الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[1031] باب رد شبهات حول إثبات الفوقية لله تعالى
الشبهة الأولى: أن إثبات الفوقية يستلزم التشبيه
الشبهة الثانية: أنه يستلزم إثبات الجهة لله تعالى.
الشبهة الثالثة: أنه يستلزم إثبات المكان لله تعالى.
[قال الإمام]:
لقد اشتهر عند الخلف نسبة كل من يثبت الفوقية لله تعالى إلى أنه مشبِّه
أو مجسِّم، أو إلى أنه ينسب لله الجهة والمكان، فهذه ثلاثة أمور لا بد من إزالة الشبه عنها.
الشبهة الأولى: التشبيه:
يمكن أخذ الإجابة عن هذه الشبهة مما تقدم من النقول عن الأئمة ومما سنراه في نصوص الكتاب الآتية أذكر الآن بعضها:
1 -
قال نعيم بن حماد الحافظ: من شَبَّه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف به نفسه ولا رسولهُ تشبيهاً.
2 -
قال إسحاق بن راهويه: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد مثل يدي، أو سمع كسمعي، فهذا تشبيه، وأما إذا قال كما قال الله: يد وسمع وبصر فلا يقول:
كيف ولا يقول: مثل فهذا لا يكون تشبيهاً قال تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} .
ولو كان إثبات الفوقية لله تعالى معناه التشبيه لكان كل من أثبت الصفات
الأخرى لله تعالى ككونه قديراً سميعاً بصيراً مُشَبِّهاً أيضا، وهذا ما لا يقول به مسلم ممن ينتسبون اليوم إلى أهل السنة والجماعة، خلافاً لنُفَات الصفات والمعتزلة وغيرهم قال شيخ الإسلام في " منهاج السنة " (2/ 75):
" فالمعتزلة والجهمية ونحوهم من نفات الصفات يجعلون كل من أثبتها مجسماً مشبهاً، ومن هؤلاء من يعد من المجسمة والمشبهة الأئمة المشهورين كمالك والشافعي وأحمد وأصحابهم، كما ذكر ذلك أبو حاتم صاحب كتاب "الزينة " وغيره.
وشُبهة هؤلاء أن الأئمة المشهورين كلهم يثبتون الصفات لله تعالى ويقولون: "إن القرآن كلام الله ليس بمخلوق"، ويقولون:"إن الله يُرى في الآخرة ".
هذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أهل البيت وغيرهم
ثم قال (ص80):
"والمقصود هنا أن أهل السنة متفقون على أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ولكن لفظ التشبيه في كلام الناس لفظ مجمل، فإن أراد بنفي التشبيه ما نفاه القرآن ودل عليه العقل فهذا حق؛ فإن خصائص الرب تعالى لا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته .. ، وإن أراد بالتشبيه أنه لا يثبت لله شيء من الصفات فلا يقال له علم ولا قدرة ولا حياة؛ لأن العبد موصوف بهذه الصفات فيلزم أن لا يقال له: حي عليم قدير؛ لأن العبد يسمى بهذه الأسماء وكذلك في كلامه وسمعه وبصره ورؤيته وغير ذلك، وهم يوافقون أهل السنة على أن الله موجود حي عليم قادر، والمخلوق يقال له: موجود حي عليم قادر، ولا يقال: هذا تشبيه يجب نفيه ".
الشبهة الثانية: الجهة:
والجواب عنها ما قاله ابن تيمية في " التدمرية "(ص 45): قد يراد بـ " الجهة " شيء موجود غير الله فيكون مخلوقاً، كما إذا أريد بـ " الجهة " نفس العرش أو نفس السماوات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم، ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه، كما فيه إثبات العلو والاستواء والفوفية والعروج إليه ونحو ذلك، وقد عُلِمَ أنَّ ما ثَمَّ موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق سبحانه وتعالى مباين للمخلوق ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته.
فيقال لمن نفى: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلاً في المخلوقات، أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أن الله فوق العالم، وكذلك يقال لمن قال: الله في جهة: أتريد بذلك أن الله فوق العالم، أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات؟ فإن أردت الأول فهو حق وإن أردت الثاني فهو باطل".
ومنه يتبين أن لفظة الجهة غير وارد في الكتاب والسنة، وعليه فلا ينبغي إثباتها ولا نفيها؛ لأن في كل من الإثبات والنفي ما تقدم من المحذور، ولو لم يكن في إثبات الجهة إلا إفساح المجال للمخالف أن ينسب إلى متبني العلو ما لا يقولون به لكفى.
وكذلك لا ينبغي نفي الجهة توهماً من أن إثبات العلو لله تعالى يلزم منه إثبات الجهة؛ لأن في ذلك محاذير عديدة منها نفي الأدلة القاطعة على العلو له تعالى، ومنها نفي رؤية المؤمنين لربهم عز وجل يوم القيامة فصرح بنفيها المعتزلة والشيعة وعلل ابن المطهر الشيعي في " منهاجه " النفي المذكور بقوله: " لأنه ليس في
جهة " وأما الأشاعرة أو على الأصح متأخروهم الذين أثبتوا الرؤية فتناقضوا حين قالوا: " إنه يرى لا في جهة " يعنون العلو قال شيخ الإسلام في " منهاج السنة " (2/ 252):
" وجمهور الناس من مثبتة الرؤية ونفاتها يقولون: إن قول هؤلاء معلوم الفساد بضرورة العقل كقولهم في الكلام، ولهذا يذكر أبو عبد الله الرازي أنه لا يقول بقولهم في مسألة الكلام والرؤية أحد من طوائف المسلمين".
ثم أخذ يرد على النفاة من المعتزلة والشيعة بكلام رصين متين فراجعه فإنه نفيس وجملة القول في الجهة أنه إن أريد به أمر وجودي غير الله كان مخلوقاً، والله تعالى فوق خلقه لا يحصره ولا يحيط به شيء من المخلوقات، فإنه بائن من المخلوقات كما سيأتي في الكتاب عن جمع من الأئمة.
وإن أريد بـ "الجهة" أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده.
وهذا المعنى الأخير هو المراد في كلام المثبتين للعلو، والناقلين عن السلف إثبات الجهة لله تعالى كما في نقل القرطبي عنهم في آخر الكتاب. وقال ابن رشد في " الكشف عن مناهج الأدلة " (ص 66):
" القول في الجهة ": وأما هذه الصفة لم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخروا الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله، وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة مثل قوله تعالى:(ثم ذكر بعض الآيات المعروفة ثم قال) إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولاً وإن قيل فيها إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابها؛ لأن الشرائع كلها متفقة على أن الله في السماءَ وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين
…
).
الشبهة الثالثة: المكان
وإذا عرفت الجواب عن الشبهة السابقة " الجهة " يسهل عليك فهم الجواب عن هذه الشبهة وهو أن يقال:
إما أن يراد بالمكان أمر وجودي وهو الذي يتبادر لأذهان جماهير الناس اليوم، ويتوهمون أنه المراد بإثباتنا لله تعالى صفة العلو. فالجواب: أن الله تعالى منزه عن أن يكون في مكان بهذا الاعتبار فهو تعالى لا تحوزه المخلوقات؛ إذ هو أعظم وأكبر، بل قد وسع كرسيه السموات والأرض وقد قال تعالى:[وما قدر الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه] وثبت في " الصحيحين " وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «يقبض الله بالأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟» .
وأما أن يراد بالمكان أمر عدمي وهو ما وراء العالم من العلو فالله تعالى فوق العالم، وليس في مكان بالمعنى الوجودي كما كان قبل أن يخلق المخلوقات.
فإذا سمعت أوقرأت عن أحد الأئمة والعلماء نسبة المكان إليه تعالى. فاعلم أن المراد به معناه العدمي، يريدون به إثبات صفة العلو له تعالى، والرد على الجهمية والمعطلة الذين نفوا عنه سبحانه هذه الصفة ثم زعموا أنه في كل مكان بمعناه الوجودي، قال العلامة ابن القيم في قصيدته " النونية " (2/ 446 - 447 - المطبوعة مع شرحها " توضيح المقاصد ":
والله أكبر ظاهر ما فوقه شيء
…
وشأن الله أعظم شان
والله أكبر عرشه وسع السما
…
والأرض والكرسي ذا الأركان
وكذلك الكرسي قد وسع الطبا
…
ق السبع والأرضين بالبرهان
والله فوق العرش والكرسي
…
لا تخفى عليه خواطر الإنسان
لا تحصروه في مكان إذ تقو
…
لوا: ربنا حقا بكل مكان
نزهمتوه بجهلكم عن عرشه
…
وحصرتموه في مكان ثان
لا تعدموه بقولكم: لا داخل
…
فينا ولا هو خارج الأكوان
الله أكبر هتكت أستاركم
…
وبدت لمن كانت له عينان
والله أكبر جل عن شَبَهٍ وعن
…
مِثل وعن تعطيل ذي كفران
إذا أحطت علماً بكل ما سبق استطعت بإذن الله تعالى أن تفهم بيسر من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار السلفية التي ساقها المؤلف رحمه الله في هذا الكتاب الذي بين يديك " مختصره " أن المراد منها إنما هو معنى معروف ثابت لائق به تعالى، ألا وهو علوه سبحانه على خلقه، واستواؤه على عرشه، على ما يليق بعظمته، وأنه مع ذلك ليس في جهة ولا مكان؛ إذ هو خالق كل شيء، ومنه الجهة والمكان، وهو الغني عن العالمين، وأن من فسرها بالمعنى السلبي فلا محذور منه، إلا أنه مع ذلك لا ينبغي إطلاق لفظ الجهة والمكان ولا إثباتهما لعدم ورودهما في الكتاب والسنة، فمن نسبهما إلى الله فهو مخطئ لفظأً إن أراد بهما الإشارة إلى إثبات صفة العلو له تعالى، وإلا فهو مخطئ معنى أيضاً إن أراد به حصره تعالى في مكان وجودي أو تشبيهه تعالى بخلقه.
وكذلك لا يجوز نفي معناهما إطلاقاً إلا مع بيان المراد منهما؛ لأنه قد يكون الموافق للكتاب والسنة؛ لأننا نعلم بالمشاهدة أن النفاة لهما إنما يعنون بهما نفي صفة العلو لله تعالى من جهة ونسبة التجسيم والتشبيه للمؤمنين بها، ولذلك ترى الكوثري في تعليقاته يدندن دائما حول ذلك بل يلهج بنسبة التجسيم إلى شيخ
الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في كل مناسبة ثم تابعه على ذلك مؤلف " فرقان القرآن " في مواطن منه قال في أحدها (ص 61) أن ابن تيمية شيخ إسلام أهل التجسيم {ومن يضلل الله فما له من هاد} .
واتهام أهل البدع وأعداء السنن أهلَ الحديث بمثل هذه التهم قديم منذ أن نشب الخلاف بينهم في بعض مسائل التوحيد والصفات الإلهية، وسترى في ترجمة الإمام أبي حاتم الرازي رحمه الله تعالى قوله:
" وعلامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر وعلامة الجهمية أن يُسَمُّوا أهل السنة مشبهة وعلامة القدرية (المعتزلة) أن يسموا أهل السنة مجبرة، وعلامة الزنادقة أن يسموا أهل الأثر حشوية ".
وإن افتراءهم على شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال بعد أن روى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ينزل الله إلى السماء الدنيا
…
» كنزولي هذا، معروف وقد بين بطلان هذه الفرية شيخي في الإجازة الشيخ راغب الطباخ في بعض أعداد مجلة المجمع العلمي بدمشق ثم صديقنا العلامة الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار في كتابه " ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية ".
ومن أسوأ ما افتراه بعضهم على الإمام شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي الأنصاري ما ذكره الحافظ المؤلف في ترجمته من " تذكرة الحفاظ "(3/ 358):
" لما قدم السلطان ألب أرسلان (هراة) في بعض قدماته اجتمع مشايخ البلد ورؤساؤه، ودخلوا على أبي إسماعيل وسلموا عليه وقالوا: ورد السلطان ونحن على عزم أن نخرج ونسلم عليه، فأحببنا أن نبدأ بالسلام عليك، وكانوا قد تواطؤوا على أن حملوا معهم صنماً من نحاس صغيراً وجعلوه في المحراب تحت سجادة
الشيخ، وخرجوا وقام إلى خلوته ودخلوا إلى السلطان واستغاثوا من الأنصاري؛ لأنه مجسم وأنه يترك في محرابه صنماً يزعم أن الله على صورته (!) وإن بعث السلطان يجده، فعظم ذلك على السلطان وبعث غلاماً ومعه جماعة فدخلوا الدار وقصدوا المحراب فأخذوا الصنم، ورجع الغلام بالصنم، فبعث السلطان من أحضر الأنصاري فأتى فرأى الصنم والعلماء والسلطان قد اشتد غضبه. فقال السلطان له: ما هذا؟ قال: هذا صنم يعمل من الصفر شبهة اللعبة. قال: لست عن هذا أسألك. قال: فعم تسألني؟ قال: إن هؤلاء يزعمون أنك تعبد هذا، وأنك تقول إن الله على صورته، فقال الأنصاري بصولة وصوت جهوري:" سبحانك هذا بهتان عظيم ".فوقع في قلب السلطان أنهم كذبوا عليه، فأمر به فأخرج إلى داره مكرماً، وقال لهم اصدقوني - وهددهم - فقالوا: نحن في يد هذا الرجل في بلية من استيلائه علينا بالعامة فأردنا أن نقطع شره عنا، فأمر بهم ووكل (لعله: فكل) (1) بكل واحد منهم وصادرهم ".
وختاما أنقل إلى القراء الكرام فصلاً نافعاً من كلام الإمام أبي محمد الجويني في آخر رسالة " الإستواء والفوقية " في تقريب هذه المسألة إلى الأفهام بمعنى من علم الهيئة والفلك لمن عرفه قال:
" لا ريب أن أهل العلم حكموا بما اقتضته الهندسة، وحكمها صحيح لأنه ببرهان لا يكابر الحسن (2) فيه بأن الأرض في جوف العالم العلوي، وأن كرة الأرض في وسط السماء كبطيخة، في جوف بطيخة والسماء محيطة بها من جميع جوانبها، وأن سفل العالم هو جوف كرة الأرض وهو المركز وهو منتهى السفل
(1) كذا، ولعل صوابها: نكَّل.
(2)
كذا ولعل صوابها: الحس.
والتحت وما دونه لا يسمى تحتاً، بل لا يكون تحتاً ويكون فوقاً بحيث لو فرضنا خرق المركز وهو سفل العالم إلى تلك الجهة؛ لكان الخرق إلى جهة فوق، ولو نفذ الخرق جهة السماء من تلك الجهة الأخرى لصعد إلى جهة فوق (1).
وبرهان ذلك أنا لو فرضا مسافراً سافر على كرة الأرض من جهة المشرق إلى جهة المغرب وامتد مسافراً، لمشى مسافراً على الكرة إلى حيث ابتدأ بالسير وقطع الكرة مما يراه الناظر أسفل منه، وهو في سفره هذا لم يبرح الأرض تحته والسماء فوقه، فالسماء التي يشهدها الحس تحت الأرض هي فوق الأرض لا تحتها؛ لأن السماء فوق الأرض بالذات فكيف كانت السماء كانت فوق الأرض من أي جهة فرضتها. قال:
" وإذا كان هذا جسم وهو السماء علوها على الأرض بالذات، فكيف من ليس كمثله شيء وعلوه على كل شيء بالذات كما قال تعالى:{سبح اسم ربك الأعلى} وقد تكرر في القرآن المجيد ذكر الفوقية {يخافون ربهم من فوقهم}
…
لأن فوقيته سبحانه وعلوه على كل شيء ذاتي له، فهو العلي بالذات، والعلو صفته اللائقة به، كما أن السفول والرسوب والانحطاط ذاتي للأكوان عن رتبة ربوبيته وعظمته وعلوه، والعلو والسفول حد بين الخالق والمخلوق يتميز به عنه هو سبحانه عليٌّ بالذات، وهو كما كان قبل خلق الأكوان وما سواه مستقل عنه بالذات، وهو سبحانه العلي على عرشه، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج الأمر إليه، فيحيي هذا، ويميت هذا، ويمرض هذا، ويشفي هذا، ويعز هذا، ويذل هذا، وهو الحي القيوم القائم بنفسه، وكل شيء قائم به، فرحم الله عبداً
(1) قلت: وقد ذكر نحو هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة " العرشية ". [منه].
وصلت إليه هذه الرسالة ولم يعالجها بالإنكار، وافتقر إلى ربه في كشف الحق آناء الليل [وأطراف] النهار، وتأمل النصوص في الصفات، وفَكَّرَ بعقله في نزولها، وفي المعنى الذي نزلت له، وما الذي أريد بعلمها من المخلوقات؟ ومن فتح الله قلبه عرف أنه ليس المراد إلا معرفة الرب تعالى بها، والتوجه إليه منها، وإثباتها له بحقائقها وأعيانها، كما يليق بجلاله وعظمته، بلا تأويل، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، ولا جمود، ولا وقوف، وفي ذلك بلاغ لمن تدبر، وكفاية لمن استبصر إن شاء الله تعالى ".
وقال رحمه الله تعالى وأثابه خيراً مبيناً أثر هذه العقيدة في قلب المؤمن بها:
" العبد إذا أيقن أن الله فوق السماء، عالٍ على عرشه بلا حصر ولا كيفية، وأنه الآن في صفاته كما كان في قدمه؛ صار لقلبه قبلة في صلاته وتوجهه ودعائه، ومن لا يعرف ربه بأنه فوق سماواته على عرشه، فإنه يبقى ضائعاً لا يعرف وجهة معبوده، لكن لو عرف بسمعه وبصره وقدمه وتلك بلا هذا [الإيقان] معرفة ناقصة بخلاف من عرف أن إلهه الذي يعبده فوق الأشياء، فإذا دخل في الصلاة وكبر توجه قلبه إلى جهة العرش، منزها ربه تعالى عن الحصر، مفرداً له كما أفرده في قدمه وأزليته، عالماً أن هذه الجهات من حدودنا ولوازمنا ولا يمكننا الإشارة إلى ربنا في قدمه وأزليته إلا بها؛ لأنا محدثون، والمحدث لا بد له في إشارته إلى جهة، فتقع تلك الإشارة إلى ربه كما يليق بعظمته، لا كما يتوهم هو من نفسه، ويعتقد أنه في علوه قريب من خلقه، هو معهم بعلمه وسمعه وبصره، وإحاطته وقدرته ومشيئته، وذاته فوق الأشياء فوق العرش، ومتى شعر قلبه بذلك في الصلاة أو التوجه أشرق قلبه واستنار، وأضاء بأنوار المعرفة والإيمان، وعكسته أشعة العظمة على عقله وروحه ونفسه، فانشرح لذلك صدره، وقوي إيمانه، ونزه ربه عن