الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[812] باب بيان خطر التأويل ونقد مقولة:"مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم
"
[قال الإمام]:
وبعد فإن ضرر التأويل على أهله وحمله إياهم على الانحراف عن الشرع مما لا حدود له في نظري، فلولاه لم يكن للقائلين بوحدة الوجود اليوم وجود، ولا لإخوانهم القرامطة الباطنية من قبل الذين أنكروا الشريعة وكل ما فيها من حقائق كالجنة والنار والصلاة والزكاة والصيام والحج ويتأولونها بتآويل معروفة، قال العلامة المرتضى اليماني في " إيثار الحق على الخلق" في صدد بيان قبح التأويل (ص 135):
" فإن المعتزلة والأشعرية إذا كَفَّروا الباطني بإنكار الأسماء الحسنى والجنة والنار يقول لهم الباطني: لم أجحدها إنما قلت: هي مجاز مثلما أنكم لم تجحدوا الرحمن الرحيم الحكيم وإنما قلتم: إنها مجاز، وكيف كفاكم المجاز في الإيمان بالرحمن الرحيم وهما أشهر الأسماء أو من أشهرها ولم يكفني في سائرها وفي الجنة والنار مع أنهما دون أسماء الله بكثير؟ وكم بين الإيمان بالله وبأسمائه والإيمان بمخلوقاته؟ فإذا كفاكم الإيمان المجازي بأشهر الأسماء الحسنى فكيف لم يكفني مثله في الإيمان بالجنة والنار والمعاد؟ ".
قلت: ونحوهم طائفة القاديانية اليوم الذين أنكروا بطريق التأويل كثيراً من الحقائق الشرعية المجمع عليها بين الأمة كقولهم ببقاء النبوة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم متأسين في ذلك بنبيهم ميرزا غلام أحمد ومن قبله ابن عربي في " الفتوحات المكية " وتأولوا قوله تعالى: {ولكن رسول الله وخاتم النبيين} بأن المعنى زينة
النبيين وليس آخرهم وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا نبي بعدي» بقولهم: أي معي، وأنكروا وجود الجن مع تردد ذكرهم في القرآن الكريم فضلاً عن السنة وتنوع صفاتهم فيهما، وزعموا أنهم طائفة من البشر إلى غير ذلك من ضلالاتهم، وكلها من بركات التأويل الذي أخذ به الخلف في آية الاستواء وغيرها من آيات الصفات.
وليس أدل على ضرر التأويل على أصحابه المغرمين به من القول الذي شاع بينهم ولهجت به ألسنتهم كلما أثير بحث الصفات والإيمان بها على حقائقها أو على تأويلها ألا وهو قولهم:
«مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم» .
والشاب المثقف اليوم الذي لم تتلوث ثقافته الشرعية بشيء من علم الكلام ربما لا يصدق أن أحداً من الخلف يقول مثل هذا القول وحق له ذلك لخطورته وفظاعته ولكنه - مع الأسف - هو الواقع المعروف لدى طلبة الشريعة، وإليك مثالا واحداً على ذلك مما يقرؤونه على مشايخهم قال الباجوري في حاشيته (ص55) تحت قول صاحب " الجوهرة ":
وكل نص أوهم التشبيها
…
أوِّله أو فوِّض ورم تنزيها
"وطريقة الخلف أعلم وأحكم لما فيه من مزيد الإيضاح والرد على الخصوم وهي الأرجح، ولذلك قدمها المصنف، وطريقة السلف أسلم لما فيها من السلامة من تعيين معنى قد يكون غير مراد له تعالى".
وكلام الكوثري المشهور بعدائه الشديد لأهل السنة والحديث في تعليقاته كلها يدور على هذا المعنى من التفصيل المزعوم وفي تعليقه على " السيف الصقيل " التصريح بذلك (ص 132)
وهذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة بل في غاية الضلالة قال ابن تيمية في " العقيدة الحموية ": " كيف يكون هؤلاء المتأخرون لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كَثُر في باب الدين اضطرابهم وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم حيث يقول:
لعمري قد طفت المعاهد كلها
…
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر
…
على ذقن أو قارعاً سن نادم
وأقروا على أنفسهم بما قالوا متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم مثل قول بعض رؤسائهم:
نهاية إقدام العقول عقال
…
وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
…
وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
…
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ويقول الآخر منهم:
" أكثر الناس شَكَّا عند الموت أصحاب الكلام "
ثم إذا حُقَّ عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر، ولا وقعوا من ذلك على عين وعلى أثر.
كيف يكون هؤلاء المنقصون المحجوبون الحيارى المتهوكون أعلم بالله وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل وأعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذي بهم قام الكتاب وبه قاموا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع
الأنبياء، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة.
ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة لا سيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟ أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟
وقال العلامة السفاريني في " شرح العقيدة "(1/ 21 - مختصره):
"فمن المحال أن يكون المخالفون أعلم من السالفين كما يقوله بعض من لا تحقيق له به ممن لا يقدر قدر السلف ولا عرف الله تعالى ولا رسوله ولا المؤمنين به حق المعرفة المأمور بها: أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف (1) أعلم وأحكم.
وهؤلاء إنما أُتوا من حيث ظنوا أن طريق السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ذلك بمنزلة الأميين، أو أن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات، فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر. وقد كذبوا وأفكوا على طريقة السلف وضلوا في تصويب طريقة الخلف فجمعوا بين باطلين: الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، والجهل والضلال بتصويب طريقة غيرهم".
ثم استشهد على ذلك بكلام للحافظ ابن رجب في كتابه " فضل علم السلف على علم الخلف " فليراجعه من شاء.
"مختصر العلو"(ص32 - 35).
(1) سقطت من "المختصر" واستدركتها من "اللوامع"(1/ 25). [منه].