الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[792] باب أصول عقيدة السلف في الأسماء والصفات
[قال الإمام في مقدمة كتابه "مختصر العلو"]:
وهنا يطيب لي بهذه المناسبة أن أنقل من بعض المخطوطات فصلاً رائعاً من كلام بعض علماء السلف مما لم يُطبع حتى الآن فيما علمت وهو للخطيب البغدادي الحافظ المؤرخ المشهور، وقد ذكر المصنف طرفاً منه في ترجمته كما يأتي فرأيت أن أذكره هنا بنصه إتماماً للحجة على الخَلَف الذين يتوهم الكثير منهم أن القول بوجوب الإيمان بحقائق الصفات ومعانيها كما يليق بالله تعالى هو مذهب تفرد به ابن تيمية ومن اقتدوا به فيها، ولم يعلموا أنه رحمه الله تابع لهم في ذلك، وإنما فضله في بيانه وشرحه له، وإقامة الأدلة عليه بالمنقول والمعقول، ودفع الشبهات عنه، وإلا فهو سلفي المعتقد، وهو الواجب على كل مسلم، ولذلك بادرنا إلى نشر كتاب الذهبي هذا الذي بين يديك لتعلم به ما قد يكون خافياً عليك كما خفي على غيرك، فكان ذلك سببا قوياًّ من أسباب الابتعاد عن العقيدة السلفية والطريقة المحمدية.
قال الحافظ الخطيب رحمه الله تعالى:
" أما الكلام في الصفات فإن ما روي منها في السنن الصحاح مذهب السلف رضوان الله عليهم إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله سبحانه، وحققها من المثبتين قوم فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين ودين الله بين الغالي فيه والمقصِّر عنه.
والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، ويحتذي
في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلوما أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف.
فإذا قلنا: لله تعالى يد وسمع وبصر فإنما هي صفات أثبتها الله تعالى لنفسه ولا نقول: إن معنى اليد: القدرة، ولا إن معنى السمع والبصر: العلم، ولا نقول: إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها؛ لقوله تبارك وتعالى {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وقوله عز وجل: {ولم يكن له كفوا أحد} .
ولما تعلق أهل البدع على عيب أهل النقل برواياتهم هذه الأحاديث، ولبَّسوا على من ضعف علمه بأنهم يروون ما لا يليق بالتوحيد ولا يصح في الدين، ورموهم بكفر أهل التشبيه وغفلة أهل التعطيل أجيبوا بأن في كتاب الله تعالى آيات محكمات يفهم منها المراد بظاهرها، وآيات متشابهات لا يوقف على معناها إلا بردها إلى المحكم، ويجب تصديق الكل والإيمان بالجميع، فكذلك أخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جارية هذا المجرى، ومنزلة على هذا التنزيل، يرد المتشابه منها إلى المحكم ويقبل الجميع.
وتنقسم الأحاديث المروية في الصفات ثلاثة أقسام:
أ - منها أخبار ثابتة أجمع أئمة النقل على صحتها لاستفاضتها وعدالة ناقليها، فيجب قبولها والإيمان بها، مع حفظ القلب أن يسبق إليه اعتقاد ما
يقتضي تشبيها لله بخلقه، ووصفه بما لا يليق به من الجوارح والأدوات والتغير والحركات.
ب - القسم الثاني: أخبار ساقطة بأسانيد واهية وألفاظ شنيعة أجمع أهل العلم بالنقل على بطلانها، فهذه لا يجوز الاشتغال بها ولا التعريج عليها.
ج - والقسم الثالث: أخبار اختلف أهل العلم في أحوال نقلتها فقبلهم البعض دون الكل، فهذه يجب الاجتهاد والنظر فيها لتلحق بأهل القبول أو تجعل في حيز الفساد والبطول ".
قلت: فاحفظ هذا الأصل من الكلام في الصفات وافهمه جيداً؛ فإنه مفتاح الهداية والاستقامة عليها، وعليه اعتمد الإمام الجويني حين هداه الله تعالى لمذهب السلف في الاستواء وغيره كما تقدم ذكره عنه، وهو عمدة المحققين كلهم في تحقيقاتهم لهذه المسألة كابن تيمية وابن القيم وغيرهما قال ابن تيمية في " التدمرية " (ص 29): طبع المكتب الإسلامي:
" القول في الصفات كالقول في الذات؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل سائر الصفات.
فإذا قال السائل كيف استوى على العرش؟ قيل له كما قال ربيعة ومالك وغيرهما رضي الله عنهم: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة "؛ لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر ولا يمكنهم الإجابة عنه؛ وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: لا أعلم كيفيته. قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله؛ إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف وهو فرع له وتابع له فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله وأنت لا تعلم كيفية ذاته؟ وإذا كنت تُقر
بأن له حقيقة ثابتة في نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال لا يماثلها شيء، فسمعه وبصره وكلامه ونزوله واستواؤه ثابت في نفس الأمر، وهو متصف بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم وكلامهم ونزوله واستواؤهم
…
".
وقال في " الحموية "(ص 99) بعد أن ذكر مختصر ما تقدم:
" ومذهب السلف بين التعطيل وبين التمثيل، فلا يُمثلِّون صفات الله بصفات خلقه كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف بها نفسه ووصفه به رسوله، فيعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العليا، ويحرِّفوا الكلم عن مواضعه، ويلحدوا في أسماء الله وآياته.
وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل، أما المعطلِّون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل مثلَّوا أولاً وعطلوا آخراً، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة به سبحانه وتعالى؛ فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساوياً، وكل ذلك من المحال - ونحو ذلك من الكلام - فإنه لم يَفهم من كون الله على العرش إلا ما يَثُبت لأي جسم كان على أي جسم كان، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم، أما استواء يليق بجلال الله ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها كما يلزم سائر الأجسام، وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع فإما أن يكون جوهراً أو عرضاً إذا لا يعقل موجود إلا هذان، وقوله: إذا كان مستوياً على العرش فهو مماثل لاستواء