الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ورزق السعادة في شعره، ومات مقتولًا في الطريق في سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.
وأنشد بعده، وهو الانشاد العاشر:
ألا اصطبار لسلمى أم لها جلد
هذا صدر بيت وعجزه:
إذا ألاقي الذي لاقاه أمثالي
على أن همزة الاستفهام دخلت على لا النافية للجنس، والاصطبار: افتعال من الصبر، وقوله لسلمى: خبر لا النافية، وروي بدله «لليلى» والجلد بفتحتين: الجلادة، وهو التثبت عند المصيبة. وأم هنا: متصلة، وكان الظاهر أن يقول: أم لا، لكنه تفنن، وإذا: ظرف لجلد، لا لاصطبار، لأنه كان ينون، وأراد بالذي لاقاه أمثاله: الموت، وأراد بأمثاله: العشاق، يقول: أتحزن علي سلمى إذا مت أم لا؟ وكنى عن الموت ولم يصرح به حذرًا من تألمها.
وهذا البيت استشهد به جميع شراح الألفية وغيرهم، وقد أعاده المصنف في بحث «ألا» بالفتح والتخفيف.
وأنشد بعده، وهو الانشاد الحادي عشر:
(11)
ألستم خير من ركب المطايا
…
وأندى العالمين بطون راح
على أن الهمزة فيه للإنكار الإبطالي، فإن كان ما بعدها نفيًا كما هنا لزم ثبوته، لأن نفي النفي إثبات، وبهذا صار البيت مدحًا. قال ابن الشجري في المجلس الرابع والثلاثين في «أماليه»: معناه: أنتم خير من ركب المطايا، فذلك قال عبد الملك حين أنشده هذا البيت: نحن كذلك. ولو قال: جرير عرى جهة
الاستخبار لم يكن مدحًا، وكيف يكون هذا استفهامًا وقد جعل الرواة لهذا البيت مكانًا عليًا، حتى قال بعضهم: هو أمدح بيت! انتهى.
وهو من قصيدة مدح بها عبد الملك بن مروان مطلعها:
أتصحو بل فؤادك غير صاح
…
عشية هم صحبك بالرواح
إلى أن قال بعد ستة أبيات:
تعزت أم حزرة ثم قالت
…
رأيت الموردين ذوي لقاح
تعلل وهي ساغبة بنيها
…
بأنفاس من الشبم القراح
سأمتاح البحور فجنبيني
…
أذاة اللوم وانتظري امتياحي
ثقي بالله ليس له شريك
…
ومن عند الخليفة بالنجاح
أغثني يا فداك أبي وأمي
…
بسيب منك إنك ذو ارتياح
فإني قد رأيت علي حقًا
…
زيارتي الخليفة وامتداحي
سأشكر إن رددت على ريشي
…
وأثبت القوادم في جناحي
ألستم خير من ركب المطايا
…
وأندى العالمين بطون راح
وقوم قد سموت لهم فدانوا
…
بدهم في ململمة رداح
أبحت حمى تهامة بعد نجدٍ
…
وما شيء حميت بمستباح
وبقي بعد هذا ستة أبيات، قال جامع شعر جرير محمد بن حبيب عن محمد ابن زياد الأعرابي عن عمارة بن بلال بن جرير: كان جرير عند الحجاج بالعراق،
وكان قد آمنه بعدما أخافه، فأوجهه الحجاج، وملأ بمدحه الأرض، وبلغ أهل الشام وأمير المؤمنين ورواة الناس، ثم إن الحجاج أوفده مع ابنه محمد عاشر عشرة من وجوه أهل العراق، وذلك بعدما أجازه بعشرة من الرقيق وأموال كثيرة، قال: فقدمنا على عبد الملك، فلما حضرنا الباب دخل محمد على عبد الملك، فخطب بين يديه، ثم أجله على سرير عند رجليه، ثم دعانا رجلًا رجلًا، وكلنا له خطبة، فجعل كلما تكلم رجل قطع خطبته، وتكلم جرير فقطع خطبته، وقال: من هذا يا محمد؟ فقال: هو جرير بن الخطفى، قال أمادح الحجاج؟ قلت: نعم، ومادحك يا أمير المؤمنين، فأذن لي أنشدك، أبقاك الله تعالى، وقال: بل هات بالحجاج، فاندفعت في قولي:
إذا سعر الخليفة نار حربٍ
…
رأى الحجاج أثقبها شهابا
قال صدقت، هو كذا. قال: ووراني الأخطل جالسًا في الحلقة لا أراه، ثم قال: هات للحجاج، فأنشدته:
طر بت لعهدٍ هيجته المنازل
…
وكيف تصا بي المرء والشيب شامل
قال: فما نزعت عنيا حتى خيل لي في وجه الخليفة الغضب، ثم قال: هات للحجاج فأنشدته:
من سد مطلع النفاق عليهم
…
أم من يصول كصولة الحجاج
أم من يغار على النساء حفيظة
…
إذ لا يثقن بغيرة الأزواج
قال: فتكلم الأخطل، وقال: فأين أمير المؤمنين يا ابن المراعة؟ ! قال: فعرفت أنه الأخطل، فقلت له: اخسأ، ومضيت فيها حتى أنشدته كلها، فقال عبد الملك: اجلس، فجلست، وقال: قم يا أخطل هات مديح أمير المؤمنين، فقام حذائي فأنشد، فقال: أجدت، أنت مادحنًا وأنت شاعرنا! اركبه، قال: فرمى بردائه وكشف قميصه عن منكبيه، ووضع يده على عنقي، فقلت: يا أمير المؤمنين النصراني الكافر لا يظهر على المسلم ولا يركبه! فقال أهل المجلس: صدق يا أمير المؤمنين، فقال: دعه. وانتفض المجلس وخرجنا، فدخل الوفد عليه ثمانية أيام مع محمد، وفي كلهن أحجب ولا أدخل، ثم دخلوا في اليوم التاسع فأخذوا جوائزهم، ثم تهيؤوا اليوم العاشر للدخول، وتجهزوا للرحيل، فقال محمد: يا أبا حزرة! مالي لا أراك تجهز؟ قلت: كيف والخليقة علي ساخط؟ ما أنا ببارح أو يرضى عني! قال: فلما دخل بودعه قال: يا أمير المؤمنين إن ابن الخطفى مادحك وشاعرك، ومادح الحجاج سيفك ويمينك، وقد لزمتنا منه ذمام، فإن رأيت، وقد أبى أن يخرج معنا وأنت عليه ساخط - أن تأذن له أن يودعك ويخرج معنا فعلت، فأن له، فلما سلمت عليه ودعوت له قال: إنما أنت للحجاج قال: قلت: ولك يا أمير المؤمنين، وإنما الحجاج سيفك ويمينك، فأذن، فسكت ولم يأذن، فاندفعت فقلت:
أتصحو بل فؤادك غير صاح
حتى فرغت منها، وعرفت أني إن لم أخرج بجائزة منه كان إسقاطي أبدًا، قال: فقال: بل فؤادك! قال: ومضيت فيها حتى بلغت للشكوى لأم حزرة وبينها، وأتيت على قولي:
ألستم خير من ركب المطايا
…
وأندى العالمين بطون راح
قال: فضحك وجعل يقول: كذاك نحن، قال: فردها علي، فرددتها عليه، فقال: ويحك أتراها ترويها مائة من الإبل؟ قال: قلت: نعم إن كانت نم نعم كلب، قال: وقد رأيت خمسمائة فريضة من نعم كلب مخضبة ذراها ثنيًا وجذعًا تهيأ للخول، فقال: أخرجوها من الفرائض التي جاءت من نعم كلب مائة من عرض ولا ترذلوها، قال: فشكرت له وفديته، وتشكر له أصحابي ومن شهدني من العرب، ثم قلت: يا أمير المؤمنين إنما نحن أسياخ من أهل العراق، وليس في واحد منا فضل عن راحلته، وإنما الإبل أباق، قال: فنجعل لك أثمانها؟ قال: قلت: لا، ولكن الرعاء يا أمير المؤمنين، قال: فنظر إلى جنبتيه، وقال لجلسائه: كم يجزئ لمائة من الإبل؟ فتكلموا على قدر الركاب والظهر، فقالوا: ثمانية، فأمر لي بها، أربعة صقالبة، وأربعة نوبة.
قال: وإذا بعض الدهاقين قد أهدى إليه ثلاث صحفات فضة، فهن بين يديه يقرعهن بخيزرانة، قال: قلت: المحلب يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! قال: فدفع إلي إحداهن فقال: خذها، لا نفعتك، قلت: بلى، كل ما نلت منك نافع أبقاك الله، ونصرفنا وودعنا.
وقد كتب محمد يوم ودعنا، وأبرد إلى أبيه بالحديث كله، فلما قدمنا على الحجاج قال: أما والله يا ابن الخطفى، لولا أن يبلغ أمير المؤمنين فيجد علي في نفسه لأعطيتك مثلها، ولكن هذه خمسون وأعمالها حنطة تأتي بها أهلك وتميرهم ما عليها، فشكرت له ودعوت، وأمر بأقتابها وأحبالها وأحلاسها وجواليقها من العباء القطواني، وهو مما ينتفع به أهل البادية، قال: فخرجت من الغد محملة كما أمر بها إلى الحي، فإلى هذا يشير قوله:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية
…
ما في عطائهم من ولا سرف
انتهى. وقوله: أتصحو
…
الخ، هذا تجريد خاطب به نفسه بالاستفهام، ثم أضرب عن الاستفهام فقال: بل فؤادك غير قابل للصحو، وأراد بالعشية هنا، مطلق الزمان، وهو ظرف لصاح، وقوله: تعزت أم حزرة، أي: تصبرت على قلة اللقاح، وأم حزرة، بفتح الحاء المهملة وسكون الزاء المعجمة بعدها راء مهملة: امرأة جرير، وافقت كنيتها كنيته، واللقاح: جمع لقحه، بكسر لامهما، وهي الناقة ذات اللبن، وقال ثعلب: اللقاح جمع لقحة، وإن شئت لقوح، وهي التي نسجت، فهي لقوح سهرين أو ثلاثة، ثم هي لبون بعد ذلك، والموردون: الذين يوردون إبلهم الماء، وتعلل: تلهى، وساغبة: جائعة، والأنفاس: جمع نفس بفتحتين، وهو من الماء ما كان مرويًا كافيًا، والشم بكسر الموحدة: البارد، يقال: شم الماء، من باب فرح، إذا برد، والقراح بالفتح: الماء الخالص الذي لم يخلط به لبن ولا غيره. وقوله: سأمتاح البحور، أي سأستسقي، وهو مثل، والبحور كناية عن الملوك، وقال ابن حبيب: الميح: العطاء، يقال: ماحه يميحه ميحًا، وامتحت فلانًا واستمحته بمعنى واحد، وقوله: يا فداك أبي، المنادى محذوف، أي: يا أمير المؤمنين، وجملة: فداك أبي، دعاء له، والسيب: العطاء، والارتياح: الخفة للعطاء. وقوله: فإني قد رأيت علي حقًا أي: رأيت من الحق علي أن أزور الخليفة، وأمتدحه، والقوادم: العشر الريشات في الجناح، وما فوق ذلك الحوافي، شبه نفسه مجردة من الأموال بطائر تساقط ريشه، فهو يعجز عن بلوغ مراده، وشبه الإنعام عليه بالمال بإراشة ذلك الطائر، وقد كنى بذلك عن إصلاح حاله، والمطايا: جمع مطية، وهي الناقة السريعة من مطا يمطو، إذا جد في السير وأسرع، والراح جمع راحة: الكف، وأندى:
أجود، أفعل تفضيل من الندى، قال صاحب «المفتاح»: الندى أصل المطر، وهو مقصور يطلق لمعان، ويقال: أصابه ندى من طل، ومن عرق، وندى الخير، وندى الشر، وندى الصوت .. إلى أن قال: وفلان أندى من فلان، أي: أكثر فضلا وخيرًا، وبطون راح: تمييز من فاعل أندى محول عن الفاعلية، ونسبة الندى إلى البطون، لأن العطاء كثيرًا ما يكون بها، والخطاب في قوله: ألستم، لعبد الملك وآبائه، ويجوز أن يكون الجمع لتعظيم المخاطب الواحد، خلافًا للرضي والتفتازاني في منعهما ذلك. وقوله: وقوم قد سموت .. الخ، أي: ورب قوم، وسموت: علوت، ودانوا: أطاعوا من الدين وهو الإطاعة، والدهم بفتح الدال: الجيش الكثير، والململمة: الكثيرة المجتمعة، والرداح بالفتح: الضخمة، وقوله: أبحت حمى تهامة، يريد: عبد الله بن الزبير وقتله إياه، وغلبته على ما في يديه، ويأتي، إن شاء الله تعالى، شرحه في الباب الرابع.
وجرير من الطبقة الأولى من شعراء الإسلام، وهو جرير بن عطية بن الخطفى – بفتحات – سمي الخطفى بشعر قاله، واسمه حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وإليه المنتهى وإلى الفرزدق في حسن النظم، قال محمد بن سلام: ذاكرت مروان بن أبي حفصة فيهما فقال:
ذهب الفرزدق بالفخار وإنما
…
حلو القريض ومره لجرير
ومات جرير بعد الفرزدق بشهر من السنة العاشرة بعد المائة، وقد بسطت ترجمته في أول شرح شواهد الرضي.