الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نعم، قالت: أرى أن ترد عليه ماله وتعفو عنه، وتحبوه، وأفعل مثل ذلك، فإنه لا يغسل هجاءه إلا مدحه، فخرج فقال: إن أمي سعدى التي كنت تهجوها قد أمرت فيك بكذا وكذا، فقال: لا جرم! والله لا مدحت حتى أموت أحدًا غيرك! ففيه يقول:
إلى أوس بن حارثة بن لام
…
ليقضي حاجتي في من قضاها
فما وطئ الثرى مثل ابن سعدى
…
ولا لبس النعال ولا احتذاها
انتهى كلام المبرد.
وقوله: هنيئًا للمدينة إذ أهلت .. قال جامع ديوانه: أهلت أظهرت ذلك، يقال: أهل الهلال إذا بدا وأبدأ، وتفرج: بالبناء للمفعول، والخطاب، والراء مضمومة، والممحل: الذي أصابه المحل والجدب، يقال: أمحل القوم، أي: أجدبوا، وسنة جماد: لا مطر فيها، وأرض جماد: لم يصبها المطر.
وأنشد في «أيا» وهو الانشاد السابع عشر:
(17)
أيا جبلي نعمان بالله خليا
…
نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها
قال الدماميني: إن قصد المصنف بإنشاد هذا البيت الاستشهاد به على أن «أيا» ترد لنداء البعيد، فقريب، وإن قصد به الرد على الجوهري، وهو الذي يعطيه *** كلامه، فلا وجه له، لأن نداء البعيد في هذا البيت بأيا - على
أنها لا تكون لنداء القريب - لا يدل بوجه من الدلالات، انتهى. وصاحب «القاموس» أيضًا ممن رد على الجوهري قال: أيا حرف لنداء البعيد لا القريب، ووهم الجوهري.
وأقول: الجوهري فيما قاله تابع لسيبويه في «الكتاب» قال في باب «الحروف التي تنبه بها المدعو» :
[فأما الاسم غير المندوب] فينبه بخمسة أشياء: بيا وأيا وهيا وأي وبالألف، إلا أن الأربعة غير الألف قد يستعملونها إذا أرادوا أن يمدوا أصواتهم للشيء المتراخي عنهم، والإنسان المعرض عنهم الذي يرون أنه لا يقبل عليهم إلا بالاجتهاد والنائم المستثقل، وقد يستعملون هذه التي للمد في موضع الألف ولا يستعملون [الألف] في هذه المواضع التي يمدون فيها، وقد يجوز لك أن تستعمل هذه الخمسة إذا كان صاحبك قريبًا منك مقبلًا عليك توكيدًا. هذا كلامه برمته، ونقله ابن السراج في أصوله بتمامه، ولم يتكلم السيرافي على هذا شيئًا.
وقال أبو علي الفارسي في تعليقته على «كتاب سيبويه» : قوله: وقد يستعملون هذه التي للمد في في موضع الألف، قال أبو علي: إذا ناديت المقبل عليك بما تنادي به المتراخي البعيد نحو: يا، وهيا، كان بمنزلة قولك: يا أبا فلان للمقبل عليك توكيدًا في استعطافه، وإن كنت قد استغنيت عن دعائه بإقباله عليك، انتهى.
وقال ابن وحيي في شرحه: ونقل الأندلسي في «شرح المفصل» عن سيبويه
جواز استعمال أيا للقريب، فلا يتوجه المنع على الجوهري، انتهى. وقال ابن عصفور في «المقرب»: الهمزة لا تكون إلا في نداء القريب، وما عدا ذلك من الحروف يكون في نداء القريب والبعيد، انتهى.
ونقل ابن مالك وأبو حيان وغيرهما أن سيبويه أخبر رواية عن العرب، أن الهمزة للقريب، وما سواه للبعيد، ولا أدري من أي باب نقلوه، ثم أن المصنف إنما أتى بالبيت شاهدًا لنداء البعيد لا للرد على الجوهري.
وأما البيت فهو من شعر اختلف في قائله، قال الشريف ضياء الدين هبة الله علي ابن محمد بن حمزة الحسيني في «حماسته»: روى المرزبان بإسناده أن المجنون خرج في أصحاب له ليتماروا من وادي القرى، فمروا بجبلي نعمان، فقالوا له: هذان جبلا نعمان، وقد كانت ليلى تنزلهما، قال: فأي ريح تجري من نحو أرضها إلى هذا المكان؟ قالوا: الصبا، فقال: والله لا أبرح حتى تهب الصبا، فأقام في ناحية من الجبلين، ومضى أصحابه فامتاروا لهم وله، ثم أتوه فحبسهم ثلاثًا، حتى إذا هبت الصبا ترحل معهم، وفي ذلك يقول:
أيا جبلي نعمان بالله خليا
…
نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها
أجد بردها أو تشف مني حرارة
…
على كبد لم يبق إلا صميمها
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت
…
على نفس مهموم تجلت همومها
ويا ريح مري بالديار فخبري
…
أباقية أم قد تعفت رسومها
ألا إن أدوائي بليلى قديمة
…
وأقتل أدواء الرجال قديمها
وكذا قال الأصفهاني في كتاب «الأغاني» وأنشد الأبيات الثلاثة الأول
فقط. وقال القالي في أواخر «أماليه» : حدثني أبو يعقوب وراق أبي بكر ابن دريد، وكان من أهل العلم قال: أخبرني مسيح بن حاتم قال: أخبرنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأموي قال: تزوج رجل من أهل تهامة امرأة من أهل نجد، فأخرجها إلى تهامة، فلما أصلبها حرها قالت: ما فعلت ريح كانت تأتينا ونحن بنجد يقال لها: الصبا؟ فقال لها: يحجبها عنك هذان الجبلان فقالت:
أيا جبلي نعمان بالله خليا
…
نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها
أجد بردها أو تشف مني حرارة
…
على كبد لم يبق إلا صميمها
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت
…
على نفس مهموم تجلت همومها
انتهى. والظاهر عندي أنها تمثلت بهذا الشعر وليس لها.
ونعمان بفتح النون: فعلان، من نعمة العيش وهو غضارته وحسنه، وهو نعمان الأراك، وهو واد ينتبه ويصب إلى ودان، بلد غزاه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهي بين مكة والطائف، وقيل: واد لهذيل على ليلتين من عرفات، وقال الأصمعي: نعمان: واد يسكنه بنو عمرو بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل، بين أدناه ومكة نصف ليلة، به جبل يقال له المدراء، وبنعمان [من] بلاد هذيل وأجبالها الأصدار، وهي صدور الوادي يجيء منها العسل إلى مكة، وقول بعض الأعراب فيه دليل على أنه واد:
ألا أيها الركب اليمانون عرجوا
…
علينا فقد أضحى هوانا يمانيا
نسائلكم هل سال نعمان بعدكم
…
وحب إلينا بطن نعمان واديًا
عهدنا به صيدًا كثيرًا ومشربًا
…
به ينقع القلب الذي كان صاديا
هذا ما قاله ياقوت الحموي في «معجم البلدان» وقال أبو عبيد البكري في «معجم ما استعجم» : نعمان وادي عرفة دونها إلى منى، وهو كثير الأراك، انتهى. قال الدماميني: إن قلت: على ماذا يعود الضمير في قوله: نسيمها؟ قلت: يحتمل أن يعود على النسيم الأول، وهو المضاف إلى الصبا، ويختلف حينئذ المراد بها، فيراد بالنسيم الأول ريح الصبا والإضافة للبيان، ويراد بالنسيم الثاني نفس الريح الضعيف، قال في «المحكم»: والنسيم نفس الريح إذا كان ضعيفا، ويحتمل أن يعود الضمير على محبوبته، سواء جرى ذكرها [قبل] أو لم يجر، أما إن جرى فواضح، وأما أن لم يجر لها ذكر، فلتنزيلها منزلة المذكور المعلوم، لأنها حاضرة عنده لا تغيب عنه ولا يفتر عن ذكرها بحسب الادعاء. انتهى.
أقول: إن لم يجر ذكرها في هذا الشعر فقد جرى ذكرها في منشئه.
وقال السيوطي: ويحتمل أن يكون النسيم الثاني عين الأول، من إقامة الظاهر مقام الضمير، والضمير للصبا، انتهى.
فيكون نكتته التلذذ بذكر لفظ النسيم كما يتلذذ بهبوبها، ويجوز أن يكون
الثاني مصدرا، وهو أوفق بقوله: فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت. قال صاحب «القاموس» : النسيم: الريح إذا كان ضعيفًا، والنسيم أيضًا: مصدر نسمت الريح تنسم نسمًا ونسيمًا ونسمانًا، وبه فسر قول امرئ القيس:
نسيم الصبا جاءت بريًا القرنفل
وروى العيني في «شواهده» تبعًا لغيره: «طريق الصبا» وهو واضح لا إشكال فيه، والصبا كما قال الجوهري: ريح ومهبها المستوي: أن تهب من موضع مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار، وقام الإمام الواحدي في «تفسير الوسيط» عند قوله تعالى:{إني لأحد ريح يوسف} [سورة يوسف/ 94] إن ريح الصبا استأذنت ربها أن تأتي يعقوب بريح يوسف عليهما السلام قبل أن يأتيه البشير بالقميص، فأذن لها فأتته بذلك، فلهذا يستروح كل محزون بريح الصبا، وهي من المشرق، إذا هبت على الأبدان نعمتها، وهيجت الأسواق إلى الأوطان والأحباب، وأنشد البيتين من شعر المجنون المتقدم.
قال الصفدي في «تاريخه» بعد نقل هذا: الظاهر أن نسيم الصبا يختلف مزاجه وتأثيره باختلاف الأرض والبقاع التي تمر عليها، والفصول أيضًا، فهي في الربيع تكون ألطف منها في غيره، لأنا نشاهد بالحس أن الريح التي تهب بدمشق وغيرها مما يقاربها ريح يابسة المزاج تجفف الرطوبات وتقحل الأجسام وتحرق الثمار والزروع، وهي في الديار المصرية أشد منها في الشام، وهي التي يسمونها المريسي، على أن أشعار العرب ملأى من الاسترواح بها، ووصفها باللطف
وتنفيس الكرب، ولعلها في بلاد الحجاز وما أشبهها تكون بهذه الصفة، انتهى كلامه.
أقول: إن الريح التي تسمى بمصر: المريسي، بفتح الميم، نسبة إلى مربس، وهو جنس من السودان من بلاد النوبة يسمونها المريس، لإتيانها من تلك الجهة، قاله ابن خلكان في «تاريخه» وهي تهب في الشتاء باردة وفي الصيف حارة، لكنها تبرد الماء، والنوبة في جهة الجنوب، فكيف تكون ريح الصبا! فتأمل.
وقوله: يخلص، أي: يصل، من الخلوص، وهو الوصول على وجه الكمال، جزم في جواب الأمر. وقوله: أجد بردها، بدل من يخلص، وعطف تشف بأو على منع الخلو لا الجمع. وصميم الشيء: خالصه. وقوله: فإن الصبا، الفاء: تعليلية، وجمع الأدواء جمع داء، وهو المرض، باعتبار الأنواع، وقوله: وأقتل: أي، أسدها قتلًا.
وقائل الشعر: مجنون بني عامر، واسمه قيس بن الملوح بن مزاحم العامري، وصاحبته ليلى بنت مهدي العامرية وشعره كثير في الطبقة العليا في الحسن والرقة، وله حكايات وأحوال أوردها الأصبهاني في «الأغاني» وترجمة ترجمة طويلة وهام بحبها في الفلوات وأنس الوحوش، فكان لا يأكل إلا مما تنبت الأرض من البقول، ولا يشرب إلا مع الظباء، وطال شعره وألفته الوحوش، وكان يهيم حتى يبلغ حدود الشام، فإذا ثاب عقله سأل عن نجد فيقال: وأين نجد، أنت في موضع كذا! فيدلونه على الطريق فيتوجه نحوه، وكان أهله يأتونه بالطعام والشراب، فربما أكل منه، ففي بعض الأيام أتوه بالطعام فلم يجدوه، فانطلق أهله يفتشون البراري، فرأوه ملقى بين الأحجار ميتًا، فاحتملوه إلى الحي، فغلوه وكفنوه ودفنوه، وكثر بكاء النساء والثياب عليه. وكان معاصرًا