الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد اختلف في قائل هذا الشعر، فقال جماعة: إنه لعبد الرحمن بن حسان ابن ثابت الأنصاري الشاعر ابن الشاعر، قيل: ولد في حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. قال ابن قتيبة في كتاب «المعارف» : ولد لحسان بن ثابت عبد الرحمن من أخت مارية أم إبراهيم بن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانت تسمى سيرين، وكان عبد الرحمن شاعرًا، وابنه سعيد بن عبد الرحمن شاعرًا، وانقرض ولده فلم يبق منهم أحد. انتهى.
ونسبه جماعة إلى كعب بن مالك الأنصاري الخزرجي، شاعر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان مجودًا مطبوعًا، قد غلب عليه في الجاهلية أمر الشعر وعرف به، ثم أسلم وشهد العقبة، ولم يشهد بدرًا، وشهد أحدًا والمشاهد كلها إلا تبوك، فإنه تخلف عنها.
وأنشد بعده:
أبا خراشة أما أنت ذا نفرٍ
…
فإن قومي لم تأكلهم الضبع
وتقدم شرحه في الإنشاد الثالث والأربعين.
وأنشد بعده في «إما» بالكسر والتشديد، وهو الانشاد الواحد والثمانون:
(81)
سقته الرواعد من صيفٍ
…
وإن من خريف فلن يعدما
على أن «إما» عند سيبويه مركبة من «إن» و «ما» وقد حذفت ما هنا، والأصل إما من صيف، وإما من خريف، فحذف لضرورة الشعر «إما» الأولى، و «ما» من إما الثانية، ولما حذفت ما، رجعت النون المنقلبة ميمًا للإدغام
إلى أصلها. وهذا نص سيبويه من «كتابه» قال في باب «ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره بعد حرف» : وأما قول الشاعر:
لقد كذبتك نفسك فاكذبنها
…
فإن جزعا وإن إجمال صبر
فهذا على إما، وليس على إن الجزاء كقولك: إن حقًا، وإن كذبًا، فهذا على إما محمول، ألا ترى أنك تدخل الفاء، ولو كانت على إن الجزاء، وقد استقبلت الكلام، لاحتجت إلى الجواب، فليس قوله: فإن جزعًا، كقوله: إن حقًا، وإن كذبًا، ولكنه على قوله تعالى:(فإما منا بعد وإما فداء)[محمد/4] وإن قلت: فإن جزع وإن إجمال صبر، كان جائزًا، كأنك قلت: فإما أمري جزع، وإما إجمال صبر، لأنك لو صححتها فقلت: إما، جاز ذلك، ولا يجوز طرح ما من إما إلا في الشعر، قال النمر بن تولب:
سقته الرواعد من صيفٍ
…
وإن من خريف فلن يعدما
وإنما يريد: وإما من خريف. ومن أجاز ذلك في الكلام دخل عليه أن يقول: مررت برجل إن صالح، وإن طالح، يريد: إما. وإن أراد إن الجزاء، فهو جائز، لأنه يضمر فيها الفعل. انتهى كلامه.
قال السيرافي: لو جعلنا إن هنا للجزاء لاحتجنا إلى جواب، وذلك أن جواب إن فيما بعدها، وقد يكون ما قبلها مغنيًا عن الجواب إذا لم يكن عليها شيء من حروف العطف، كقولك: أكرمك إن جئتني، فإن أدخلت عليها فاء أو ثم
بطل أن يكون ما قبلها مغنيًا عن الجواب. لا يجوز أن تقول: أكرمك، فإن جئتني. ولا: أكرمك، ثم إن جئتني، حتى تأتي بالجواب، فتقول: أكرمك، فإن جئتني زدت في الإكرام. فلذلك بطل أن يكون: فإن جزعًا على معنى المجازاة، وصارت بمعنى إما، لأنها تحسن في هذا الموضع، وحذف ما للضرورة، قال الله عز وجل:(فشدوا الوثاق فإما منا وإما فداء)[محمد/4] فلم يأت بجواب بعد إما، ولا يجوز طرح ما من إما إلا في الشعر، قال النمر ابن تولب:
سقته الرواد من صيف .. البيت
وإنما يريد: وإما من خريف، وقد أنكر الأصمعي هذا، وزعم أن «إن» في بيت النمر للجزاء، وإنما أراد: وإن سقته من خريف فلن يعدم الري، ولم يحتج إلى ذكر سقته لذكره في أول البيت، وإنما يصف وعلًا. وقبله:
فلو أن من حتفه ناجيًا
…
لكان هو الصدع الأعصما
يصف أنه وإن كان في الجبل، لا يعدم معاشًا يعيش به. والوجه قول سيبويه، وذلك أنه لا ذكر للري، وإنما المعنى: سقته الرواعد في الصيف، وإما في الخريف فلن يعدم السقي أيضًا، أي: هو يسقى من الصيف ومن الخريف. والبيت الأول قد دل دلالة واضحة على أن معنى إن معنى إما، وأنه لا يجوز أن تكون بمعنى التي للمجازاة، ومع ذلك فلا يحذف ما من إما إلا في الشعر. انتهى كلام السيرافيز
وقد كتب الفارسي في شرحه على ما يتعلق بالبيت الأول، ولم يكتب شيئًا على بيت النمر بن تولب، وسورد ما قاله في «البغداديات» واعترض على سيبويه
محمد بن يزيد المبرد فقال: «ما» لا يجوز إلقاؤها من إن إلا في غاية الضرورة، وإما يلزمها أن تكون مكررة، وإنما جاءت هنا مرة واحدة، ولا ينبغي أن تحمل الكلام على الضرورة، وأنت تجد إلى غيرها سبيلا، والوجه في ذلك ما قاله الأصمعي، قال: هي إن الجزاء، وإنما أراد: وإن سقته من خريف، فلن يعدم الري. ولم يحتج إلى ذكر سقته، لقوله: سقته الرواعد من صيف.
قال أحمد بن محمد بن ولاد: هذا الوجه الذي حكاه المبرد عن الأصمعي قد أجازه سيببويه بعقب البيت، وذلك قوله في إثره: وإن أراد إن الجزاء فهو جائز، لأنه يضمر فيها الفعل، إلا أنه أخره، لأنه لم يكن الوجه عنده، ولا مراد الشاعر عليه، ألا تراه قال في تفسير البيت: وإنما يريد: وإما من خريف، فحمل معنى البيت على إرادة الشاعر، وذلك أن الشاعر ذكر وعلا يرد هذا الماء متى شاء، فقال:
إذا شاء طالع مسجورة
…
يرى حولها النبع والساسما
سقته الرواعد من صيف .. البيت
فقال: مسجورة، أي: مملوءة من صيف أو من خريف، فلن يعدم الوعل ريًا على كل حاال، فأعلم أن ذلك ثابت له، وليس للجزاء في البيت معنى يحسن في الشعر ويليق بمراد الشاعر، لأنه إذا حملها على معنى الجزاء، فإنما يريد: إن سقته لم يعدم الري، وإن لم تسقه عدم، فلا فائدة في هذا يحسن معها الشعر،
ولا يشبه قوله: إذا شاء طالع مسجورة، فقد جعل ذلك له متى شاء، وجعلها مماوءة، فلهذا أخر سيبويه معنى الجزاء، ولم يرد أن الجزاء مراد الشاعر، وإنما أراد أن مل هذا لو وقع في كلام غير هذا البيت، لجاز فيه هذا التأويل، لا أنه مراد الشاعر. وأما قوله: لايجوز إلقاء ما من إما إلا في غاية الضرورة، فكذا قال سيبويه: إنه لا يجوز إلا في الشعر للضرورة، وقد وافقه على ذلك، وليس بين القولين فرق غير زيادته:«غاية» ، ومع هذا فالعرب تحذف من نفس الكلمة للضرورة مع زوال اللبس، فما بالها لا تحذف الزوائد للضرورة مع زواله، وما هنا زائدة في إما، وقد دال على صحة ذلك وجوازه في الشعر بالبيت الذي قبله، وهو:
فإن جزعًا وإن إجمال صبر
وأما قوله: إن التكرار يلزمها، فليس الأمر على ذلك، لأن الأولى إنما هي زائدة ليبادر المخاطب إلى أن الكلام مبني على الشك أو التخييل، والعمل على الثانية، والأولى زائدة، وليست توجب في الكلام معنى غير معنى الثانية، وسبيلها في ذلك سبيل لا إذا قلت: ما قام لا زيد ولا عمرو، فإن شئت أكدت النفي، وزدت لا، وإن شئت حذفتها، إلا أن الحذف في الأولى أكثر في كلامهم منه في إما، ولا أعلم أحدًا من النحويين المتقدمين يمنع من إجازة حذفها في قولك: خذ الدرهم وإما الدينار، وجالس زيدًا وإما عمرًا. فقياسها ما ذكرت لك في لا، والكلام لا يلتبس بطرحها، ومعناه بنقصانها كمعناه بزيادتها، فما الذي منع مع هذا كله من تجويز طرحها؟ وقد يطرح من الكلام ما هو أولى بالإثبات منها. انتهى كلامه.
ولا يخفى أن حذفها خاص بالشعر. وجواز حذفها في الكلام لا قائل به، وأما قوله: لا أعلم أحدًا من النحويين المتقدمين .. الخ، فالمنقول عنهم خلاف
فالأولى تعليل حذفها بالضرورة أيضًا: ومحصل كلامه أن عديل «إن» حذف الأول، فالمحذوف، إما نقدره «إما» وإما نقدره «إن» فيكون التقدير: إن من صيف وإن من خريف، فحذفت إن الأولى لدلالة الثلانية عليها، وأصلهما: إما، فحذفت منها «ما» كما في قوله: فإن جزعًا وإن إجمال صبر. وقال النحارس بعد نقل كلام المبر: ولم يحتج أبو الحسن لسيبويه في هذا بشيء، وكأن القول عنده ما قال الأصمعي على سيبويه في اللغة وقال: هذا أعلم باللغة، وهذا أعلم بالنحو، يعني سيبويه. وأن أستاذ سيبويه الخليل قد أخذ عن الأصمعي شيئًا من اللغة، ولم يكن أبو إسحاق الزجاج يميل إلى شيء من هذا، وقال من نظر إلى «كتاب» سيبويه، وما ذكر فيه من الأبنية، وقف على تقدمه على الجماعة في اللغة، قال: والقول ما قاله سيبويه، لأنه وصفها بالخصب، وأنها لاتعدم الري ما سقتها الرواعد إما من صيف وإما من خريف، فلن تعدم الري.
وعلى مذهب الأصمعي والمبرد أنه إن لم يسقها الخريف عدمته، لأنه قال: وإن سقتها لن تعدم الري، وإن أراد أنها لا تعدم الري البتة، فهذا قول سيبويه، ألا ترى أن قبله: إذا شاء طالع مسجورة .. البيت. انتهى.
وقال الفارسي في «البغداديات» أقول: إن الشاعر قال هذا البيت في أبيات يصف فيها وعلًا، وقبله:
إذا شاء طالع مسجورة
…
يرى حولها النبع والساسما
تكون لأعدائه مجهلًا
…
مضلًا وكانت له معلما
سقتها الرواعد من صيف .. البيت
وقوله: مسجورة، يريد: عينًا كثيرة الماء، أي: إذا شاء هذا الوعل طالع مسجورة، فقوله: تكون، صفة لمسجورة، وكذلك: سقتها، يكون
صفة لمسجورة، وكذلك رواه ثعلب عن سعدان عن الأصمعي، وفي كتابنا «كتاب» سيبويه: سقته، فيجوز أن يكون رجع إلى الوعل، أو حمله على المعنى، والوجه أن يكون للعين، فيكون المعنى: سقت الرواعد من السحاب هذه المسجورة، إما من صيف وإما من خريف، أي: فهي على كل أحوالها لا تعدم السقي إما صيفًا، وإما خريفًا، وذلك في صفة هذه العين أرخى ليال هذا الوعل. وفاعل: يعدم، على هذا: العين. انتهى كلامه. أقول: إذا كان فاعل يعدم، العين المسجورة، يجب أن يكون: تعدم، بالمثناة الفوقية، إنما هو بالمثناة التحتية. وظهر من تقريره، ومن تقرير ابن ولاد، أن وصف الوعل بالري دائمًا إنما هو لأن عنده عينًا يشرب منها متى شاء، وتلك العين يمدها سحائب الصيف والخريف.
ولما لم يقف الفاضل الدماميني على الأبيات وعلى كلاهما، ظن أنه ليس المراد ريه، وإنما المعنى ما قاله الأصمعي من تلك السحائب، فقال: لا نسلم أن المقصود وصف هذا الوعل بالري على كل حال، وإنما الغرض وصف حاله بحسب الواقع، فأخبر أولًا بما وقع من سقي سحائب الصيف له، وذلك مقتض لربه منها، ثم أخبر بأن سحائب الخريف إن سقته بعد ذلك حصل له الري المستمر، ولو سلم أن المقصود ما ذكر من وصفه بالري دائمًا، فمع الإتيان بإما التي هي لأحد الشيئين، لا يلزم ذلك. انتهى.
ورد عليه ابن الملا بوجوه:
أحدها: كيف لا يكون الغرض ذلك، وهو بصدد بيان نجاته من الحتف، إذ المراد أنه لو نجا حيوان من الموت، لنجا هذا الوعل الذي تكفل له ربه برزقه، وأسكنه أخصب أرضه، فهو في ري لا ينقطع، وطيب عيش مستمر من غير حيلة منه. ولو كان وصف حاله بحسب الواقع، لم يكن في تخصيصه بالذكر فائدة، إذ كل مخلوق شأنه من اللطف الإلهي مثل ذلك.
ثانيها: أنه لا يلزم من إخباره بأن سحائب الخريف إن سقته بعد ذلك، حصول الري المستمر له، وإنما يلزم حصول الري المستمر أن لو أخبر أن سحائب الخريف إذا سقته بعد ذلك يروى.
ثالثها: أن دعواه أن الإتيان بإما التي لأحد الشيئين، لا يتأتى معه الوصف بالري على الدوام، محصلها دعوى المنافاة بين دوام الري والسقي من أحد الشيئين، وهي ممنوعة لصحة قولنا: دائمًا الري حاصل، إما من سقي سحائب الصيف، وإما من سقي سحائب الخريف. فالقضية، وإن كانت حملية، لكنها شبيهة بمنفصلة مانعة الخلو، فهي في حكمها، وقيد الدوام عندهم سور الإيجاب الكلي في باب المنفصلات. وأما الجواب بمنع لمجرد أحد الشيئن، بل هي لتفصيل المسقي منه، وحينئذ مع الإتيان بها يلزم الري دائمًا، ففيه أن المختار فيها، وفي «أو» أنهما لأحد الشيئين أو الأشياء. هذا كلامه، ومن خطه نقلت.
وقد جوز الفارسي أن تكون إن شرطية، والألف في يعدمان ضمير المثنى، فقال في «البغداديات» بعدما نقلناه عنه: ويحتمل أن يكون المعنى: سقت الرواعد من السحاب هذه العين، أو هذا الوعل، وإن سقت العين أو الوعل من الخريف، فلن تعم العين السقي، والوعل الري. ودفع بعضهم هذا وقال: لا معنى له. وليس كذلك، لأنه غير ممتنع، إلا أن التأويل الأول أسهل في المعنى، وأدخل فيما يعترضه الشاعر، وإن اعترض في لفظه حذف «إما» الأولى، لأن الثانية تدل عليها. والفاء في «فلن» على هذا التأويل جواب الجزاء، وفي التأويل الأول عاطفة جملة على جملة. انتهى كلامه. ولعل هذا الكلام شرح لقول الأصمعي: أن «إن» شرطية وتكون الألف في بعدما عنده ضمير المثنى. وقول المصنف: وقال أبو عبيدة «إن» في البيت زائدة نقله عنه الفارسي في كتاب «الشعر» قال: وزعم أبو عبيدة «إن» زائدة وجاءت زيادتها هنا كما جاءت زيادتها في نحو: ما إن فعلت. وهذا كقولك: ضرب القوم زيدًا من داخل ومن
خارج. انتهى. وفي هذا المثال نظر، ولا يخفى أن زيادة «إن» بعد العاطف غير موجود، وإن كان بتقدير زيادتها يستفاد اتصال الري. والبيت من قصيدة للنمر ابن تولب الصحابي فيها عدة أبيات شواهد فلا بأس بإيرادها وشرحها وهي هذه:
سلا عن تذكره تكتما
…
وكان رهينا بها مغرما
وأقصر عنها وآياتها
…
يذكرنه داءه الأقدما
فأوصي الفتى بابتناء العلاء
…
وأن لا يخون ولا يأثما
ويلبس للدهر أجلاله
…
فلن يبتني الناس ما هدما
وإن أنت لاقيت في نجدةٍ
…
فلا تتهيبك أن تقدما
فإن المنية من يخشها
…
فسوف تصادفه أينما
وإن تتخطاك أسبابها
…
فإن قصاراك أن تهرما
فأحبب حبيبك حبًا رويدًا
…
فليس يعولك أن تصر ما
فتظلم بالود منوصله
…
رقيق فتسقه أو تندما
وأبغض بغيضك بغضًا رويدًا
…
إذا أنت حاولت أن تحكما
ولو أن من حتفه ناجيًا
…
لألفيته الصدع الأعصما
بإسبيل ألقت به أمه
…
على رأس ذي حبك أيهما
إذا شاء طالع مسجورة
…
ترى حولها النبع والساسما
تكون لأعدائه مجهلًا
…
مضلًا وكانت له معلما
سقتها رواعد من صيفٍ
…
وإن من خر يف فلن يعدما
أتاح له الدهر ذا وفضةٍ
…
يقلب في كفه أسهما
فأرسل سهمًا على غرةٍ
…
وما كان يرهب أن يكلما
وأخرج سهمًا له أهزعًا
…
فشك نواهقه والفما
فظل يشب كأن الولو
…
ع كان بصحبته مغرما
فأدركه ما أتى تبعًا
…
وأبرهة الملك الأعظما
لقيم بن لقمان من أخته
…
فكان ابن أختٍ له وابنما
ليالي حمق فاستحصنت
…
إليه فغر بها مظلما
فأحبلها رجل نابه
…
فجاءت به رجلًا محكمًا
هذه القصيدة بتمامها من رواية محمد ابن حبيب، ولم يكتب على البيتين الأولين شيئًا سوى قوله: الآيات: الآثار والعلامات، وقوله:«سلا» فعل ماض من السلو، بدليل عطف مثل عليه، وهو: وأقصر عنها، وأيضًا تذكره بالداء الأقدام مناسب للسلو، لا أنه أمر لاثنين من السؤال كما ظن. وفاعله معلوم من المقام، أي: سلا قلبي، وإليه تعود الهاء في تذكره، وعن متعلقة بلا، وتذكره: مصدر مضاف إلى فاعله، ومفعوله تكتم، بمثناتين فوقيتين، أولاهما
مضمومة، والثانية مفتوحة: علم امرأة. والرهين: المرتهن، والمغرم: اسم مفعول من أغرم بالشيء، أي: أولع به، كذا في «الصحاح» .
وأقصر عن الشيء: كف عنه، ونزع مع القدرة عليه، فإن عجز عنه قيل: قصر عنه، كذا فيه أيضًا. والداء الأقدم، أي: القديم، هو الحب، أو هو أقدم من كل داء.
وقوله: فأوصي: هو فعل مضارع من الإيصاء، والعلاء، بالفتح والمد: الشرف والرفعة وأن لا يخون: معطوف على «ابتناء» وقوله: ويلبس للدهر أجلاله، أي: ثيابه جمع جل بالضم، وهو كقوله بهيس الفزاري:
إلبس لكل حالةٍ لبوسها
…
إما نعيمها وإما بؤسها
وقوله: فلن يبني الناس ما هدما. يقول: إذا ضيع الفتى مجده لم يبنه له الناس.
وقوله: وإن أنت لاقيت في نجدة. قال ابن حبيب: النجدة: القتال. وقوله: لا تتهيبك، معنا: لا تتهيبها. انتهى. يريد أن فيه قلبًا. وقد أورده المصنف في الباب الثامن، ونذكر هناك ما يتعلق به إن شاء الله تعالى.
وقوله: فإن المنية من يلقها .. الخ، هو من شواهد «الجمل الزجاجية» على أن في «أينما» اكتفاء. وأينما: ظرف مضمن لمعنى الشرط، وحذف شرطه وجوابه، أي: أينما توجه تصادفه. ومن يلقها: بدل اشتمال من المنية، وسوف للتأكيد. وقيل إنما أتى بها لإخراج الكلام على مقتضى طبع النفس في إذعانها للموت مع أمل اطول الحياة. وقوله: وإن تتخطاك أسبابها .. الخ، التخطي: التجاوز، وأسباب المنية: ما يؤدي إليها من مرض وغيره. وقصاراك، بضم القاف: غايتك. والهرم: انحطاط القوى من طول العمر يقول: إن تتجاوزك أسباب
المنية، فإن غايتك الهرم، وتبديل وجود بالعدم. وقوله: فليس يعولك أن تصرما، قال ابن حبيب: يعولك: يشق عليك، وعالني الأمر: شق علي، والعول: المصدر. قالت الخنساء:
يحمله القوم ما عالهم
ورفيق، أي: غير محكم، وتسفه: تجهل وتظلم، أي: تضع الود في غير موضعه. وتحكما، أي: تكون حكيما.
قال السيوطي قوله: أجب حبيبك .. إلى آخر البيتين، مأخوذ من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:«أجب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أنيكون حبيبك يومًا ما» أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة، وابن عدي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وكأن النمر سمعه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فعقده، إلا أني لم أقف عليه من حديثه. انتهى.
وقال شيخنا الشهاب الخفاجي: الظاهر أنه من موافقاته إن كان قاله قبل إسلامه، وليس نظمًا لمعنى الحديث الذي يسميه علماء البديع عقدًا. انتهى.
وقوله: ولو أن من حتفه ناجيًا، الحتف: الموت، ومن: متعلقة بناجيًا، وهو اسم إن، وخبرها محذوف، أي: لأو أن أحدًا ناجيًا من حتفه موجود، لكان ذلك الناجي هو الصدع. و «هو»: ضمير الفصل، وألفيته: وجدته، والصدع، بفتح الصاد والدال والعين المهملات، قال ابن حبيب: هو الوعل بين الجسيم والضئيل، وهو الوسط من كل شيء، يقال: رجل صدع، وفرس صدع. والعصمة بالضم: بياض في يده. انتهى. والوعل: تيس الجبل. وقوله: بإسبيل ألفت به أمه .. الخ. إسبيل كقنديل، قال ابن حبيب: هو بلد، وأنشد لبعض اليمانين:
لا أرض إلا إسبيل
…
وكل أرضٍ تضليل
والأيهم: أعمى الطريق لا يهتدى طريقه، ولا يعرفه أحد. انتهى. وفي «معجم البلدان» لياقوت: إسبيل حصن بأقصى اليمن، وقيل: هو وراء البحر، وقيل: جبل في مخلاف ذمار. انتهى. وفي «معجم ما استعجم» لأبي عبيد البكري: إسبيل كإكليل: بلد باليمن، وقال أبو عبيدة: جبل باليمن وأنشد هذا البيتز
والباء في «به» زائدة في المفعول، كقوله تعالى:(ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)[البقرة/195] والحبك، بضم الحاء المهملة، والباء الموحدة: الطرائق. يقول: ولدته أمه في جبل ذي طرق لا يهتدى إليها من أرض إسبيل، وذي حبك: صفة لموصوف محذوف، وهو جبل.
وقوله: إذا شاء طالع مسجورة .. الخ، في «الصحاح»: طالعت الشيء،
أي: اطلعت عليه، والاطلاع على الشيء: الإشراف عليه. ونقل السيوطي عن شارح القصيدة: طالع: أتى، يقال: فلان يطالع قرينه، أي: يأتيه. ومسجورة: بالسين المهملة والجيم، قال ابن حبيب: أي مملوءة. وقال أبو حنيفة الدينوري: المسجورة: العين المماوءة، وأنشد هذا البيت. ويرى بالتحتية: فاعله ضمير الصدع، ويروى بالفوقية، أي: أنت. والنبع: شجر يتخذ منه القوس. والساسم، بسينين مهملتين. قال ابن حبيب: يقال: إنه الآبنوس. وقال الدينوري: زعموا أن القوس تتخذ من الساسم، ومنابته الشواهق حيث منابت النبع. وقد وصفه حميد في شعره باللين. وزعم قوم أن الساسم الشيز، ولا أعلم ما في الشيز ما يدعو إلى اتخاذ القسي منه. انتهى. والشيز: الآبنوس. وقوله: «تكون لأعدائه» أي: تكون تلك العين المسجورة لأعداء الصدع مجهلًا، بفتح الجيم وهوأرض بجهل سالكها الطريق ويضيع فيها. وأعداؤه: الصيادون. ومضل، بفتح الميم: أرض يهتدي فيها سالكها بعلاماتها.
وقوله: سقتها الرواعد. «ها» : ضمير مسجورة، كذا رواه ابن حبيب وغيره كما مر عن أبي علي. والرواعد: جمع راعدة، وهي السحابة الماطرة، وفيها صوت الرعد غالبًا. والصيف، بتشديد الياء المكسورة: المطر الذي يجيء في الصيف، والخريف: الفصل المشهور إلا أنه أراد مطره، كما أطلق الربيع وأريد به مطره، وقرنه مع الصيف في قوله:
سقى الله نجدًا من ربيع وصيف
وقوله: أتاح له الدهر .. الخ. قال ابن حبيب: أتاح: قدر، والوفضة:
الكنانة التي تكون فيها السهام. انتهى. والدهر: فاعل أتاح، ومفعوله: ذا وفصة، وأراد به الصياد. وقوله: فأرسل سهمًا .. الخ، أي: رماه ذو الوفضة بسهم على غرة – بكسر الغين المعجمة – وهي الغفلة، وفاعل «يرهب» ضمير الصدع، ويكلم، بالبناء للمفعول، أي: يجرح.
وقوله: وأخرج سهما له أهزعًا. قال ابن حبيب: الأهزع: آخر سهم يبقى في الكنانة، يقال: ما في كنانته أهزع، أي: سهم واحد. قال ابن السكيت: هذا مما لا يتكلم به إلا مع الجحد، وقد أتى النمر به من غير جحد. انتهى. وفي «القاموس»: وما في الجفنة إلا سهم هزاع ككتاب، أي: وحده، والأهزع: آخر سهم في الكنانة رديئًا كان أو جيدًا، وهو أفضل سهامها، لأنه يدخر لشديدة. والنواهق: جمع ناهق، في «القاموس» الناهقان: غظمان شاخصان من ذي الحافر في مجرى الدم، ويقال لهما: النواهق، والناهق، مخرج النهاق من حلقه، والجمع نواهف. وقوله: يشب، بكسر الشين. قال ابن حبيب: يشب: يرفع يديه حين أصابه السهم. والولوع، بفتح الواو: القدر والحين. انتهىز
وقوله: فأدركه ما أتى تبعًا، أي: أدرك الصدع ما أتى تبعًا، وهو الموت.
وتبع: ملك اليمن، وأبرهة الأشرم: ملك الحبشة.
وقوله: لقيم بن لقمان من أخته، ترك ما كان فيه وسلك طريقًا أخرى بلا مناسبة، وهو المسمى في البديع بالاقتضاب. وهذا البيت من شواهد ابن الناظم.
قال ابن حبيب: ذكروا أن أخت لقمان كانت عند رجل، فكانت تلد له أولادًا ضعافًا، فقالت لامرأة لقمان: هل لك أن أجعل لك جعلًا، وتأذني لي أن آني لقمان الليلة؟ فأسكرته واندست له أخته، فوقع عليها لقمان، فلما
كانت الليلة القابلة أتته امرأته فوقع عليه، فقال: هذا حر معروف وكأنه استنكره. انتهىز
وقال الجاحظ في «البيان» : كانت العرب تعظم شأن لقمان بن عاد الأكبر والأصغر لقيم بن لقمان في النباهة والقدر، وفي العلم، وفي الحكم، وفي اللسان، وفي الحلم، وهذان غير لقمان المذكور في القرآن على ما يقول المفسرون، ولارتفاع قدره وعظم شأنه، قال النمر بن تولب، وأنشد هذه الأبيات الثلاثة. وقال: وذلك أن أخت لقمان، قالت لامرأة لقمان: إني امرأة محمقة ولقمان رجل محكم منجب، وأنا في ليلة طهري فهبي لي ليلتك، ففعلت، فباتت في بيت امرأة لقمان، فوقع عليها فأحبلها بلقيم، فلذلك قال النمر بن تولب ما قال. والمرأة إذا ولدت الحمقى فهي محمقة، ولا يعلم ذلك حتى يرى ولد زوجها من غيرها أكياسًا. انتهىز
وقال العيني: ويروى أن لقمان كان لا يولد له، فقالت امرأته لأخته: أما ترين لقمان في قوته وعظم خلقه لا يولد له، قالت: فما الحيلة؟ قالت امرأته لأخته: تلبسين ثيابي حتى يقع عليك في الظلمة، ففعلت فواقعها فولدت منه، وسمي لقيمًا، بضم اللام وفتح القاف، وكان من أحزم الناس.
ولقيم: مبتدأ. وقوله من أخته: خبره. وفي قوله: «فكان ابن أخت له وابنما» دليل على جواز تعاطف الخبرين المستقل كل منهما بنفسه. وابن: هو ابن زيدت فيه الميم. وقوله: ليالي حمق .. الخ، بضم الحاء وتشديد الميم، قال ابن حبيب: أي: اسكر حتى ذهب عقله. انتهى. ورواه المفضل «حمق» بفتحتين، وزعم أنه يقال: حمق إذا شرب الخمر، والخمر يقال لها: الحمق.
وقوله: «استحصنت» بالبناء للفاعل. قال ابن حبيب أي: أتته وكأنها حصان كما تأتي المرأة زوجها. وقوله «فغر بها» غر، بضم الغين من الغرة بالكسر: وهي الغفلة. وقوله «مظلمًا» بكسر اللام، أي: في ظلمة، وقوله «فأحبلها رجل نابه» من النباهة وهو ارتفاع الذكر، وهو لقمان، فجاءت، أي: أخته به، أي: يلقيم محكما، بفتح الكاف، أي: حكيما.
والنمر بن تولب: صحابي يعد من المخضرمين، ونسبه مذكور في «الاستيعاب» وغيره وهو عكلي منسوب إلى عكل – بضم العين المهملة، وسكون الكاف وهي أمة، كان تزوجها عوف بن قيس بن وائل بن عوف بن عبد مناة بن أد ابن طابخة فولدت له ثلاث بنين، ثم مات فحضنتهم عكل، فنسبوا إليها. والنمر شاعر جواد واسع العطاء، كثير القرى، وهاب لماله، وكان أبو عمرو بن العلاء يسميه الكيس لجودة شعره، وكثرة أمثاله، ويشبه شعره بشعر حاتم الطائي. وقال أبو عبيدة: كان النمر شاعر الرباب في الجاهلية، ولم يمدح أحدًا ولا
…
وفد على النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، مسلمًا وهو كبير.
قال أبو حاتم السجستاني في كتاب «المعمرين» : عاش النمر بن تولب مائتي سنة، وخرف، وألقي على لسانه: انحروا للضيف أعطوا السائل. اصبحوا الراكب، أي: اسقوه الصبوح.
وقال ابن قتيبة في كتاب «الشعراء» : وألقى بعض البطالين على لسانه نيكوا الراكب، فكان يقولها. ومن شعره:
لا تغضبن على امرئ في ماله
…
وعلى كرائم صلب ما لك فاغضب
وإذا تصبك خصاصة فارج الغنى
…
وإلى الذي يعطي الرغائب فارغب
وقال صاحب «الأغاني» : النمر: شاعر مقل، أدرك الإسلام، وأسلم فحسن إسلامه، ووفد إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكتب له كتابًا. وروى عنه حديثًا وكان أحد أجواد العرب المذكورين وفرسانهم. انتهى.
قال ابن الملا: قد تقدم، أي: في بحث «أل» في كلام المصنف أنه لم يرو سوى حديث: «ليس من امبر امصيام في امسفر» انتهى. قال السيوطي في حاشية «المغني» : هذا الحديث أخرجه أحمد في مسنده، والطبراني في «معجمه» من حديث كعب بن عاصم الأِعري، وسنده صحيح.
وأما قول المصنف: رواه النمر بن تولب فكذا ذكره ابن يعيش والسخاوي كلاهما في شرح «المفصل» وصاحب «البسيط» . زاد ابن يعيش: ويقال: إن التمر لم يرو عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلا هذا الحديث، وكلهم تواردوا على ما لا أصل له، فإن هذا الحديث لا يعرف من رواية التمر، والحديث الذي رواه النمر عند من أثبت صحبته غير هذا الحديث. قال أبونعيم في «معرفة الصحابة»: النمر بن تولب كتب له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كتابًا، وروي من طريق مطرف عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
يقول: «من سره أن يذهب كثير من وحر صدره فليصم شهر الصبر رمضان، وثلاثة أيام من كل شهر» . انتهى.
* * *
تم الجزء الأول من الكتاب ويليه - إن شاء الله تعالى الجزء الثاني ويبدأ في الانشاد الثاني والثمانين