الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب والسنة وبيان ذلك:
لا خلاف بين المسلمين جميعا أن الله تعالى كان ولا شيء معه؛ لا عرش، ولا كرسي، ولا سماء، ولا أرض، ثم خلق الله تعالى الخلق، كما سيأتي في حديث عمران بن حصين.
فإذا كان كذلك فمما لا شك فيه أن مخلوقاته تعالى إما أن يكون خلقها في ذاته تعالى فهي حالة فيه وهو حال فيها، وهذا كفر لا يقول به مسلم، وإن كان هو لازم مذهب الجهمية وغلاة الصوفية الذين يقول قائلهم:" كل ما تراه بعينك فهو الله " تعالى عمَّا يقول الظالمون علواًّ كبيراً.
وإذا كان الأمر كذلك فمخلوقاته تعالى بائنة عنه غير مختلطة به، وحينئذٍ فإما أن يكون الله تعالى فوق مخلوقاته، وإما أن تكون مخلوقاته فوقه تعالى، وهذا باطل بداهةً، فلم يبق إلا أن الله تبارك وتعالى فوقها، وهو المطلوب المقطوع ثبوته في الكتاب والسنة وأقوال السلف، ومن جاء بعدهم من الأئمة على اختلاف اختصاصاتهم ومذاهبهم كما ستراه مفصلا في الكتاب إن شاء الله تعالى.
"مختصر العلو"(ص50 - 52).
[992] باب إثبات علو الله تعالى مع بيان ضعف حديث الأوعال
[قال الإمام تحت عنوان]:
حول حديث «العَنَان» (1).
ورد إلى المجلة [أي مجلة "المسلمون"] سؤال من بعض القراء الأفاضل
(1) مقال نشره الألباني في "مجلة المسلمون"(6/ 688 ـ 693) ، بواسطة "مقالات الألباني".
عن صحة الحديث الذي أورده الحافظ ابن كثير في تفسيره ولفظُه:
[الجواب]:
إن الحديث ضعيف الإسناد لا تقوم به حجة، وإليك البيان:
تخريجه:
أخرج الحديث الإمام أحمد في "مسنده"(رقم1770 و1771) وأبو داود (2/ 274) وعنه البيهقي في "الأسماء والصفات"(ص399) والترمذي (4/ 205 - 206) وابن ماجة (1/ 83) وابن خزيمة في "التوحيد"(ص 68 - 69) والحاكم في "المستدرك"(2/ 378) والحافظ عثمان الدارمي في "النقض على بشر المريسي"(ص 90 - 91) والبغوي في "تفسيره"(8/ 465 - 466) من طرق عن سماك بن حرب عن عبد الله بن عَمِيرة عن العباس به.
وقال الترمذي:
"هذا حديث حسن غريب"
وقال الحاكم:
"صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي! وليس كما قالوا، وقد تناقض الذهبي - كما يأتي بيانه -؛ علة الحديث:
وللحديث علتان: الاضطراب في إسناده، وجهالة أحد رواته وهو ابن عميرة، فقال الحافظ ابن حجر في ترجمته من "تهذيب التهذيب":"وعنه سماك بن حرب، وفيه عن سماك اختلاف، قال البخاري لا يعلم له سماع من الأحنف، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وحسن الترمذي حديثه (يعني هذا)، وقال أبو نعيم في "معرفة الصحابة": أدرك الجاهلية، وكان قائد الأعشى لا تصح له صحبة ولا رؤية، وقال مسلم في "الوحدان": تفرد سماك بالرواية عنه، وقال إبراهيم الحربي: لا أعرفه".
أما العلة الأولى فقد بينها بعض العلماء تعليقاً على التهذيب، فقال:
" قال شريك مرة: عن سماك عن عبد الله بن عمارة، وهو وَهْم، وقال أبو نعيم:
عن إسرائيل عن سماك عن عبد الله بن عميرة أو عمير، والأول أصح، وقال
أبو أحمد الزبيري: عن إسرائيل عن سماك عن عبد الله بن عميرة عن زوج درة بنت أبي لهب". وأما العلة الثانية فتتلخص بأن عبد الله بن عميرة مجهول لا يعرف، وقد صرح بهذا الحافظ الذهبي فقال في "كتاب العلو" (ص109 الطبعة الهندية):
"تفرد به سماك بن حرب عن عبد الله، وعبد الله فيه جهالة".وكذا قال في "ميزان الاعتدال في نقد الرجال".
ثم نسي الذهبي هذا كله فوافق الحاكم على تصحيحه كما سبق، فسبحان من لا ينسى.
وأما تحسين الترمذي للحديث فمما لا يعتمد عليه لا سيما بعد ظهور علة الحديث، ذلك لأن الترمذي معدود في جملة المتساهلين في تصحيح الأحاديث كالحاكم وابن خزيمة وابن حبان ونحوهم، ولهذا قال الذهبي في "الميزان" (ص33):
"لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي".
قلت: وكذلك لا يعتمد المحققون من العلماء على توثيق ابن حبان لتساهله في ذلك كما بينه الحافظ ابن حجر في مقدمة "لسان الميزان" وزدته بياناً في ردي على الشيخ عبد الله الحبشي (ص18 - 21) وخلاصة ذلك أنه يوثق المجهولين حتى الذين يعترف هو بأنه لا يعرفهم فيقول مثلاً في ترجمة سهل:
"يروي عن شداد بن الهاد، روى عنه أبو يعقوب، ولست أعرفه، ولا أدري من أبوه"!!
وهذا موضوع هام يجب على كل مشتغل بعلم السنة وتراجم الرواة أن يكون على بينة منه، كي لا يخطيء بتصحيح الأحاديث الضعيفة اغتراراً بتوثيق ابن حبان، كما فعل أحد أفاضل العلماء في تعليقه على المسند، والشيخ الحبشي في "التعقب الحثيث" وغيرهما.
وأما طلب السائل شرح هذا الحديث، فلا داعي عندي للإجابة عنه بعد أن بينا ضعفه، بل أعتبر الاشتغال بشرحه مضيعة للوقت، إذ كل ما فيه من بيان المسافة بين كل سماء والتي فوقها، وكذا البحر فوقها والثمانية أو عال كل ذلك لم يرد فيه شيء صالح للاحتجاج به؛ نعم هناك أحاديث أخرى في تحديد المسافة المذكورة، وهي مع ضعف أسانيدها مختلفة متناقضة، ولا داعي للتوفيق بينها كما فعل ابن خزيمة في "التوحيد" والبيهقي في "الأسماء" إذ التوفيق فرع التصحيح، وهو مفقود.
وأما قوله في آخر الحديث: "ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك" فحق يجب الإيمان به لثبوته في آيات كثيرة وأحاديث متواترة شهيرة، وقد ساقها وتكلم على أسانيدها الحافظ الذهبي في "كتاب العلو" فليراجعها من شاء الوقوف عليها.
وبهذه المناسبة أرى لزاماً علي أن أقول: إن الإيمان بعلو الله تبارك وتعالى على خلقه متفق عليه بين أئمة المسلمين قاطبة وفيهم الأئمة الأربعة، ومن ينكر ذلك من المتأخرين بحجة أن في ذلك تشبيهاً لله تعالى أو إثبات مكان له غفلة منه عن الحقيقة المتفق عليها، وهي أن صفات الله تبارك كذاته من حيث جَهْلِنَا بحقيقة ذلك كلها (1)، فإذا كان لا يلزم من إثبات الذات تشبيه، فكذلك لا يلزم من إثبات الصفات تشبيه ومن غاير بين الأمرين فقد كابر أو تناقض، وللحافظ الخطيب كلمة نافعة جداً في هذا الصدد أرى من الضروري نشرها، ولو طال بها الكلام إذا اتسع لذلك صدر المجلة الزاهرة.
(1) " كذا، ولعل صوابها: كله.
قال الخطيب - رحمه الله تعالى -:
" أما الكلام في الصفات، فإن ما وري منها في السنن الصحاح مذهب السلف رضوان الله عليهم إثباتها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله سبحانه، وحققها من المثبتين قوم فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين، ودين الله بين الغالي فيه والمقصر عنه.
والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلوماً أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو لبيان إثبات وجود، لا إثبات تحديد وتكييف.
فإذا قلنا: لله تعالى يد وسمع وبصر، فإنما هي صفات أثبتها الله تعالى لنفسه، ولا نقول: إن معنى اليد القدرة، ولا إن معنى السمع والبصر: العلم، ولا نقول: إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات الفعل، ونقول إنما وجب إثباتها، لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تبارك وتعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وقوله تبارك وتعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .
ولما تعلق أهل البدع على عيب أهل النقل برواياتهم هذه الأحاديث، ولبَّسوا على من ضعُف علمه بأنهم يروون ما لا يليق بالتوحيد ولا يصح في الدين، ورموهم بكفر أهل التشبيه وغفلة أهل التعطيل، أجيبوا بأن في كتاب الله تعالى
آيات محكمات يفهم منها المراد بظاهرها، وآيات متشابهات لا يوقف على معناها إلا بردها إلى المحكم، ويجب تصديق الكل والإيمان بالجميع، فكذلك أخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جارية هذا المجرى ومنزّلة على هذا التنزيل برد المتشابه منها إلى المحكم ويقبل الجميع.
فتنقسم الأحاديث المروية في الصفات ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أخبار ثابتة أجمع أئمة النقل على صحتها لاستفاضة نقلها فيجب قبولها، والإيمان بها، مع حفظ القلب أن يسبق إليه ما يقتضي تشبيه الله بخلقه، ووصفه بما لا يليق من الجوارح والتغير والحركات.
والقسم الثاني: أخبار ساقطة بأسانيد واهية، وألفاظ شهد أهل العلم بالنقل على بطلانها، فهذه لا يجوز الاشتغال بها والاعتماد عليها.
والقسم الثالث: أخبار اختلف أهل العلم في أحوال نقلتها البعض دون الكل، فهذه يجب الاجتهاد والنظر فيها ليلحق بأصحها أو يجعل في حيز الفساد والبطول".
قلت: وهذا الحديث الذي نحن في صدد الكلام عليه من هذا القسم، وقد نظرنا فيه على ضوء قواعد الحديث فتبين أنه من الفساد والبطول.
محمد ناصر الدين
أبو عبد الرحمن
"مقالات الألباني"(ص 167 - 172)