدُلُّ على أن ما قبلَها ثابِت مُتقَرِّر.
قال تبارك وتعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} خزَنتها المُوَكَّلون بها، وهم ملائِكة، يَقولون لأهل الجَنَّة:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} .
وقوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} هذا خبَر، وليس دُعاءً فيما يَظهَر؛ لأنه لو كان دُعاءً لكان القادِمون هم الذين يُسلِّمون، وهنا المَلائِكة هي التي تَقول:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} ، فكأنها تُخبِرهم بأنهم حلَّ عليهم السلام؛ لأن الجنَّة دارُ السلام.
(1) أخرجه مسلم: كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء، رقم (234)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقول المُفَسِّر رحمه الله: [{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} حال {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}] يَعنِي: سلام عليكم حالَ كَوْنكم طَيِّبين.
فالجُملة إذَنْ: حال من الكاف في قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} .
وقوله تعالى: {طِبْتُمْ} أي: طِبْتم في كل شيء؛ في الأبدان والعُقول والتَّصرُّف وكل شيء، فهم طَيِّبون حَلُّوا مَكانًا طيَّبًا، طابوا من الغِلَّ والحِقْد، قال تعالى:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]، وطابوا من كل مرَض، لا يُمكِن أن يُصيبهم مرَض، وطابوا من كل كلام فاحِش {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة: 25 - 26]، فالطَّيَّب هنا قَدَّرْه في كل شيء.
وقوله تعالى: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} : (ادْخُلوا) فِعْل أَمْر يُراد به الإكرام، ليس أمرًا حقيقيًّا يُراد به إلزام المُخاطَب، ولكنه أمرٌ للإِكْرام، كما تَقول لمَنِ استَأْذَن عليك في بيتك: ادخُلْ.
وقوله تبارك وتعالى: {خَالِدِينَ} حال من الواو في (ادْخُلُوهَا) أي: حالَ كَونِكم خالِدين، والحال هنا مُقدَّرة؛ لأن الخُلود بعد الدُّخول.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [مُقدِّرين الخُلود فيها، وجَواب (إذا) مُقدَّر، أي: دخَلوها، وسَوْقهم وفَتْح الأبواب قبل مجِيئهم تَكرمةً لهم، وسَوْق الكُفار وفَتْح أبواب جَهنَّمَ عند مَجيئِهم ليَبقَى حرُّها إليهم إهانةً لهم]، قوله رحمه الله:[أي: دخَلوها] في نُسْخة: (أَيْ: دخَولها) وهو غلَط.
وقوله تعالى: {وَفُتِحَتْ} الواو على رَأْي المُفَسَّر للحال؛ وتَجِد أن الكلام على هذا الوجهِ فيه رَكاكة: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} يَعنِي وقد فُتِحت أبوابها