الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-قال مثلاً.
-بشرف الله.
-أي نعم، فيما يبدوا لي -والله أعلم- نرتب عليه لأن الأعمال بالنيات لكن نحن نصحح له لفظه.
"الهدى والنور"(542/ 14: 16: 00)
[984] باب هل يصح قول القائل: الله على ما يشاء قدير
[قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم]:
- "آخرُ مَن يدخلُ الجنةَ رجلٌ؛ فهو يمشي مرة، ويكبو مرةً، وتسفعُهُ النارُ مرةً، فإذا ما جاوزَها التفتَ إليها فقال: تباركَ الذي نجاني منكِ، لقدْ أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين، فتُرفعُ لهُ شجرةٌ، فيقولُ: أيْ ربِّ! أدنني من هذه الشجرة، فلأستظلَّ بظلِّها، وأشربَ من مائها، فيقولُ الله عز وجل: يا ابن أدم! لعلِّي إن أعطيتُكَها سألتني غيرها؟ فيقولُ: لا يا ربِّ! ويعاهدُه أن لا يسألَه غيرها، وربُّه يعذِرُه؛ لأنَّه يرى ما لا صبْرَ لَهُ عليه، فيدنيهِ منها، فيستَظلُّ بظلِّها، ويشربُ من مائها.
ثم ترفعُ له شجرةً هي أحسن من الأولى، فيقولُ: أيْ ربِّ! أدنني من هذه لأشربَ من مائها، وأستظلَّ بظلِّها، لا أسأَلُكَ غيرها، فيقولُ: يا ابن آدم! ألم تعاهدْني أن لا تسألنِي غيرها؟ فيقول: لعلِّي إن أدنيتُك منها تسألُني غيرها؟ فيعاهدهُ أن لا يسألَه غيرَها، وربُّه يعذرُه؛ لأنَّه يرى ما لا صَبْرَ له عليه، فيدنيهِ منها، فيستظلُّ بظلِّها، ويشربُ من مائها.
ثم ترفعُ له شجرةٌ عند باب الجنة هي أحسن من الأولَيَيْنِ، فيقولُ: أيْ ربِّ! أدنني من هذه لأستظلَّ بظلِّها، وأشربَ من مائها، لا أسألُكَ غيرها! فيقولُ: يا ابن آدمَ! ألمْ تعاهدني أن لا تسألَني غيرها؟ قال: بلى يا ربِّ! هذه لا أسألُك غيرها، وربُّه يعذرُه؛ لأنه يرى ما لا صَبْرَ له عليها، فيدنيه منها.
فيسمعُ أصوات أهل الجنة فيقولُ: أيْ ربِّ! أدخِلنِيها، فيقول: أيِ ابنَ أدمَ! ما يَصْرِيني منكَ؟ أيرضيك أن أعطيكَ الدنيا ومثلَها معَها؟ قال: يا ربِّ! أتستهزئ مني وأنت ربُّ العالمين؟
فضحكَ ابنُ مسعودٍ، فقالَ: ألا تسألوني ممَ أضحكُ؟ فقالوا: ممَ تضحكُ؟ قال: من ضَحِكِ ربِّ العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنتَ ربُّ العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئُ منكَ، ولكنِّي على ما أشاء قادر.- وفي رواية: قدير"
[قال الإمام]:
(فائدة): قوله: "ولكني على ما أشاء قادر- أو قدير- ": فيه دليل على جواز استعمال هذه الكلمة: "إن الله تعالى على ما يشاء قدير"، وقد كنت توقفت عنها حين علقت على قول الطحاوي في "العقيدة" (ص 20):"ذلك بأنه على كل شيء قدير" كلمة للشيخ ابن مانع- رحمه الله أن ذلك ليس بصواب (1)، وأن الصواب ما في الكتاب والسنة (وهو على كل شيء قدير) لعموم مشيئة الله وقدرته .. إلخ كلامه. ثم وقفت بعد ذلك على هذه الكلمة في هذا الحديث في "صحيح مسلم "، فخشيت- متأثراً بكلام الشيخ- أن تكون شاذة في الحديث؛ أو خطأ من بعض الرواة، فتريَّثت حتى يتسنى لي تخريجه والنظر في إسناده ورواته.
(1) أي تعبير بعض الناس بقولهم: "وهو ما يشاء قدير".
ثم كنت في ليلة من ليالي غرة شهر ذي الحجة في بعض مخيمات عَمّان ألقي كلمة حول وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح؛ ووجوب قرن ذلك بالعمل، وبعد الفراغ منها فتحنا باب الأسئلة، فسأل أحد إخواننا الحاضرين- ويبدو أنه على شيء من العلم والثقافة- عن هذه الكلمة، مشيراً إلى تعليقي المذكور على "العقيدة الطحاوية "، وذكر- جزاه الله خيراً- بقوله تعالى:[وهو على جمعهم إذا يشاء قدير](الشورى/29)، فأجبته بأن الحديث بحاجة إلى تخريج وتحقيق، مشيراً إلى أنه من الممكن أن يكون أصل الكلمة:"وأنا على كل شيء قدير" أو نحوها، فبادرت إلى تخريج الحديث، فوجدت أن الرواة عن حماد بن سلمة اتفقوا على اللفظ المتقدم.
ثم تابعت البحث والتحقيق فوجدت للحديث طريقاً أخرى عن ابن مسعود، يرويه يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد الدالاني: ثنا المنهال بن عمرو عن أبي عُبيدة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً مطولاً جداً؛ لكن بلفظ:
"ولكني على ذلك قادر".
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(9/ 416 - 421)، والحاكم (2/ 376 - 377 و4/ 589 - 592) وقال في الموضع الأول:
"صحيح على شرط الشيخين "! ووافقه الذهبي!
وقال في الموضع الآخر:
"رواة هذا الحديث- عن آخرهم- ثقات؛ غير أنهما لم يخرجا أبا خالد الدالاني في "الصحيحين "؛ لما ذكر من انحرافه عن السنة في ذكر الصحابة، فأمّا الأئمة المستقدمون؛ فكلهم شهدوا لأبي خالد بالصدق والإتقان، والحديث
صحيح ولم يخرجاه، وأبو خالد الدالاني ممن يجمع حديثه في أئمة أهل الكوفة".
كذا قال! وما عرفت من شهد له بالإتقان، أما الصدق؛ فنعم، وفي حفظه ضعف كما يأتي، وأما الذهبي؛ فتعقبه هنا بقوله:
"ما أنكره حديثاً على جودة إسناده، وأبو خالد شيعي منحرف "!
وأقول: لم أر من رماه بالتشيع، فلعله التبس عليه بغيره، ثم هو مختلف فيه، فقال الذهبي نفسه في "الكاشف ":
"وثقة أبو حاتم، وقال ابن عدي: في حديثه لين ".
وقال في " المغني ":
"مشهور، حسن الحديث، قال أحمد: لا بأس به، وقال ابن حبان: فاحِشُ الوهم، لا يجوز الاحتجاج به ".
ولذلك قال الحافظ في "التقريب ":
"صدوق يخطئ كثيراً، وكان يدلس ".
قلت: وجزم الهيثمي بتوثيقه؛ كما يأتي، وهو من تساهله، وإن كان مسبوقاً إليه، ولكن لا ينبغي غض النظر عن الجرح المفسر، الذي تضمنه كلام ابن حبان وغيره، فيتقى من حديثه ما يخشى أن يكون وهم فيه، أو ينتقى من حديثه ما سلم من خطئه، كما هو الواقع هنا؛ فقد توبع عليه، فقال زيد بن أبي أنيسة: عن المنهال بن عمرو به مطولاً أيضاً، وباللفظ المذكور في رواية الدالاني.
أخرجه عبد الله بن أحمد في "السنة"(2/ 520 - 524 - دار ابن القيم)، والطبراني أيضاً عنه وعن حافظين آخرين ثلاثتهم، والبيهقي في "البعث "
(239/ 479)، كلهم عن إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحرَّاني: ثنا محمد بن سلمة الحراني عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة به.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم؛ غير إسماعيل ابن عُبَيد الحراني، وهو ثقة كما قال الذهبي في "الكاشف "، والحافظ في "التقريب"؛ وزاد:" يغرب".
وقال المنذري في "الترغيب "(4/ 198 و248):
"رواه ابن أبي الدنيا والطبراني من طرق أحدها صحيح، والحاكم وقال: صحيح الإسناد".
وقال ابن القيم في "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح "(2/ 94 - طبعة الكردي):
"هذا حديث كبير حسن .. ".
وأما الهيثمي فقال (10/ 343):
"رواه كله الطبرانى من طرق رجال أحدها رجال الصحيح؛ غير أبي خالد الدالاني؛ وهو ثقة "!
كذا قال: وفيه شيئان:
أحدهما: جزمه بتوثيق الدالاني، وقد عرفت ما فيه.
والآخر: أنه فاته أن الطريق الأخرى من رواية الحرانيين أصح من طريق الدالاني كما تبين لك مما ذكرنا، وهي التي جزم بصحتها المنذري، وحسنها ابن
القيم، ولا أدري لِمَ لَمْ يصححها؟ على أنه أخرجها الطبراني أيضاً عقب روايته عن الدالاني.
وقد خالفهم في إسناد الطريقين: أبو طيبة فقال: عن كُرْز بن وبرة عن نُعَيْمٍ ابن أبي هند عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود به مطولاً بلفظ:
" يقوم الناس لرب العالمين أربعين سنة، شاخصة أبصارهم ".الحديث، وفيه اللفظ الثاني الذي في طريق الدالاني والحراني.
أخرجه السهمي في "تاريخ جرجان "(350 - 354) بطوله، والطبراني (9764) عقب حديث ابن أبي أنيسة، ولم يسق منه إلا طرفاً من أوله، وكذا ابن عدي في "الكامل " (5/ 258) في ترجمة أبي طيبة- واسمه عيسى بن سليمان الجرجاني- وقال الطبراني عقبه:
"ثم ذكر نحو حديث زيد بن أبي أنيسة".
قلت: وأبو طيبة هذا قال ابن عدي- وقد ساق له هذا الحديث مع
أحاديث أخرى-:
"وهذه الأحاديث كلها غير محفوظة، وأبو طيبة رجل صالح، ولا أظن أنه كان يتعمد الكذب، ولكن لعله كان يُشَبْهُ عليه فيغلط ".
قلت: وذكره ابن حبان في "الثقات "(7/ 234) وقال: "يخطئ ".
ومن الظاهر أنه هو الذي خالف في هذا الإسناد، فأسقط- من بين ابن مسعود وأبي عبيدة- مسروقاً؛ فإن رجاله ثقات غير كرز بن وبرة، وقد روى عنه جمع من الثقات، وقد ذكره ابن حبان فيهم، وقد تناقض فيه تناقضاً عجيباً، فأورده في
"التابعين "(5/ 338) بروايته عن أنس! وما إخاله يصح، ثم ذكره (9/ 27) فيمن روى عن "أتباع التابعين "؛ بروايته عن الثوري (1)! ولعل الصواب أن يذكر في "أتباع التابعين "؛ لأنه روى عن نعيم بن أبي هند كما في هذه الرواية، وكما في "الجرح"، وقال (3/ 2/170):
"روى عنه الثوري وابن شبرمة وعبيد الله الوَصَّافي وفُضَيل بن غزوان وورقاء ابن عمر".
فإن هؤلاء أكثرهم من أتباع التابعين، غير ابن شبرمة- واسمه- عبد الله؛ فإنه تابعي كنعيم بن أبي هند، وعبيد الله الوصافي- وهو ابن الوليد-؛ فإنه من الرواة عن التابعين، فمن المحتمل أن يكون كُرْز هذا من صغار التابعين، وكان مشهوراً بالعبادة، بل وبالمبالغة فيها، وحكوا عنه في ذلك عجائب، له ترجمة واسعة في "تاريخ جرجان "(ص 336 - 344)، و"الحلية "(5/ 79 - 83)، و"سير أعلام النبلاء"(6/ 84 - 86)، ولقد عجبت منه- والله! وهو المحدث السلفي- كيف سكت عن بعض تلك المبالغات؟! مثل ختمه للقرآن في اليوم والليلة ثلاث مرات، وهو يعلم أنه خلاف السنة، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
"لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث ".
بل إنه سكت عما هو أدهى وأمرُّ، وهو أنه سأل ربَّه أن يعطيه الاسم الأعظم، فسأل أن يقوى على الختم المذكور! وهذا من الاعتداء في الدعاء المنهي عنه أيضاً في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
(1) كذا وقع فيه، والصواب أن الثوري روى عنه؛ كما يأتي عن "الجرح والتعديل ". [منه].
"سيكون قوم يعتدون في الدعاء".
وهو مخرج في "صحيح أبي داود"(1330).
وجملة القول؛ أن هذه الجملة قد اختلف في ضبطها عن ابن مسعود رضي الله عنه على اللفظين السابقين:
الأول: "ولكني على ما أشاء قادر".
والآخر: "ولكني على ذلك قادر".
واللفظ الأول أصح إسناداً كما هو ظاهر.
لكن الآخر- مع صحة إسناده- مطابق لنص الآية تمام المطابقة: (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير).لأن المعنى: إذا يشاء ذلك الجمع، قال العلامة الآلوسي في "روح المعا ني ":
"و (إذا) متعلقة بما قبلها لا بـ (قدير)؛ لأن المقيّد بالمشيئة جمعُه تعالى، لا قدرته سبحانه ".
قلت: وعلى ضوء تفسيره للآية، نقول: إن اسم الإشارة في الحديث: "ذلك " يعود إلى ما أعطى الله عز وجل عبده من النعم الكثيرة التي لا يستحقها؛ فضلاً منه تعالى عليه، فلما قال ما قال مستكثراً ذلك عليه؛ قال تعالى:"ولكني على ذلك قادر"، فإذا فُسِّرَ بهذا اللفظ الأول أيضاً ولم يوقف عند ما فيه من مفهوم المخالفة، المشعر بأنه تعالى غير قادر على ما لا يشاء؛ على حد قوله تعالى:{لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} ونحوه من المفاهيم التي قامت الأدلة القاطعة على أنها غير مرادة، إذا فسر هذا اللفظ الأول بهذا الذي دل عليه اللفظ الثاني؛ استقام المعنى،