الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم إنَّ الطهارة ليست واجبة في غير الطواف من الأركان، فلم تكن شرطًا بخلاف الطواف، فإنهم كالحنفية قد سلَّموا وجوبها فيه.
الترجيح:
ولعلَّ الراجح هو القول الأول لقوَّة ما بُنِيَ عليه من استدلال، ومن أهمِّه ما ثبت من نهيه لعائشة عن الطواف حتى تطهر.
الفرع الثاني: ما تفعل المتمتعة إذا حاضت قبل طواف العمرة وخشيت فوات الحج:
إذا حاضت المتمتعة قبل أن تطوف للعمرة، وخشيت فوات الحجِّ فماذا تفعل؟
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أنها ترفض العمرة وتهل بالحج:
ذهب إليه الحنفية (1).
الأدلَّة:
1 -
حديث عروة عن عائشة أنها قالت: «أهللتُ بعمرة فقدمتُ مكة وأنا حائض ولم أطفْ بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، فشكوتُ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «انقضي رأسك، وامتشطي وأهلِّي بالحج، ودعي العمرة» ..
قالت: ففعلتُ، فلمَّا قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت معه، فقال:«هذه عُمرة مكان عُمرتك» (2).
(1) انظر: الحجة على أهل المدينة (2/ 137) فتح القدير (3/ 23).
(2)
أخرجه البخاري في الحج، باب كيف تهل الحائض والنفساء (2/ 148) ومسلم في الحج باب بيان وجوه الإحرام (2/ 870).
قالوا: فهذا يدلُّ على أنها رفضت عمرتها وأحرمت بالحج، وذلك من وجوه:
الوجه الأول: قوله: «دَعِي عمرتك» وهذا يدلُّ على رفض العمرة.
الوجه الثاني: قوله: «وامتشطي» والامتشاط غير جائز للمحرم (1).
ونوقش الاستدلال من أوجه:
الوجه الأول: أنَّ قوله: «انقضي رأسك وامتشطي ودعي العمرة» انفرد به عروة، وخالف به سائر من روى عن عائشة حين حاضت، وقد روى ذلك طاوس والقاسم والأسود وعمرة عن عائشة، ولم يذكر أحد منهم هذه اللفظة (2)، وحديث جابر وطاوس مخالفان لهذه الزيادة (3).
وقد روى حمَّاد بن زياد، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة حديث حيضها فقال فيه:
…
فحدثني غير واحد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «دعي العمرة، وانقضي رأسك، وامتشطي» وذكر تمام الحديث.
وهذا يدلُّ على أنَّ عُروة لم يسمع هذه الزيادة من عائشة (4).
وهو مع ما ذكر من مخالفته بقية الرواة، يدلُّ على الوهم، مع مخالفتها الكتاب والأصول؛ إذ ليس لنا موضع آخر يجوز رفض العمرة مع إمكان إتمامها (5).
الوجه الثاني: أنَّ معنى «دعي العمرة» أي: دعي أفعال العمرة، فإنها تدخل في أفعال الحج، أو أنَّ المعنى «دعيها بحالها، لا تخرجي منها» ، وليس المراد تركها، ويدلُّ عليه وجهان:
(1) انظر: الحجة على أهل المدينة (2/ 149) حاشية القادري على كتاب الحجة (2/ 140).
(2)
أخرجها كلها مسلم في الحج، باب بيان وجوه الإحرام (2/ 871) وما بعدها.
(3)
حديث جابر سبق تخريجه، وفيه أنه قال لها:«يسعك طوافك لحجك وعمرتك» وحديث طاوس أخرجه مسلم في الحج، باب وجوه الإحرام، وفيه أيضًا قوله:«يسعك طوافك لحجك وعمرتك» (2/ 879).
(4)
المغني (5/ 370) زاد المعاد (2/ 169).
(5)
المغني (5/ 370).
أحدهما- قوله: «يسعك طوافك لحجِّك وعُمرتك» .
الثاني- قوله: «كوني في عُمرتك» وهذا أولَى من حملة على رفضها لسلامته من التناقض (1).
وأما قوله: «وامتشطي» فإنه دليلٌ على أنه يجوز للمحرم أن يُمشِّط رأسه، ولا دليل من كتاب أو سُنة أو إجماع على منعه من ذلك ولا تحريمه.
وهذا قول ابن حزم وغيره (2).
أو أنَّ المراد به تسريح شعرها برفق حتى لا يسقط منه شيء، ثم تُضفِّره كما كان (3).
الوجه الثالث من الاستدلال بالحديث:
أنه قال للعُمرة التي أتت بها من التنعيم: «هذه مكان عُمرتك» ، ولو كانت عمرتها الأولى باقية لم تكن هذه مكانها، بل كانت عُمرةً مستقلَّة؛ إذ لا تكون الثانية مكان الأولى إلَاّ والأولى مفقودة (4).
ونوقش: بأنَّ عائشة أحبَّت أن تأتي بعمرة مُفرَدَة، فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ طوافها وقع عن حجِّها وعُمرتها، وأنَّ عُمرتها قد دخلت في حجِّها فصارت قارنة، فأبت إلَاّ عمرةً مُفرَدَة كما قصدت أولاً، فلما حصل لها ذلك، قال:«هذه مكان عمرتك» (5).
وقد روى الأثرم في سننه عن الأسود، قلت لعائشة: اعتمرت بعد الحج؟
قالت: والله ما كانت عمرة، ما كانت إلا زيارة زُرت البيت (6).
(1) المغني (5/ 370) زاد المعاد (2/ 169) وانظر: فتح الباري (3/ 424).
(2)
زاد المعاد (2/ 169) المحلى (7/ 253).
(3)
فتح الباري (3/ 416).
(4)
الحجة على أهل المدينة (2/ 149).
(5)
المغني (5/ 370).
(6)
ذكر الأثر ابن قدامة في المغني (5/ 370) وابن القيم في زاد المعاد (2/ 170) ولم أجده.
الوجه الرابع من الاستدلال: قول عائشة رضي الله عنها: «ترجع صواحبي بحجٍّ وعُمرة، وأرجع أنا بالحج» .
وهذا صريحٌ في رفض العمرة؛ إذ لو أَدخلت الحج على العمرة لكانت هي وغيرها سواء، ولَمَا احتاجت إلى عُمرةٍ أخرى بعد العمرة والحج اللذين فعلتهما (1).
ويمكن أن يُناقش: بأنَّ عائشة إنما قالت ذلك بعد أن قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «يسعك طوافك لحجِّك وعمرتك» ، وكان قصدها أن تأتي بعمرة مفردة كما قصدت أولاً، وأن ترجع بمثل ما يرجع به أزواجه، فلمَّا حصل لها ذلك قال لها:«هذه مكان عمرتك» (2).
الوجه الخامس من الاستدلال: أنها شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأظهرت الجزع لفوات العمرة، ولم يخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ القارن لا يحتاج إلى الاعتمار مستقلاًّ (3).
ونوقش: بأن هذا تَحكُّم، وكيف يُقال هذا والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال لها:«يسعك طوافك لحجِّك وعمرتك» .
الوجه السادس: أنَّ عائشة اضطربت لأمرٍ لم يفعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وإنما كان هذا محلُّ افتخار وابتهاجٍ أنها وافقت النبي صلى الله عليه وسلم في الأفعال، فإن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم طاف لهما طوافَين، ولم يسعَ سعيَين، فعلى أيِّ أمرٍ تتحسَّر؟ أعلى أمرٍ لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟!
فدلَّ على أنها كانت ترى الناس فائزين بالطوافين، كما نطقت به أيضًا، حيث قالت: "يرجع الناس بحج وعمرة
…
إلخ، ونفسها خائبة عن إدراك طواف العمرة، فحسرت لذلك، ولأجل ذلك أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحج أن تعتمر من التنعيم
(1) حاشية الكيلاني القادري على كتاب الحجة (2/ 140).
(2)
انظر: المغني (5/ 370) زاد المعاد (2/ 170).
(3)
حاشية الكيلاني على الحجة (2/ 144) نقلاً عن فيض الباري (3/ 83).
تلافيًا لما فاتها، وجبرًا لانكسارها، ولو كان المقصود منه تطييب خاطرها فقط لَما احتاج إلى هذا التطويل، واكتفى بتعليمه المسألة إياها فقط، أو بإخبارها عن نفسه أنه لم يؤدِّ أفعالها مستقلَّة أيضًا، ولو أخبرها أنه لم يَطُفْ للعمرة أيضًا كما لم تَطُفْ لها لطابت نفسهَا ولآثرت موافقتها إياه في الأفعال على ألف عمرة، ولم ترفع إليها رأسًا أصلاً، فهذه قرائن أو دلائل على أنها كانت مُفرِدة قطعًا ولم تكن قارنة (1).
ويمكن أن يناقش: بأنَّ عائشة فهمت من قوله صلى الله عليه وسلم: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» أنَّ عمرتها دخلت في حجِّها، وأنها تُجزَى عنها، ولكنها كانت تُريد عمرة مفردة كبقية أزواجه صلى الله عليه وسلم، فأمر عبد الرحمن أن يعمرها.
وأما القول بأنَّ الأمر لو كان كما ذكرنا لاكتفى بتعليمها فهذا عجب، وأيُّ تعليمٍ أصرح من قوله صلى الله عليه وسلم:«يسعك طوافك لحجك وعمرتك» ؟!
الوجه السابع: أنها لو كانت قارنة لقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك قضيتِ حجِّك وعُمرتك، وكان الطواف الواحد لهما جميعًا» ، ولكنه لم يقل ذلك ولم يرَها اعتمرت، فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يُخرِجَها إلى التنعيم ليُعمرها فترجع بعمرة وحجَّة كما رجع غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا آخر فعله عليه السلام في حجِّة الوداع، ولم نعلم شيئًا نسخه (2).
ونوقش: بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «يسعك طوافك لحجِّك وعمرتك» وهذا اللفظ كافٍ، وقد فهمته عائشة، وأما تحديد لفظة معينة فهذا تحكُّم.
الوجه الثامن: أنها لو كانت قارنة لَما أُمِرَت بالوقوف بعرفة قبل
(1) حاشية الكيلاني القادري على كتاب الحجة (2/ 145).
(2)
الحجة على أهل المدينة (2/ 146).
العمرة؟ إنما السُنة أن يُبدأ بالعمرة قبل العمل بالحج (1).
ونُوقش: بأنَّ طواف القدوم إنما يلزم - أو يُسن - لِمن أحرم بهما من ميقاتهما، وهذه التي أردفت الحج بمكة لا يلزمها ذلك، لأنها أحرمت بالحجِّ من الحرم، ولا يلزمها للحج طواف الورود، والمعتمر لا يلزمه ذلك أيضًا، وإنما يطوف عند ورود طواف عمرته (2).
الوجه التاسع: أنها لو كانت قارنة لوجب عليها هدي القرآن، ولَمَّا لم يُنقل ذلك دلَّ على أنها كانت مُفرِدة (3).
ونوقش: بأنَّ عدم النقل ليس نَقلاً للعدم، لاسيَّما وأنَّ الأصل وجوب الهدي على القارن، فانقلوا لنا أنتم بأنها لم تهدِ.
الوجه العاشر: أنكم تزعمون بأنَّ الطواف يُجزِئ لهما جميعًا، وهم يأمرونها بالتقصير إذا رمت وذبحت، ويحلُّ لها كلُّ شيءٍ إلَاّ الجماع والطيب، ولم تطُفْ لعُمرتها بعد، فأنتم تأمرونها أن تقصر لعمرتها قبل أن تطوف، وتسعى وتكون حلالاً ما يحل منه المعتمر غير الجماع والطيب، ولم تطُف بالبيت، ولم تسعَ بين الصفا والمروة لعمرتها (4).
فإن قلتم: إنَّ هذا التقصير إنما هو للحجِّ خاصة، فلا بدَّ أن تقولوا: إذا طافت وسعت قصرت تقصيرًا آخر للعمرة، ولا ينبغي أن يحلَّ منها شيء حتى تقصر التقصير الثاني، وينبغي لكم أن تجعلوا عليها الهدي في التقصير الأول؛ لأنها قصرت للحج وهي محرمة (5).
ويمكن أن يُجاب عنه: بأنها بإدخالها حجِّها على عمرتها أصبحت
(1) الحجة على أهل المدينة (2/ 144).
(2)
المنتقى للباجي (3/ 60).
(3)
حاشية الكيلاني القادري على كتاب الحجة (2/ 142).
(4)
الحجَّة على أهل المدينة (2/ 146).
(5)
المصدر السابق، والحنفية ممن يوجبون على القارن طوافَين وسعيَين، والجمهور على أن عمل القارن كعمل المفرد، انظر: المغني (5/ 347) الإشراف (1/ 230).
قارنة، وعمل القارن كعمل المفرد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا رميتم وحلقتم فقد حلَّ لكم الطيب والثياب، وكلُّ شيءٍ إلَاّ النساء» (1).
القول الثاني: أنها تحرم بالحج مع عمرتها، وتصير قارنة:
ذهب إليه جمهور أهل العلم ومنهم المالكية (2)، والشافعية (3)، والحنابلة (4)، والظاهرية (5)، وهو قول الأوزاعي وأكثر أهل العلم (6).
الأدلَّة:
1 -
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أقبلت عائشة بعمرة، حتى إذا كانت بسِرف (7) عركت (8)، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدها تبكي، فقال:«ما شأنك؟» قالت: شأني أني قد حِضتُ، وقد حلَّ الناس ولم أحلّ، ولم أطُفْ بالبيت، والناس يذهبون إلى الحجِّ الآن، فقال:«إنَّ هذا أمرٌ قد كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلِّي بالحج» ، ففعلت، ووقفت المواقف، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة، ثم قال:«فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم» (9).
2 -
وروى طاوس، عن عائشة أنها قالت: أهللت بعمرة، فقدمت
(1) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب رمي الجمار (1/ 457) وأحمد في المسند (6/ 143).
(2)
الكافي في فقه أهل المدينة (1/ 334) فتح الباري (3/ 423) المنتقى (3/ 60).
(3)
المجموع (7/ 149، 150).
(4)
المغني (5/ 367) زاد المعاد (2/ 167).
(5)
المحلى (7/ 238، 239).
(6)
المغني (5/ 368).
(7)
سِرف: بكسر الراء موضع من مكة على عشرة أميال، وقيل: أقل، وأكثر النهاية (2/ 362) معجم البلدان (3/ 222).
(8)
عركت: أي حاضت. النهاية (3/ 222).
(9)
سبق تخريجه.
ولم أطُفْ حتى حضتُ، ونسكتُ المناسك كلَّها، وقد أهللتُ بالحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر:«يسعك طوافك لحجك وعمرتك» (1).
فهذه نصوص صريحة، أنها كانت في حج وعمرة، لا في حج مفرد، وصريحة في أنها لم ترفض إحرام العمرة، بل بقيت في إحرامها كما هي لم تحلّ منه (2)، وفي بعض ألفاظ الحديث:«كوني في عمرتك، فعسى الله أن يرزقكيها» (3).
2 -
ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كان معه هديٌ في حجَّة الوداع أن يهلَّ بالحج مع العمرة (4)، ومع إمكان الحج مع بقاء العمرة لا يجوز رفضها (5) لقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ} [البقرة: 196].
3 -
ولأنَّ إدخال الحج على العمرة جائزٌ بالإجماع من غير خشية الفوات، فمع خشيته أولى (6).
4 -
ولأنها متمكنة من إتمام عمرتها بلا ضررٍ فلم يجز كغير الحائض (7).
الترجيح:
والراجح ما ذهب إليه الجمهور لقوَّة ما بُني عليه من استدلال، في مقابل ضعف ما أورده الفريق الأول، من أوجه للاستدلال، بحديث عائشة.
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب بيان وجوه الإحرام (2/ 879).
(2)
المغني (5/ 386) زاد المعاد (2/ 168) المنتقى (3/ 60).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة، ثم خرج هل يجزئه عن طواف الوداع (2/ 201) ومسلم في كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام (1/ 875).
(4)
أخرجه البخاري في الحج، باب من ساق مع البدن (2/ 181) ومسلم في الحج، باب بيان وجوه الإحرام (2/ 870، 875).
(5)
المغني (8/ 369).
(6)
المغني (5/ 369).
(7)
المغني (5/ 369).