الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعد أن، ما نصه: هذا رأي البغداديين، ولا يراه البصريون، وصحة محمل البيت عندهم على أنها المخففة من الثقيلة، أي: أنكما تقرآن [وأن وما بعدها: في موضع البدل من قوله حاجه، لأن حاجته قراءة السلام عليها] ، وقد استبعدوا تشبيه أن بما، لأن ما مصدر معناه الحال، وأن وما بعدها مصدر إما ماض وإما مستقبل على حسب الفعل الواقع بعدها، فلذلك لا يصح إحداهما بمعنى الأخرى، انتهى. وقبل البيت بيتان وهما:
يا صاحبي فدت نفسي نفوسكما
…
وحيثما كنتما لاقيتما رشدا
أن تحملا حاجة لي خف محملها
…
وتصنعا نعمة عندي بها ويدا
وقوله: أن تحملا: مفعول، فعله محذوف تقديره: أسألكما أن تحملا، وأن تقرأن: في موضع البدل من حاجة، وقد بسطنا الكلام هنا بأكثر مما ذكرنا في شرح الشاهد الثاني والأربعين بعد الستمائة من شواهد الرضي.
وهذه الأبيات مع شهرتها لم يعرف قائلها، والله تعالى أعلم.
وأنشد بعده، وهو الانشاد الخامس والثلاثون:
(35)
ولا تدفنني في الفلاة فإنني
…
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
على أن أن مخففة، لوقوعها بعد الخوف بمعنى العلم، واسمها ضمير الشأن المحذوف، وجملة لا أذوقها في محل خبرها، وقوله: ليس من ذلك كما زعم بعضهم ..
الخ، أي: ليس من أن الناصبة للمضارع، وأشار بهذا للرد على المبرد، فإنه قال في «المقتضب»: وزعم سيبوية أنه يجوز: خفت أن لا تقوم يا فتى، إذا خاف شيئًا كالمستقر، وهذا بعيد، قال ابن الشجري في «أماليه»: أقول: إن استبعاد أبي العباس لما أجازه سيبويه من إيقاع المخففة بعد الخوف على المعنى الذي عناه سيبويه استبعاد غير واقع موقعه، لأن الشعر القديم قد ورد بما أنكره أبو العباس، وذلك قول أبي محجن الثقفي:
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
وقد جاءت الثقيلة بعد الخوف في الشعر وفي القرآن، ومجيء الثقيلة أشد، فالشعر قوله:
وما خفت يا سلام أنك قاطعي
والقرآن قوله تعالى: {ولا تخافون أنكم أشركتم بالله} [الأنعام/81] انتهى كلامه، وقبله:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمةٍ
…
تروي عظامي بعد موتي عروقها
وأصل الخوف الفزع وانقياض النفس عن احتمال ضرر، وإذا اشتد الخوف التحق باليقين كما قاله الرضي، وقال ابن خطيب الدهشة في «التقريب في علم الغريب»: يقال: خاف الشيء: علمه وتيقنه: انتهى. وذلك أن الإنسان لا يخاف شيئًا حتى يعلم أنه مما يخاف منه، فهو من التعبير بالمسبب عن السبب،
وليس إطلاقه عليه لأنه من لوازم اليقين كما قال الشمني، فكم من يقين لا خوف معه، قال المصنف: الخوف في هذا البيت يقين، إنما حمل الخوف هنا على اليقين، لأن الظاهر الذي لا ريب فيه، أنه لا يذوقها بعد الموت، ولهذه الحسرة أمر وصيه أن يدفنه إلى جنب كرمة، كما في المثل المشهور «من حسرة العنب يتوسد جدار الحديقة» وقال الدماميني: قد يقال: لا يلزم من تعقل العقلاء أنه لا يذوقها بعد الموت، حمل الخوف على اليقين عند هذا الشاعر، لأن استهتاره بشربها ومغالاته في محبتها أمر مشهور، فلعل ذلك حمله على أنه خاف ولم يقطع يما تيقنه غيره، ولذلك أمر بدفنه إلى جنب الكرمة رجاء أن ينال منها بعد الموت، ومن ثم قيل: إن هذا أحمق بيت قالته العرب. انتهى كلامه.
قال الحلبي: هذا مبني كما قال شيخنا على أنه كان إذ داك مترددًا بين ذوقها بعد الموت، بتقدير دفنه إلى جنب الكرمة، أو: لا، بتقدير دفنه في الفلاة، فلا علم ولا ظن، قال: وهذا احتمال، لأن التعليل بقوله:«فإنني أخاف أن .. » كان لمجموع الأمر والنهي، على معنى: فإنني أخاف الآن أن لا أذوقها غدًا، فلا علم ولا ظن، فهي الناصبة أهملت، ففي «شرح الكافية» للحديثي أن الخفيفة بعد فعل الخوف والرجاء ناصبة، لأنه يحتمل أن يقع وأن لا يقع، وبعد الظن يحتملها والمخففة، نظرًا إلى الرجحان وعدمه، أو على معنى: فإنني أخاف الآن – بتقدير: أن لا تدفنني إلى جنبها، بل في الفلاة – أن لا أذوقها إذا ما مت، أو: فإنني أخاف إذا ما مت بهذا التقدير أن لا أذوقها، فالخوف هنا علم ويقين فهي المخففة، وكذا إن جعل تعليلًا للنهي وحده، لأن الذي قارنه في هذا البيت على معنى: فإنني أخاف الآن أو إذا ما مت، بتقدير أن تدفنني في الفلاة لا إلى جنبها أن لا أذوقها. انتهى.
وههنا بحث، وهو أن الشاعر وإن كان من المغرمين المنهمكين بها، لكنه من ذوي العقول الكاملة، فكيف يظن به أنه غير قاطع بما يتيقنه غيره من عدم الذوق بعد الموت! بل هو أمر مركوز في الأذهان، غني عن البيان، وإنما جرى في كلامه هذا على مذهب الشعراء في تخيلاتهم، ورام سلوك جادة تمويهاتهم، فإنهم سحرة الكلام، ومخترعوا صور الإبهام، فأمر أولًا بدفنه بعد الموت بجانب كرمة، وأبدى عذره في ذلك بوصفها بقوله: تروي عظامي بعد موتي عروقها، ليستفاد من ذلك علة الأمر بالدفن المذكور، إشارة إلى أن ما لا يدرك كله لا يترك كله، وإذا تعذرت التروية الحقيقية، فلا أقل من حصول التروية المجازية، ثم نهى ثانيًا تأكيدًا للأمر الأول عن دفنه لا بجانب كرمة، وعلل ذلك بأنه يتيقن أنه لا يذوقها إذا مات، فلا يتروى بها حقيقة، فدفنه لا إلى جانبها أيضًا مفوت للتروية المجازية، ولمزيد شغفه بها آثر التعبير عن هذا اليقين بالخوف إبهامًا، لأنه مع ذلك لا يقطع بعدم الذوق، وجعل رفع الفعل بعد أن معه دليلًا على ما قصده معنى، وإنما قلنا: إن تروية العظام مجازية، لأن الري حقيقة لذوات الأكباد عن عطش، وليست العظام منها، على أنه لا عطش بعد الموت، أو لما له قوة نامية، ومنه قولهم: روي النبات من الماء، والعظام جماد، انتهى كلامه، ومن خطه نقلت. وروى البيت ابن السكيت كذا:
ولا تدفنني في الفلاة فإنني
…
يقينًا إذا ما مت لست أذوقها
والبيتان مطلعا قصيدة لأبي محجن الثقفي رواها ابن الأعرابي وابن السكيت في ديوانه، وبعدهما:
أبا كرها عند الشروق وتارةً
…
يعاجلني عند المساء غبوقها
وللكأس والصهباء حق معظم
…
فمن حقها أن لا تضاع حقوقها
وعندي على شرب المدام حفيظة
…
إذا ما نساء الحي ضاقت حلوقها
وأعجلن عن شد المآزر ولها
…
مفجعة الأصوات قد جف ريقها
وأمنع جار البيت مما ينوبه
…
وأكرم أضيافًا قراها طروقها
قال ابن السكيت: قوله: إذا مت فادفني، هذا خطاب مع ابنه يأمره بذلك، وفيه مبالغة على حبه للخمر وتعطشه إليه، إذ أظهر الرغبة إليها وهو ميت، وقوله: ولا تدفنني في الفلاة .. الخ، قال ابن السكيت: الفلاة: الأرض المهلكة التي لا علم بها ولا ماء، والمعنى: أن الفلاة لا يعرش فيها كرم، فلا تدفنني إلا بمكان ينبت فيه العنب، حتى أكون قريبًا منه فألتذ بذلك.
وقوله: أبا كرها عند الشروق، قال ابن السكيت، أي: إنني أصبحها عند شروق الشمس، ومرة أشربها عشاء، إلا أنني أقدم شربها على العشي فيعاجلني الغبوق، والصبوح: شرب الغدو، والغبوق: شرب آخر النهار، وأبا كرها: أبادر إليها في بكرة النهار.
وقوله: وللكأس والصهباء، قال ابن السكيت: حقها، كونها تسر القلب، وتذهب الهم، وتسخي البخيل، وتشجع الجبان، إلى غير ذلك من فعلها، وهذا حق لها، وإذا كان هذا دأبها، فمن حقها أن تعظم ولا تضيع حقوقها. انتهى.
وقال ابن الملا الحلبي: فإن قلت: حق الكلام أن يقول: ومن حقهما أن لا تضاع حقوقهما، لا دعائه أن الحق المعظم للكأس والصهباء، قلت: نعم، إلا أنه ذهب إلى أنهما وإن كانا شيئين فهما بمثابة الشيء الواحد، واستملح ذلك من قول القائل:
رق الزجاج وراقت الخمر
…
وتشاكلا فتشابه الأمر
فكأنما خمر ولا قدح
…
وكأنما قدح ولا خمر
انتهى. وفيه: أن هذين البيتين لأبي إسحق إبراهيم الصابي، وهو متأخر عن أبي محجن بأكثر من ثلاثمائة سنة، وكان ينبغي أن يعكس.
وقوله: وعندي على شرب .. الخ، قال ابن السكيت: الحفيظة: كل شيء يغضب لأجله، يعني: وإن كنت سكران، لا أهمل الحفاظ إذا استغاثت بي نساء الحي، وصحن لنازلة نزلت بهن. وقوله: وأعجلن عن شد .. الخ، قال ابن السكيت: أي دهمن من البلاء من أعجلهن عن شد المآزر في أوساطهن وولها: مفعول من أجله، أي: للوله الذي نزل بهن، والواله: الذاهب العقل، والمفجعة: التي نزل بها ما أخافها وأفزعها، وجف ريقها، أي: يبس. انتهى.
والصواب أن ولهًا حال، لا مفعول من أجله.
وقوله: أمنع جار البيت .. الخ، قال ابن السكيت: قراها: أطعمها، يقول: إذا طرقتنا الضيفان ليلًا أعجلنا لها القرى، فكأن طروقها هو الذي قراها. انتهى.
وأبو محجن: شاعر صحابي أسلم حين أسلمت ثقيف، قال الذهبي في «التجريد»: أبو محجن الثقفي: عمر بن حبيب، وقيل: مالك بن حبيب، وقيل: عبد الله، كان فارسًا شاعرًا من الأبطال، لكن جلده عمر رضي الله تعالى عنه في الخمر مرات، ونفاه إلى جزيرة في البحر، فهرب ولحق بسعد وهو يحارب الفرس، فحبسه، وله أخبار وروى عنه أبو سعد البقال. انتهى. ورواية أبي سعد