الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(القعود والجلوس)
[957] باب هل يوصف الله تعالى بالقعود؟ والتنبيه على أن
رواية الأحاديث الضعيفة في أبوب الصفات مما يجرئ أهل البدع على وصف أهل السنة بالحشوية والمجسمة
[قال الإمام في مقدمة "مختصر العلو"]:
(إن) رواية الأحاديث الضعيفة من بعض المحدثين هو مما يعاب عليهم من قِبل المخالفين لهم وإن كان هؤلاء يفعلون ما هو أسوأ من ذلك كما أوضحه شيخ الإسلام
…
، ومن أشهر من أَخَذَ ذلك عليهم في هذا العصر ويتخذه حجة في تسخيفهم وتضليلهم الشيخ الكوثري المعروف بعدائه الشديد لأهل السنة والحديث، ونبزه إياهم بلقب الحشوية والمجسمة، وهو في ذلك ظالم لهم مفتر، ولكن - والحق يقال - قد يجد أحياناً في ما يرويه بعضهم من الأحاديث والآثار ما يُدَعِّم به فريته مثل الحديث المروي في تفسير قوله تعالى:{عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: «يجلسني على العرش» .رواه المصنف -أي الذهبي في "العلو"- (ص 74 - 75) عن ابن مسعود مرفوعاً وضعفه جداً بقوله: "مرسله الأحمر متروك الحديث "، ورواه (ص 99) عن ابن عباس مثله موقوفاً. وقال:"إسناده ساقط، وعمر بن مدرك الرازي متروك وهذا مشهور من قول مجاهد ويروى مرفوعاً، وهو باطل".
وقد خرجت الحديثين في (الضعيفة)(871).
وقال في ترجمة محمد بن مصعب العابد ما يأتي:
" فأما قضية قعود نبينا على العرش فلم يثبت في ذلك نص بل في الباب حديث واه، وما فسر به مجاهد الآية كما ذكرناه ".
قلت: ولو أن المصنف رحمه الله تعالى وقف عند هذا البيان الواضح في أنه ليس في الباب نص ملزم للأخذ به لكان قد أحسن وسد بذلك الطريق على أهل الأهواء أن يتخذوا ذلك ذريعة للطعن في أهل السنة والحديث كما فعل الكوثري هنا بالذات في مقدمته لكتاب " تبين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري "(ص 64) فقد قال فيهم بعد أن نبزهم بلقب الحشوية - أسوة بسلفه من الجهمية - وغيرهم (1):
"ويقولون في الله مالا يُجوِّزه الشرع ولا العقل من إثبات الحركة له (تعالى) والنَقْلَة (ويعني بهما النزول) والحد والجهة (يعني العلو) والقعود والإقعاد). فيعني هذا الذي نحن في صدد بيان عدم ثبوته.
أقول: لو أن المؤلف رحمه الله وقف عند ما ذكرنا لأحسن، ولكنه لم يقنع بذلك بل سَوَّد أكثر من صفحة كبيرة في نقل أقوال من أفتى بالتسليم بأثر مجاهد في تفسير قوله تعالى:{عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا]} قال: يجلسه أو يُقعِده على العرش. بل قال بعضهم: " أنا منكر على كل من رد هذا الحديث وهو عندي رجل سوء متهم " بل ذُكر عن الإمام أحمد أنه قال: هذا تلقته العلماء بقبول، إلى غير ذلك من الأقوال التي تراها في الأصل ولا حاجة بنا إلى استيعابها في هذه
(1) انظر كلام الحافظ أبي حاتم الرازي في ترجمته (77). [منه].
المقدمة. وذكر في (مختصره) المسمى بـ (الذهبية) أسماء جمع آخرين من المحدثين سلَّموا بهذا الأثر ولم يتعقبهم بشيء هناك. وأما هنا فموقفه مضطرب أشد الاضطراب فبينما تراه؛ يقول في آخر ترجمة محمد بن مصعب العابد عقب قول من تلك الأقوال (ص 126):
" فأبصِر - حفظك الله من الهوى - كيف آل الفكر بهذا المحدث إلى وجوب الأخذ بأثر منكر
…
"
فأنت إذا أمعنت النظر في قوله هذا ظننت أنه ينكر هذا الأثر ولا يعتقده ويلزمه ذلك ولا يتردد فيه ولكنك ستفاجأ بقوله (ص 143) بعد أن أشار إلى هذا الأثر عقب ترجمة حرب الكرماني
"وغضب العلماء لإنكار هذه المنقبة العظيمة التي انفرد بها سيد البشر ويبعد أن يقول مجاهد ذلك إلا بتوقيف
…
"
ثم ذكر أشخاصا آخرين ممن سَلَّموا بهذا الأثر غير من تقدم فإذا أنت فرغت من قراءة هذا قلت: لقد رجع الشيخ من إنكاره إلى التسليم به لأنه قال: إنه لا يقال إلا بتوقيف ولكن سرعان ما تراه يستدرك على ذلك بقوله بعد سطور:
" ولكن ثبت في " الصحاح " أن المقام المحمود هو الشفاعة العامة الخاصة بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم ".
قلت: وهذا هو الحق في تفسير المقام المحمود دون شك ولا ريب للأحاديث التي أشار إليها المصنف رحمه الله تعالى وهو الذي صححه الإمام ابن جرير في " تفسيره "(15/ 99) ثم القرطبي (10/ 309) وهو الذي لم يذكر الحافظ ابن كثير غيره وساق الأحاديث المشار إليها، بل هو الثابت عند مجاهد
نفسه من طريقين عنه عند ابن جرير. وذاك الأثر عنه ليس له طريق معتبر فقد ذكر المؤلف (ص 125) أنه "روي عن ليث بن أبي سليم وعطاء بن السائب وأبي يحيى القتات وجابر بن يزيد ".قلت: والأولان مختلطان والآخران ضعيفان بل الأخير متروك متهم.
ولست أدري ما الذي منع المصنف - عفا الله عنه - من الاستقرار على هذا القول وعلى جزمه بأن هذا الأثر منكر كما تقدم عنه فإنه يتضمن نسبة القعود على العرش لله عز وجل، وهذا يسلتزم نسبة الاستقرار عليه لله تعالى وهذا مما لم يرد فلا يجوز اعتقاده ونسبته إلى الله عز وجل، ولذلك ترى المؤلف رحمه الله أنكر على من قال ممن جاء بعد القرون الثلاثة: إن الله استوى استواءَ استقرارٍ " كما تراه في ترجمة (140 - أبو أحمد القصاب).وصرح في ترجمة (161 - البغوي) أنه لا يعجبه تفسير " استوى " بـ " استقر ".
[إلى أن قال الإمام رحمه الله]:
فكنت أحب له [أي: للذهبي] رحمه الله أن لا يتردد في إنكار نسبة القعود إلى الله تعالى وإقعاده محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على عرشه ما دام أنه لم يأت به نص ملزم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومعناه ليس له شاهد في السنة، ومعناه ولفظه لم يتوارد على ألسنة الأئمة وهذا هو الذي يدل عليه بعض كلماته المتقدمة حول هذا الأثر، ولكنه لما رأى كثيراً من علماء الحديث أقروه لم يجرؤ على التزام التصريح بالإنكار، وإنما تارة وتارة والله تعالى يغفر لنا وله.
ومن العجيب حقّاً أن يعتمد هذا الأثر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى؛ فإنه نقل كلام القاضي أبي يعلى فيه وبعض أسماء القائلين به ثم قال ابن القيم رحمه
الله: " قلت: وهو قول ابن جرير الطبري، وإمام هؤلاء كلهم مجاهد إمام التفسير، وهو قول أبي الحسن الدارقطني ومن شعره فيه ".
ثم ذكره المصنف فيما يأتي في ترجمة (134 - الدراقطني) وزاد بيتاً رابعاً لعل المصنف تعمد حذفه:
" ولا تنكروا أنه قاعد ولا تنكروا أنه يقعده "
قلت: وقد عرفت أن ذلك لم يثبت عن مجاهد بل صح عنه ما يخالفه كما تقدم. وما عزاه للدارقطني لا يصح إسناده كما بيناه في " الأحاديث الضعيفة "(870) وأشرت إلى ذلك تحت ترجمة الدارقطني الآتية. وجعل ذلك قولاً لابن جرير فيه نظر؛ لأن كلامه في " التفسير " يدور على إمكان وقوع ذلك كما سبق لا أنه وقع وتحقق ولذلك قال الإمام القرطبي في " تفسيره "(10/ 311):
"وعَضَّد الطبري جواز ذلك بشطط من القول، وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى وفيه بعد ولا ينكر مع ذلك أن يروى، والعلم يتأوله "
ثم بين وجه تأويله بما لا حاجة بنا إلى ذكره والنظر فيه ما دام أنه أثر غير مرفوع، ولو افترض أنه في حكم المرفوع فهو في حكم المرسل الذي لا يحتج به في الفروع فضلاً عن الأصول كما ذكرت ذلك أو نحوه فيما يأتي -أي كتاب "مختصر العلو- من التعليق على قولة بعضهم:"ولا نتكلم في حديث فيه فضيلة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بشيء " التعليق (265).
ولعل المصنف رحمه الله تعالى يشير إلى ذلك بقوله في ترجمة (165 - القاضي العلامة أبو بكر بن العربي) وقد نقل عنه القول بهذا القعود معه على العرش: قال: