الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(صفتي المجيء والإتيان)
[904] باب إثبات صفتي المجيء والإتيان لله تعالى
والرد على من تأولهما والرد على بعض أصول أهل البدع
في الأسماء والصفات
[قال الإمام في مقدمة "مختصر العلو"]:
موضوع الكتاب وخطورته:
اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا الكتاب قد عالج مسألة هي من أخطر المسائل الاعتقادية التي تَفَرَّق المسلمون حولها منذ أن وُجِدَت المعتزلة حتى يومنا هذا ألا وهي مسألة علو الله عز وجل على خلقه الثابتة بالكتاب والسنة المتواترة المدعَّم بشاهد الفطرة السليمة، وما كان لمسلم أن ينكر مثلها في الثبوت لولا أن بعض الفرق المنحرفة عن السنة فتحوا على أنفسهم وعلى الناس من بعدهم باب التأويل فلقد كاد الشيطان به لعدوه الإنسان كيداً عظيماً ومنعهم به أن يسلكوا صراطاً مستقيماً كيف لا؟ وهم قد اتفقوا على أن الأصل في الكلام أن يُحمل على الحقيقة وأنه لا يجوز الخروج عنها إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، أو لقرينة عقلية، أو عرفية، أو لفظية، كما هو مُفصَّل في محله، ومع ذلك فإنك تراهم يخالفون هذا الأصل الذي أصَّلوه لأتفه الأسباب وأبعد الأمور عن منطق الإنسان المؤمن بكلام الله وحديث نبيه حقًّا، فهل يستقيم في الدنيا فهم أو تفاهم
إذا قال قائل مثلاً: "جاء الأمير " فيأتي متأول من أمثال أولئك المتأولين فيقول في تفسير هذه الجملة القصيرة: يعني جاء عبد الأمير أو نحو ذلك من التقدير. فإذا أنكرت عليه ذلك أجابك بأن هذا مجاز فإذا قيل له: المجاز لا يصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة وهي ممكنة هنا أو لقرينة، لا قرينة هنا (1) سكت أو جادلك بالباطل.
وقد يقول قائل: وهل يفعل ذلك عاقل؟ قلت: ذلك ما صنعه كل الفرق المتأولة الذين ينكرون حقائق الأسماء والصفات الإلهية من المعتزلة وغيرهم ممن تأثر بهم من الخلف ولا نبعد بك كثيرا بضرب الأمثال وإنما نقتصد مثلين من القرآن الكريم أحدهما يشبه المثال السابق تماما والآخر له صلة بصلب موضوع الكتاب:
الأول: قوله تعالى: {وجاء ربك والملك صفا صفا} فقيل في تأويلها: وجاء ربك (2) وقيل غير ذلك من التأويل. ونحو كذلك أولوا قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر} . فقال بعضهم: يأتيهم الله بظلل. فنفى بذلك حقيقة الإتيان اللائق بالله تعالى بل غلا بعض ذوي الأهواء فقال: " قوله تعالى: «هل ينظرون» حكاية عن اليهود، والمعنى أنهم لا
(1) 1) قرائن المجاز الموجبة للعدول إليه عن الحقيقة ثلاث:
العقلية كقوله تعالى: [واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها] أي أهلهما. ومنه: [واخفض لهما جناح الذل].
الثانية: الفوقية مثل [يا هامان ابن لي صرحا] أي مر من يبني؛ لأن مثله مما يعرف أنه لا يبني.
الثالثة: نحو [مثل نوره] فإنها دليل على أن الله غير النور.
قال أهل العلم: وأمارة الدعوة الباطلة تجردها عن أحد هذه القرائن انظر: "إيثار الحق على الخلق"(ص 166 - 167) للعلامة المرتضى اليماني [منه].
(2)
كدا ولعل صوابها: جاء [أمر] ربك.
يقبلون دينك إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ليروه جهرة لأن اليهود كانوا مشبهة يجوزون على الله المجيء والذهاب) نقله الكوثري في تعليقه على "الأسماء والصفات "(ص 447 - 448) عن الفخر الرازي وأقره.
فتأمل - هداني الله وإياك - كيف أنكر مجيء الله الصريح في الآيتين المذكورتين. وهو إنما يكون يوم القيامة كما جاء في تفسير ابن جرير لقوله تعالى: «هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك» فذكر (12/ 245 - 246) في قوله: {أو يأتي ربك} عن قتادة وابن جريج: يوم القيامة ونحوه عن ابن مسعود وغيره. في " الدر المنثور"(1/ 241) وانظر كلمة الإمام ابن راهويه في إثبات المجيء في الفقرة الآتية من الكتاب (213).
فنفى هذا المتأول ببركة التأويل إتيان الله ومجيئه يوم القيامة الثابت في هذه الآيات الكريمة والأحاديث في ذلك أكثر وأطيب، ولم يكتف بهذا بل نسب القول بتجويز المجيء على الله إلى اليهود وأن الآية نزلت في حقهم ضلال وكذب، أما الضلال فواضح من تحريف الآيات المستلزم الطعن في الأئمة الذين يؤمنون بمجيء الله تعالى يوم القيام. وأما الكذب فإن أحداً من العلماء لم يذكر أن الآية نزلت في اليهود بل السياق يدفع ذلك قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ في السِّلْمِ كَآفَّةً وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين، فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيم، هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ في ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} (سورة البقرة: 208 - 211).
قلت: فأنت ترى أن الخطاب موجه للمؤمنين ولذلك قال ابن جرير في "تفسيره"(4/ 259) لقوله تعالى: {فإن زللتم .. } :
" يعني بذلك جل ثناؤه فإن أخطأتم الحق فضللتم عنه وخالفتم الإسلام
وشرائعه من بعد ما جاءتكم حججي وبينات هداي، واتضحت لكم صحة أمر الإسلام بالأدلة التي قطعت عذركم أيها المؤمنون - فاعلموا أن الله ذو عزة
…
"
نعم قد روى ابن جرير (4/ 255) عن عكرمة قوله:" {ادخلوا في السلم كافة} قال: نزلت في ثعلبة وعبد الله بن سلام وو
…
كلهم من يهود قالوا: يا رسول الله يوم السبت كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه
…
فنزلت".
قلت: وهذا مع أنه في مؤمني اليهود لا يصح إسناده لإرساله، ولو صح لم يجز القول بأنها " نزلت في حق اليهود " لأنها تعني عند الإطلاق كفارهم والواقع خلافه فتأمل هذا رحمنا الله وإياك، هل تجد في هذه الآيات المصرحة بإتيان الله ومجيئه قرينة من تلك القرائن الثلاث تضطر السامع إلى فهم ذلك على نحو مجيء المخلوق وهذا تشبيه حقّاً اضطرهم هذا الفهم الخاطئ إلى إنكاره ونسبته إلى اليهود وصاروا إلى التأويل. وكان بوسعهم أن يثبتوا لله تعالى هذه الصفة كما أثبتها السلف دون تشبيه كما قال تعالى:{ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وإلا فهم على ذلك سيتأولون السمع والبصر أيضا لأن الله تعالى قد أثبت للمخلوق سمعاً وبصراً في القرآن والسنة، فقد يقولون إننا إذا أثبتنا السمع والبصر لله شبهناه بمخلوقاته، وهذا ما فعلته المعتزلة تماما فإنهم تأولوهما بالعلم تنزيهاً له تعالى عن المشابهة زعموا وبذلك آمنوا بالطرف الأول من الآية [ليس كمثله شيء] ولم يؤمنوا بالطرف الآخر منها {وهو السميع العليم} وأما الأشاعرة وغيرهم من الخلف فقد آمنوا بكل ذلك هنا فجمعوا بين التنزيه والإثبات قائلين: سمعه ليس كسمعنا وبصره ليس كبصرنا. فهذا هو الحق وكان عليهم طرد ذلك في كل ما وصف الله به نفسه فيقال: مجيئه تعالى حق ولكنه ليس كمجيئنا، ونزوله إلى السماء الدنيا حق لتواتر الأحاديث بذلك كما يأتي في الكتاب ولكن ليس كنزولنا،