الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[علق الإمام على قول الجارية: "في السماء"قائلاً]:
أي على السماء. كقوله تعالى {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النَّخْلِ} . يعني على الجذوع، والآيات والأحاديث الدالة على علوه تبارك وتعالى على خلقه أكثر من أن تحصر، وفي ذلك ألف الذهبي كتابه "العلو للعلي الغفار" وهو مطبوع، ومن قبله الشيخ ابن قدامة، وكتابه مخطوط. ثم إن جواب الجارية مستفاد من مثل قوله تعالى {أَأَمِنْتُمْ مَنْ في السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ
…
} الآية.
"تحقيق الإيمان لأبن أبي شيبة"(ص 61).
[1008] باب الرد على من أنكر حديث
«ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»
«ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» .
[قال الإمام]:
هذا الحديث مع صحته
…
وتَلَقِّي الأمة له بالقبول على اختلاف مشاربهم، فقد تجرأ المدعو بـ (حسن السقاف) على إنكاره بكل صفاقة، مخالفاً بذلك سبيل المؤمنين، فصرَّح في تعليقه على "دفع شبه التشبيه" لابن الجوزي فزعم (ص 62): أنه حديث ضعيف! ثم غلا فصرح (ص 64) بأنه حديث باطل!! ثم أخذ يرد عليّ تصحيحي إياه لشواهده؛ متحاملاً متجاهلاً لتصحيح من صححه من الحفاظ، مشككاً فيما نقلته عن بعض المخطوطات التي لم ترها عيناه، وما حمله على ذلك إلا جهمية عارمة طغت على قلبه، فلم يعد يفقه ما يقوله العلماء من المتقدمين أو المتأخرين، فذكرت هناك من المصححين: الترمذي والحاكم
والذهبي والخِرقي والمنذري والعراقي وابن ناصر الدين الدمشقي، وأضيف الآن إليهم الحافظ ابن حجر في كتابه الذي طبع حديثاً "الإمتاع" (ص62 - 63) حتى قال في معناه شعراً:
إن من يرحم من في الأرض قد
…
آن أن يرحمه من في السما
فارحم الخلق جميعاً إنما
…
يرحم الرحمن فينا الرحما
ومن المتأخرين الذين صححوا هذا الحديث الشيخان الغماريان: أحمد الغماري في كتابه "فتح الوهاب بتخريج أحاديث الشهاب"(1/ 459) وقال:
"وقد رويناه من طرق متعدده".
ونقل تصحيح الترمذي والحاكم وأقرهما.
والغماري الآخر الشيخ عبد الله الذي صحح الحديث في كتابه الذي أسماه "الكنز الثمين"، فإنه أورده فيه برقم (1867)، وقد ذكر في مقدمته أن كل ما فيه صحيح، وهو أخو الشيخ أحمد الغماري، وهو أصغر منه سنًّا وعلماً، وهما ممن يُجِلُّهما السقاف ويقلدهما تقليداً أعمى، وإذا ذكر أحدهما قال فيه:"سيدي"!
فما عسى أن يقول المسلم المنصف في مثل هذا الرجل الذي يخالف أولئك الحفاظ ويسلك غير سبيلهم، بل ويخالف شيخه وسيده - على حد تعبيره - عبد الله الغماري؟! لا شك أنه في ضلال مبين. هذا أولاً.
وثانياً: هذا الحديث فيه جملتان مباركتان:
الأولى: "ارحموا من في الأرض"، وشواهده كثيرة جداً عن جمع من الصحابة؛ استوعبهم الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي في مجلسة المشار إليه
هناك عند تخريج الحديث، وقد طبع أخيراً بتحقيق الأخ الفاضل أبي عبد الله محمود بن محمد الحداد، فراجع فهرس أحاديثه تجد أسماءهم والإشارة إلى مواضع أحاديثهم منه، وبعضها مما اتفق عليه الشيخان، من ذلك أسامة بن زيد، وهو مخرج في "أحكام الجنائز" (163 - 164) بلفظ:
"إنما يرحم الله من عباده الرحماء ".
والجملة الأخرى: "يرحمكم من في السماء".
وهي صحيحة كما تقدم، وقد بسط الكلام عليها الأخ الفاضل المشار إليه آنفاً، وهي التي أقامت ذاك المبطل وأقعدته، بل وقصمت ظهره؛ لأن حرف "في" فيها هو بمعناه في الجملة الأولى بداهة؛ أي:"على"، لا يجادل في ذلك إلا معاند، فهي تؤكد أن هذا الحرف هو بهذا المعنى نفسه في قوله تعالى:{أأمنتم من في السماء} ؛ أي: على السماء؛ أي: فوق العرش، وبذلك فسَّرها علماء السلف والخلف - ومنهم ابن عبد البر في "التمهيد"، والبيهقي في كتابيه:"الأسماء" و"الاعتقاد" - وذاك المبطل يعلم هذه الحقيقة ولكنه يكابر، ويبطل الحديث الصحيح ليسمي هذا التفسير تأويلاً، ويسمي تعطيله لمعنى الآية الكريمة تفسيراً على قاعدة:(رمتني بدائها وانسلت)، فيقول (ص65): "أي صاحب العظمة والرفعة والكبرياء وهو الله تعالى
…
" ويؤكد هذا التعطيل في مكان آخر (ص139)، ويضيف إليه فيقول -فض فوه-:
"والآية مؤولة عند المجسمة بـ (من على السماء)
…
"!
فيا ويله ما أجرأه على نبز السلف بـ (المجسمة)! وفيهم من يتظاهر بتبجيله وإن كنت أعلم أنه لا مبجّل عنده إلا هواه، وإلا فقل لي بربك كيف يرمي بالتجسيم
من فسر الآية بما سبق أن عزوته للسلف؛ ومنهم الإمام البيهقي في كتابيه المذكورين آنفاً (1)، وهما من الكتب التي يحض هذا الهالك على قراءتها في تعليقة (ص78)؟! وهل أدل على أتباعه لهواه من مخالفته للعلماء الذين صححوا حديث الرحمة هذا، ومنهم شيخاه الغماريان؟! وكذلك تضعيفه لكثير من الأحاديث الصحيحة الأخرى كحديث الجارية؛ وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«أين الله؟» . رواه مسلم، وصححه جمع كما فصلت القول في ذلك فيما يأتي برقم (3161)، وكحديث اختصام الملأ الأعلى، وقد صححه البخاري والترمذي وأبو زرعة والضياء، وهو غير حديث:«رأيت ربي جعداً أمرد .. » فإنه منكر، وحديث: «رأيت ربي مبنى عند النفر على جمل
…
»، فإنه موضوع كما هو مبين في "الضعيفة"(6330)، وقد لبَّس (السقاف) بهذا على القراء فأوهمهم أن الذهبي أنكر حديث الاختصام، وإنما أراد هذا، فارجع إلى الرقم المذكور لترى العجب من تدليس هذا الرجل وتضليله للقراء. وقد وجدت لحديث الاختصام طريقاً أخرى - بل شاهداً صحيحاً - فخرجته في "الصحيحة"(3169).
وإن مما يجب التنبيه عليه بهذا المناسبة أن الرجل كما يُضعِّف الأحاديث الصحيحة؛ فهو على العكس من ذلك يُقوِّي الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ويحتج بها معطلاً بها معاني الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة، فهو مثلاً يبطل دلالة الحديث المتواتر في النزول الإِلهي، وقوله تعالى فيه:«من يدعوني فأستجيب له .. » بحديث تفرد بروايته حفص بن غياث لم يذكر فيه النزول ولا قوله تعالى المذكور، بل رواه بلفظ:«ثم يأمر منادياً ينادي يقول: هل من داع .. » ، وهذا
(1) وقد نقلت عبارته تحت الحديث (6332 - الضعيفة)، ونقلت هناك عن ابن الجوزي أنه فسر الآية كما فسرها البيهقي؛ فهل هو مجسم أيضاَ؟!. [منه].
خطأ بيقين؛ لمخالفة حفص لستة من الثقات رووه باللفظ الأول، وهو المحفوظ في "الصحيحين" وغيرهما، وهو متواتر كما ذكر ابن عبد البر في "التمهيد"، وقد بسطت القول في هذا وسميت المخالفين لحفص في "الضعيفة"(3897)، ورددت على هذا المبطل ما زعمه من صحة حديث حفص بما لا يتسع المجال لذكره هنا.
وكذلك احتج بحديث موضوع من أحاديث الإباضية فيه!: " .. ولا تضربوا لله الأمثال، ولا تصفوه بالزوال، فإنه بكل مكان".وقد بينت بطلانه، وكشفت عواره في "الضعيفة"(5332)، والغريب العجيب من هذا الأفين أنه نقل الحديث من كتاب "مسند الربيع بن حبيب"، وهو الكتاب الوحيد من تأليف الإباضية، وركن إليه المذكور من باب القاعدة اليهودية:"الغاية تبرر الوسيلة"؛ لأن فيه رد حديث النزول الذي اصطلح علماء الكلام على تفسير "النزول" بالزوال
تحريفاً للكلم عن مواضعه، وتنفيراً من الإيمان بالنزول الإِلهي، وأعجب من
ذلك أن قوله فيه: "فإنه بكل مكان" ما يكفر الأفين به (ص127) من تعليقه
على "ابن الجوزي"، ومع ذلك روى هذا الحديث الإباضي الموضوع ليعطل
به حديث النزول المتواتر، أليس ذلك من أكبر الأدلة على أنه ينطلق من
تلك القاعدة اليهودية، ومنها يندفع لإِبطال الأحاديث الصحيحة؟! والأمثلة على ذلك كثيرة وكثيرة جداً، فحسبنا الآن حديث الرحمة هذا وما ذكر معه.
والله المستعان.
"السلسلة الصحيحة"(2/ 713 - 717).