الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومعنى المعلقمة أن العرب كانت في الجاهلية يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض، فلا يعبأ به ولا ينشده أحد حتى يأتي مكة في موسم الحج، فيعرضه على أندبة قريش فإن استحسنوه روي، وكان فخرًا لقائله، وعلق على ركن من أركان الكعبة حتى ينظر إليه، وإن لم يستحسنوه طرح ولم يغبأ به. وأول من علق شعره في الكعبة امرؤ القيس، وبعده علقت الشعراء، وعدد من علق شعره سبعة، ثانيهم طرفة بن العبد، ثالثهم زهير بن أبي سلمى، رابعهم لبيد ابن ربيعة، خامسهم عنترة بن شداد، سادسهم الحرث بن حلزة، سابعهم عمرو ابن كلثوم التغلبي، هذا هو المشهور.
وفي «العمدة» لابن رسيق: وقال محمد بن أبي الخطاب في كتابه الموسم بـ «جمهرة أشعار العرب» : إن أبا عبيدة قال: أصحاب السبع التي تسمى السمط: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو، وطرقه. قال: وقال المفضل: من زعم أن في السبع التي تسمى السمط لأحد غير هؤلاء فقد أبطل، فأسقطا من أصحاب المعلقات عنترة والحارث بن حلزة، وأثبتا الأعشى والنابغة. وكانت المعلقات تسمى المذهبات، وذلك أنها اختيرت من سائر الشعر فكتبت في القباطي بماء الذهب، وعلقت على الكعبة، فلذلك يقال: مذهبة فلان، إذا كانت أجود شعره، وذكر ذلك غير واحد من العلماء، وقيل: بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة يقول: علقوا لنا هذه، لتكون في خزانته.
وأنشد بعده وهو الإنشاد الخامس:
(5)
دعاني إليها القلب إني لأمره
…
سميع فما أدري أرشد طلابها
على أن المعادل للهمزة محذوف تقديره: أم غي، وأورده المصنف في بحث «أم، أيضا وقال: وفيه بحث، وبين شراحه وجيه بما قاله هنا من أنه لا حاجة إلى تقدير معادل في البيت، لصحة قولك: لا أدري هل طلابها رشد؟ وهذا مما اتفق عليه شراحه تبعًا له، ولا وجه له، لأن لا أدري ولا أبالي لا يوجدان بلا معادل، لما فيهما من معنى التسوية، وقد اتفق شراح شعر هذيل على تقديره في البيت، وكذا نقل المرزباني في «الموشح» عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن طباطبا العلوي في التشبيهات البديعة التي لم يلطف أصحابها فيها، ولم يخرج كلامهم في العبارة عنها سلسًا سهلًا، ثم أورد هذا البيت من جملة أبيات عليا، وقال: كان ينبغي أن يقول: أغي أم رشد، فنقص العبارة. انتهى.
والبيت من قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي، وقبله:
وقد طفت من أحوالها وأردتها
…
سنين فأخشى بعلها وأهابها
ثلاثة أحوال فلما تجرمت
…
علينا بهون واستحار شبابها
دعاني إليها القلب إني لأمره
…
البيت.
فقلت لقلبي يا لك الخير إنما
…
يدليك للموت الجديد حبابها
الضمير المؤنث لأسماء في أول القصيدة، قال الإمام المرزوقي في «شرح أشعار الهذليين»: أخذ في هذه الأبيات يقص كيف توصل إليها، ويعد أنواع ما قاساه فيها، وكل هذا تحزن وتحسر. ودخول «من» في أحوالها لبيان ابتداء الطواف، وأنه لم يجسر على الدنو منها، فأخذ يطوف حواليها، وإنما قال: من أحوالها، ولم يقل: من حولها، لاختلاف مواقع المطاف، وأراد أن ينبه على أنها عفيفة عزيزة محتشمة، وأن بعلها عظيم الموقع في النفوس، يخاف فيما لا يعلمه، وأن ينبه على أنه يهوى المنيع الشاق الذي يطلب دهرًا فلا ينال.
وقوله: ثلاثة أحوال: انتصب على البدل من سنين، والهون بالضم: الذل، واستحار بالحاء المهملة، يقال: استحار الشباب إذا تم وانتهىو وأصله من التحير، ومثله: استحار المسافر إذا أقام أيامًا في موضع. والمعنى: لما كملت السنون التي هبتها أن أواجهها بما في نفسي، وانقضت بهوان علينا لازم لما كنت أتولاه فيها، وأبذل من نفسي في سببها وألتزمه من التصاغر والتذلل لمن حولها وتخير ماء الشيبة في مجاريه منها، فبرعت محاسنها، وبلغت النهاية، عيل صبري.
وقوله: دعاني إليها، هذا جواب «لما» في البيت قبله، وهو رواية أبي عمرو، وروى غيره «عصاني إليها القلب
…
الخ» قال المرزوقي: أي عصاني القلب مائلا إليها وذاهبًا نحوها، فانقدت لهواه وآثرت العدول إلى رضاه إذ كان الغلبة له، وقوله: فما أدري .. الخ، أراد: التبس الأمر علي، فلم أدر أطلابها رشد أم غي؟ وهذا بيان حاله حين عصاه القلب وركبه الهوى، فتمكن منه، وذلك لأنه فارقه الجلد والحزم، فاستوى لذيه الحسن والقبيح.
وإنما ساغ حذف: أم غي، لأن المراد مفهوم، وهذه الألف ألف التسوية، ومثله: فما أدري أسكلهم سكلي؟ انتهى كلامه.
وقد أعاد المصنف هذا البيت ثالثًا في حذف أم المعادلة من الباب الخامس.
وجملة: إني لأمره سميع – أي: مجيب – استئناف بياني، كأنه قيل: أأنت سميع لأمره؟ والتأكيد للشك، ويجوز أن تكون اعتراضيه، ويجوز أيضًا أن تكون حالًا من الياء في «دعاني» ، وقال الدماميني: من «القلب» ، واللام في لأمره للتعدية، وتقديم المعمول للحصر، وجملة: فما أدري .. الخ: معطوفة على دعاني، وطلابها: مبتدأ، ورشد خبره، والجملة منصوبة المحل بفعل الدراية المعلق عنها بالاستفهام، وطلابها: مصدر طالبه بمعنى طلبه مضاف إلى مفعوله، وفاعله محذوف أي: طلابه إياها، وقوله: يا لك الخير، المنادى به محذوف، أي: يا قلب لك الخير، على الدعاء له، وهذا استسلام منه للقلب فيما دعاه إليه، وإنما قالك للموت الجديد، لأنه يريد الموت الذي يكون جديدًا إذا وقع، وقال بعضهم: لأنه لا يعود إليه مرة أخرى، يريد أنه يكون مجدودًا، أي: مقطوعًا، وهذا لأن الذي كان فيه من هواها كأنه كان موتًا متصلًا، فقال: يدليك للموت المنقطع، ومعنى يدليك: يسوقك، والدلو: السوق، قال:
لا تقلواها وادلياها دلوا
وحبابها بكسر أوله: أراد به الحبو وقيل: هو جمعه، وقيل: هو مصدر حاببته، وروى الباهلي «حبابها» بضم الحاء، أي: حبيبها.
وأبو ذؤيب - بالتصغير -: اسمه خويلد بن خالد، وينتهي نسبه إلى هذيل بن مدركة، وهو شاعر مجيد مخضرم، أسلم ورحل إلى المدينة، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في مرضه، فتوفاه الله تعالى قبل قدومه بليلة، وأدركه وهو مسجى، وصلى عليه وشهد دفنه، وعاش إلى زمن عثمان رضي الله عنه، وليس معدودًا من الصحابة.
وأورد بعده، وهو الانشاد السادس:
(6)
بدا لي منها معصم حين جمرت
…
وكف خضيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإن كنت داريًا
…
بسبع رمين الجمر أم بثمان
أراد الشاعر: أبيع، فحذف همزة الاستفهام لدلالة أم عليها، وظاهر كلام المصنف أن حذفها سائغ في الكلام غير مختص بالشعر، سواء أمن اللبس كما هنا أم لا، كالبيت الذي بعده، وكلاهما ضرورة عند سيبويه، وتبعه ابن عصفور في كتاب «الضرائر» في بحث «أم» المنقطعة، زعم الخليل أن قول الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط
…
غلس الظلام من الرباب خيالا
كقولك: إنها لإبل أم ساء، ويجوز في الشعر أن تريد بـ «كذبتك» ، الاستفهام، وتحذف الألف، قال عمر بن أبي ربيعة:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريًا .. البيت.
انتهى. وقال شارح أبياته الأعلم الشنتمري: الشاهد فيه حذف ألف الاستفهام ضرورة،
لدلالة «أم» عليها. انتهى.
وذهب الأخفش إلى جواز حذفها في الاختيار، وإن لم يكن بعدها «أم» وتبعه
ابن مالك وقال: وأقوى الاحتجاج عليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لجبريل عليه السلام: «وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق» أراد: أو إن. زنى؟ قال المرادي في «الجنى الداني» : والمختار أن حذفها مطرد إذا كان بعدها «أم» المتصلة، لكثرته نظمًا ونثرًا، فمن النظم قول الشاعر: لعمرك ما أدري وإن كنت داريًا
…
البيت. ومن النثر قراءة ابن محيصن: {سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم} [البقرة/6] بهمزة واحدة. انتهى. وهذا مذهب ابن النحاس، وجماعة منهم الزمخشري، نص عليه في «مفصله» وقال في «الكشاف»: إنها قد حذفت مع مدخولها في قوله تعالى: {ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين} [النمل/20] تقديره: أهو حاضر استتر عني أم كان من الغائبين؟ وأجاب ابن عصفور عما ورد في الكلام بأنه شاذ.
والبيتان من قصيدة لعمر ابن أبي ربيعة، وقبلهما:
ولما التقينا بالثنية سلمت
…
ونازعني البغل اللعين عناني
الثنية: كل فج في جبل يخرج إلى فضاء، ونازعني: جاذبني، ووصف البغل باللعين للذم، لأنه أراد أن يصرفه عن جهة حبيبته، واللعين: من يلعنه كل أحد والمشتوم، والتلاعن: التشاتم. وقوله: بدا لي .. الخ بدا: ظهر، والمعصم بكسر الميم: موضع السوار من اليد، وجمرت: رمت جمرات النسك في منى، والكف مؤنثة، قال صاحب «المصباح»: الكف من الإنسان وغيره أنثى، قال ابن الأنباري: وزعم من لا يوثق به أن الكف مذكر، ولا يعرف تذكريها من يوثق بعلمه، وأما قولهم: كف مخضب، فعلى معنى: ساعد مخضب، قال الأزهري: الكف: الراحة مع الأصابع، سميت بذلك لأنها تكف
الأذى عن البدن. انتهى. ولم تلحق التاء في خضيب، لأن فعيلًا إذا كان بمعنى مفعول وذكر موصوفه تمتنع التاء منه غالبًا، وروي:«وكف لها مخضوبة ببنان» فلا إشكال. والبنان: العقدة الأخيرة من كل إصبع، وقيل: الأصابع، الواحدة بنانه، قيل: سميت بنانًا لأن بها صلاح الأحوال التي يستقر بها الإنسان، لأنه يقال: ابن بالمكان إذا استقر، كذا في «المصباح» .
ومعنى تزيين الكف بالبنان إشارة إلى ما خص الله تعالى به النوع الإنساني من الأعضاء المتناسبة بالنسبة إلى سائر الحيوان، أو زينت بلطافة البنان، أو بمغايرة خضاب البنان في اللون خضاب الكف. وقوله: وإن كنت داريًا، الدراية: المعرفة المدركة بضرب من الحيل، ولهذا لا يقال في الله تعالى دار. وجملة ما أدري: جواب القسم، وكذا على رواية سيبويه، فإن اللام في «لعمرك» لام الابتداء للتأكيد، وعمرك: مبتدأ خبره محذوف تقديره: قسمي، وجملة ما أدري: جواب القسم، والفاء لمحض السببية، يعني: ذهلت عن عند الحصيات بسبب رؤيتي تلك المحاسن، وليس عاطفة، إذ لا تشريك، وجملة:«وإن كنت داريًا» معترضة بين ما أدري، وبين معموله المعلق بالاستفهام المقدر في بسبع، والمتبادر إلى الذهن أن إن وصلية لا جواب لها. يقول: ما أدري من الذهول عد الحصيات، وإن كنت من أهل الدراية بسائر الأمور.
ووقع في رواية العيني: «ولو كنت داريًا» بـ «لو» بدل «إن» ، وهو بمعنى ما تقدم.
ومع ظهور كون إن للوصلية لم يذكره السيوطي، وإنما قال: يحتمل أن تكون إن نافية، فيكون تأكيدًا للجملة قبلها، ويحتمل أن تكون مخففة من الثقلية، أي: وإني كنت قبل ذلك من أهل الدراية، حتى بدا لي ما ذكر فسليتها، وهذا الاحتمال عندي أظهر، هذا كلامه.
وفي كلا الاحتمالين نظر: أما الأول، فلأنه لا وجه للحلف على شيء لم يعرفه في الزمن الحالي، ولا الزمن الماضوي في هذا المقام، وإنما المراد أني مع كوني من أهل المعرفة، ذهلت عن عد الحصيات، بسبب اشتغال حواسي بتلك المحاسن.
وأما الثاني، فلأن «إن» المخففة تلزم اللام الفارقة، فكان يلزمه أن يقول: وإن كنت لدرايا.
وقوله: بسبع رمين
…
الخ، الجمر كالتمر: اسم جنس يطلق على القليل والكثير، والواحد جمرة، وهي ثلاث الأولى: الجمرة التي تلي مسجد الخيف، والثانية: الجمرة الوسطى، والثالثة: جمرة العقبة، وكل واحدة ترمى بسبع حصيات، وإنما يحصل الاشتباه في الرمي بسبع أو بثمان عند الجمرة الأولى والوسطى، قال صاحب «المصباح»: وكل شيء جمعته فقد جمرته، ومنه الجمرة، وهي مجتمع الحصى بمنى، فكل كومة من الحصى جمرة والجمع جمرات، وجمرات منى ثلاث، بين كل جمرتين [نحو] غلوة سهم. انتهى.
والنون في «رمين» ضمير النسوة، أراد محبوبته وصواحبها، وقال الدماميني: الضمير عائد على البنان، أو إلى المرأة وصواحبها، وقال ابن الملا الحلبي في شرحه: أتى بضمير الوجه للتعظيم، وفيه أن المعهود عند قصد التعظيم الواو، كما قال تعالى:{وقال لأهله امكثوا} [طه /10] وقال كعب بن زهير:
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
على أن في تعظيم الغائب منعًا من الرضي والتفتازاني وغيرهما بيناه مفصلًا في «حاشية شرح بانت سعاد» عند الكلام على المصراع المذكور. وروى الزبير بن بكار في أنساب قريش» البيت هكذا:
فوالله ما أدري وإني لحاسب
…
بسبع رميت الجمر أم بثمان
بضمير المتكلم في «رميت» ، قال السيوطي: وهذا الوجه أوجه بلا شك، فإن الإخبار بذهوله عن فعله لشغل قلبه بما رأى، أبلغ من الإخبار بذهوله عن فعل الغير، وفيه سلامة من التأويل المذكور، وقال ابن الملا في شرحه: هذا في حيز المنع، إذا ليس في ذهول الإنسان عن فعل نفسه، وإن كان ذا خطر كثير أمر، كيف وإن وقوعه أكثر من أن يحصى! بخلاف ذهول الإنسان عن فعل الغير المتصدي لمراقبته شهودًا أو غيبة، فإن العادة تقضي، والمذهب الغرامي يوجب، أن من تصدى لمراقبة فعل الأحباب كان أبعد من أن يذهل عنه، فإذا ذهل عنه كان في حيز التعجب، هذا كلامه. أقول: كان الشاعر وحبيبته في موقف عبادة، وهي رمى الجمرات، ولم نجر عادة في عد حصيات الغير لا من عاشق ولا من غيره، وإنما محل التعجب أن يكون الإنسان في ذلك المقام متوجهًا إلى الله تعالى بالعبادة وترك ما سواه، فلشدة اشتغال باله بها ذهل عن عد الحصيات، والله تعالى أعلم.
وعمر ابن أبي ربيعة هو عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، واسمه: حذيفة القرشي المخزومي، وهو من طبقة جرير والفرزدق وعبد الله بن قيس الرقيات، لم يكن في قريش أشعر منه، وهو كثير الغزل والنوادر، ولد ليلة الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، ومات سنة ثلاث وتسعين وترجمته في «الأغاني» طويلة.
وأورد بعده، وهو الانشاد السابع:
(7)
طر بت وما شوقًا إلى البيض أطرب
…
ولا لعبًا مني وذو الشيب يلعب
وقال: أراد: أو ذو الشيب يلعب؟ وعده ابن عصفور من قبيل الضرورة كما تقدم، وقال الدماميني: هو استئناف على تقدير سؤال، كأنه قيل: ولم لا نلعب؟ فقال: أو ذو الشيب يلعب! على جهة الإنكار، فأشار إلى علة عدم اللعب، وهو كونه ذا شيب.
والقائل أن يقول: لا يتعين هذا شاهدًا، على حذف الهمزة، لجواز أن يكون مما حذف فيه حرف النفي للقرينة، أي: وذو الشيب لا يلعب. انتهى. أقول: حذف لا النافية إنما يجوز في جواب القسم، وأما في غيره فإنما سمع في بيت نادر، وأما حذف «ما» النافية وأختها «إن» فلم يسمع، قال ابن الخباز: ما رأيت في كتب النحو إلا حذف لا، وقال لي شيخنا يعني ابن إياز: لا يجوز حذف ما، لأن التصرف في «لا» أكثر من التصرف في «ما» انتهى. ومع الندرة فلا ينبغي أن يخرج عليها شيء، قال ابن وحيي، ونعم ما قال: هذا احتمال بعيد، والإثبات والنفي ضدان، فإذا اعتبر مثل هذه الاحتمالات ارتفع الأمان عن اللسان، ولا يصلح الأخذ بما صدر من المكلفين من العبارات، ولا يمكن أخذ الأحكام الشرعية من الأحاديث النبوية والآيات القرآنية! وحذف حرف النفي مع وجود القرينة الظاهرة، وإن كان واردًا لكنه ليس مثل حذف حرف الاستفهام، لندور الأول وكثرة الثاني، حتى قيل: تقدير همزة الاستفهام مما يجري فيه القياس، انتهى كلامه. وأجاب الشمني بأن المصنف لم يستشهد بالبيت [على حذف
الهمزة] وإنما مثل به له، والمثال لا يقتضى عدم احتماله غير الممثل له، بخلاف الشاهد فإنه يقتضي ذلك والفرق بينهما أن المثال جزئي ذكر لإيضاح قاعدة، والشاهد جزئي ذكر لإثباتها، انتهى. وهذا الجواب فيه نظر فإن صريح كلام المصنف أنه شاهد كالذي قبله، فإنه في صدد الاستدلال لا التمثيل، وما أبداه من الفرق بين الشاهد والمثال صحيح في نفسه، ولا فائدة فيها هنا، إذ ما أورد على الأول وارد عليه، فيقال: إنه لا يتعين مثالًا، لاحتماله غير الممثل له، والفرق الأول إنما يصحح المثالية ولا يعنيها، والكلام في تعيين المثالية حيث انتفى تعين الشاهدية.
ونقل السيوطي عن شارح «السبع الهاشميات» أنه قال: هذا خير وليس باستفهام، والمعنى: ولم أطرب شوقًا إلى البيض، ولا طربت لعبًا مني وأنا ذو الشيب، وقد يلعب ذو الشيب ويطرب، وإن كان قبيحًا به، ولكن طربي إلى أهل الفضائل والنهى، وهذا كما قال الكميت في موضع آخرك
قد تفتن الكاعب الربحلة ذا الشيب ويغتر صيده اليلب
يقول: فالشيخ يغتر صيده، وإن كان لا ينبغي له، انتهىز
والبيت مطلع قصيدة للكميت بن زيد، مدح بها آل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذه أبيات منها. قال الزجاجي في كتاب «الأخبار والفوائد والأشعار»:
أخبرنا أبو الفضل الضرير النحوي قال: أخبرنا السياري عن الرباشي قال: قال أبو يحيى محمد بن كناسة الأسدي: قدم الفرزدق الكوفة، فاستقبله الكميت عند مسجد ابن أقيصر الأسدي، والفرزدق راكب بغلة، فقبض الكميت على عنانها وقال: يا أبا فراس، قد قلت قصيدة أحببت أن تسمعها مني، قال: هات، فأنشأ يقول:
طر بت وما شوقا إلى البيض أطرب
…
ولا لعبًا مني وذو الشيب يلعب
فقال الفرزدق: فإلى أي شيء طربت؟ فقال الكميت:
ولم تلهني دار ولا رسم منزل
…
ولم يتطربني بنان مخضب
فقال: ويحك! فأي شيء ألهاك وأي شيء أطربك؟ فقال الكميت:
ولا أنا ممن يزجر الطير همه
…
أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية
…
أمر سليم القرن أم مر أعضب
فنزل الفرزدق عن بغلته، واخترط سيفه ثم قال: والله لئن لم تأت بعذر لاملأنه منك! وكان يدل عليه للقرابة التي بينهما، فقال الكميت:
ولكن إلى أهل الفضائل والتقى
…
وخير بني حواء والخير يطلب
إلى النفر البيض الذين بحبهم
…
إلى الله فيما نابني أتقرب
بني هاشم رهط النبي محمد
…
بهم ولهم أرضى مرارًا وأغضب
فأغمد الفرزدق سيفه وقال: يا ابن أخي! لقد ذهبت مذهبًا عظيمًا، وطربت إلى مطرب ما نطرب نحن إليه، وإنما نطرب إلى هذه الدراهم، فقل بملء فيك فإنك أشعر العرب! هذا آخر ما أورده الزجاجي.
والطرب: خفة تصيب الإنسان لشدة حزن أو سرور، وكلاهما جائز هنا، وشوقًا: مفعول له قدم على عامله وهو أطرب، وبه رد أبو حيان على من منع تقمه، والبيض: النساء الحسان، ورسم المنزل: ما بقي من آثاره لاصقًا بالأرض، وتطر به بمعنى أطربه، والزجر: العياقة، وهو ضرب من التكهن، تقول: زجرت أنه يكون كذا، وهمه: فاعل يزجر، والطير: مفعوله، والسانح: ما مر من اليسار إلى اليمين من طير أو ظبي، والبارح عكسه، والعرب تتيمن بالسانح وتتشاءم بالبارح. والأعضب بمهملة فمعجمة: المكسور القرن.
وقد استشهد الرضي بعدة أبيات من هذه القصيدة، وأول موضع أورد فيه منها باب الإضافة، وهو الشاهد الثاني بعد الثلاثمائة، وقد بسطنا الكلام هناك، وذكرنا ترجمته. وولد الكميت في سنة ستين، وتوفي رحمه الله تعالى في سنة ست وعشرين ومائة.
وأورد بعده، وهو الانشاد الثامن:
(8)
ثم قالوا تحبها قلت بهرا
…
عدد الرمل والحصا والتراب
وقال: اختلفوا فيه فقيل: أراد أنحبها؟ وقيل: إنه خبر، أي: أنت تحبها، ومعنى: قلت بهرًا، قلت: أحبها حبًا بهرني بهرًا، أي: غلبني، وقيل: معناه عجبًا، ومثله كلام ابن الشجري في المجلس الرابع والثلاثين من «أماليه» ، وقال المبرد في «الكامل»: قال قوم: أراد بقوله: تحبها، الاستفهام، كما قال امرؤ القيس:
أحار ترى برقًا أريك وميضه
فحذف ألف الاستفهام، وهو يريد: أترى برقًا؟ قالوا: أراد: أنحبها؟ وهذا القول خطأ فاحش، إنما يجوز حذف الألف إذا كان في الكلام دليل عليها، وسنفسر هذا ونذكر الصواب منه، إن شاء الله تعالى. قوله: تحبها، إيجاب عليه غير استفهام، إنما قالوا: أنت تحبها، أي: قد علمنا ذاك، فهذا معنى صحيح
لا ضرورة فيه، وأما قول امرئ القيس فإنما جاز، لأنه جعل الألف التي تكون في الاستفهام للنداء تنبيهًا، واستغنى بها، ودلت على أن بعدها ألفًا منوية، فحذفت ضرورة، لدلالة هذه عليها، كما قال التميمي، وهو اللعين المنقري:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريًا
…
شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
يريد: أشعيت، فدلت «أم» على ألف الاستفهام. وقال عمر ابن أبي ربيعة:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا
…
بسبع رمين الجمر أم بثمان
مثل ذلك، وبيت الأخطل فيه قولان، وهو:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط
…
غلس الظلام من الرباب خيالا
قال: أراد أكذبتك عينك، كما قيل فيما قبله، وليس هذا بالأجود، ولكنه ابدأ متيقنًا ثم شك، فأدخل أم كقولك: إنها لإبل، ثم تشك فتقول: أم شاء يا قوم، انتهى كلام المبرد. وكتب عليه في هامشه أبو الوليد أبو علي الوقشي: قوله: وقالوا أراد: أتحبها؟ وهذا القول خطأ، بل قوله هذا هو الخطأ، وما حكوه من حذف الألف دون دليل في اللفظ عليها إلا بما يعطيه معنى الكلام معروف لهم، قال حضرمي بن عامر الأسدي يرد على من غيره أنه فرح بموت أخيه وميراثه:
أفرح أن أرزا الكرام وأن
…
أورث ذودا شصائصا نبلا
وكتب أيضًا على هامش نسخته ابن السيد البطليوسي: أكثر ما تحذف ألف الاستفهام إذا كان بعدها أم، لأن أم تدل عليها، فإذا لم تكن في الكلام لم يجز عند أكثر النحويين، وهذا هو الذي أراد أبو العباس المبرد، وقد جاء حذفها في الشعر دون ذكر أم، قال الشاعر: أفرح أن أرزأ الكرام
…
البيت، انتهى. ثم قال المبرد: وقوله: بهرًا، يكون على وجهين، أحدهما: حبًا بهرني بهرًا، أي: ملأني، ويقال للقمر ليلة البدر: باهر، أي: يبهر النجوم، أي: يلمؤها، كما قال ذو الرمة:
كما يبهر البدر النجوم السواريا
وقال الأعشى:
حكمتموه فقضى بينكم
…
أبلج مثل القمر الباهر
والوجه الآخر: أن يكون أراد بهرًا لكم، أي: تبًا لكم حيث تلومونني على هذا، كما قال ابن ميادة:
تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي
…
بجارية بهرًا لهم بعدها بهرا
انتهى. وكتب أبو الوليد في هامش نسخته: قوله بهرًا، يكون على وجهين، قال ابن دريد: يقال: بهرًا لك، كأنه يدعو عليه بالغلبة، قال الشاعر:
ثم قالوا تحبها قلت بهرًا
…
البيت.
وقال الأصمعى: كنت أحسب قوله بهرًا من الدعاء عليه، فسمعت رجلًا من أهل مكة يقول: معناه جهرًا لا أكاتم، وقوله: يملؤها في النجوم ليس بشيء، ولا يصح له معنى معقول، وإنما هو بمعنى غلب نوره نورها، فمحا ضوؤه صغارها وخفياتها أو كاد، وبهذا فسره ابن دريد فقال: بهره الأمر يبهره بهرًا: غلبه، ومنه قيل: بهر القمر النجوم، إذا غلبها بنوره. وكتب ابن السيد البطليوسي: قال ابن الأعرابي: بهرًا بمعنى عجبًا، انتهى.
وكتب الإمام مغلطاي الحافظ في هامش إحدى نسختيه: قال أبو بكر ابن السراج في «الاشتقاق» : وقالوا: «بهر» في الليالي البيض، لأن القمر يبهر فيهن ظلمة الليل، ويقال: بهرًا له، أي: عجبًا له، قال أبو بكر: هذا يقال أحسبه عن الشيء يغلب على الإنسان الجهالة به، فلا يدري ما سببه، انتهى.
وأنشد الجوهري هذا البيت في «الصحاح» وفسر بهرًا بـ «عجبا» ، وجزم به ابن مالك في «شرح التسهيل» وجعله مصدرًا لا فعل له، وأورد البيت شاهدًا على نصبه
بعامل لازم الإضمار، لأنه بدل من اللفظ بفعل مهمل لم يوضع.
تتمة: أبو عمرو بن العلاء أيضًا ممن يمنع حذف همزة الاستفهام، قال المرزباني في كتاب «الموشح»: حدثني عبد الله بن محمد قال: أخبرنا إسحاق النخعي قال: حدثني ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: قال أبو عمرو بن العلاء: عمر ابن أبي ربيعة حجة في العربية، وما تعلق عليه إلا بحرف واحد، قوله: ثم قالوا تحبها
…
البيت، وكان ينبغي أن يقول: أتحبها؟ لأنه استفهام، قال: وقوله: بهرًا، أي: تعسًا. وحدثني أحمد بن عبد الله، وعبد الله بن يحيى العسكريان قال: حدثنا الحسن بن عليل قال: حدثنا علي بن إسماعيل العدوي قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن الأصمعي قال: كان أبو عمرو بن العلاء يقول: عمر ابن أبي ربيعة حجة في العربية، وما تعلق عليه بشيء غير حرف واحد، قال أبو عمرو: وله وجه إن أراد الخبر، ولم يرد الاستفهام، وهو قوله: ثم قالوا: تحبها، ولم يقل: أتحبها، وقد روى الرواة أنه إنما قال:«قيل لي هل تحبها قلت بهرًا» . وحدثني أبو عبد الله الحكيمي قال: حدثنا ثعلب قال: قال الأصمعي: قال أبو عمرو بن العلاء: عمر ابن أبي ربيعة حجة في العربية، وما تعلق عليه بشيء غير حرف واحد، وله وجه، قوله في الاستفهام: ثم قالوا تحبها، ولم يقل: أتحبها؟ قال ثعلب: وقال ابن الأعرابي: قوله بهرًا، بهركم الله! أتظنون أني ليس كذا.
قال: وقال غيره: عجبًا لكم كيف تظنون بي غير هذا! وأخبرني الصولي قال: حدثنا القاسم بن إسماعيل قال: حدثنا التوزي عن أبي عمر الأسدي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: عمر ابن أبي ربيعة حجة في العربية، ما أخذ عليه شيء إلا قوله: ثم قالوا: تحبها، وله فيه عذر إن أراد الخبر لا الاستفهام [كأنه قال]: أنت تحبها، على وجه الإخبار، فوكد هو إخبارها بقوله، فهذا حسن.
وبهرًا يجوز أن يكون أراد: نعم حبًا بهرني بهرًا، ويكون بمعنى عقرًا وتعسًا، دعاء عليهم إذ جهلوا من حبه لها ما لا يجهل مثله، وأنشد أبو عمرو:
لحا الله قومي إذ يبيعون مهجتي
…
بجارية بهرًا لهم بعدها بهرًا
قال أبو عمرو: ويكون بهرًا بمعنى حبًا ظاهرًا، من قولهم: قمر باهو.
وحدثني علي بن عبد الرحمن قال: أخبرني يحيى بن علي بن المنجم عن أبيه عن الأصمعي قال: قال أبو عمرو بن العلاء: عمر ابن أبي ربيعة حجة في العربية، وما تعلق عليه إلا بهذا الحرف الواحد، قال أبو عمرو: وله وجه إن كان أراد الخبر، ولم يرد الاستفهام، لأنه إن كان أراد الاستفهام فكان ينبغي أن يقول: أتحبها؟ قال علي بن يحيى، وقال إسحاق الموصلي: بهرًا، أي: عقرًا وتعسًا، دعاء عليهم. وقال الأصمعي: بهرًا، أي: ظاهرًا، من قولهم: القمر الباهر، وأخبرني محمد بن يحيى قال: سئل ثعلب عن بهرًا فقال: بهرًا، أي: عجبًا، وقال غيره: بهركم الله، وقال بعضهم: هو من الانبهار، والانبهار أن تقول: فعلت بفلانة، ولم تفعل. هذا كلام المرزباني، ونقله برمته الشريف المرتضى في «أماليه» .
والبيت من قصيدة عدتها خمسة عشر بيتًا، نقلها جماعة منهم محمد بن المبارك بن محمد بن ميمون، أوردها في كتابه «منتهى الطلب من أشعار العرب» عندما أورد المختار من شعره، ومنهم الزبير بن بكار أنشدها في كتابه «أناب قريش»
وقال: كتب بها إلى الثريا بنت عبد الله بن الحارث العبشمية لما صرمته، ومنهم صاحب «الأغاني»: ومنهم السيد المرتضى ذكرها في «أماليه» : وأورد منها المبرد، في «الكامل» أحد عشر بيتًا، وهي:
قال لي صاحبي ليعلم ما بي
…
أتحب القتول أخت الرباب
قلت وجدي بها كوجدك بالما
…
إذا ما منعت برد الشراب
من رسولي إلى الثريا فإني
…
ضقت ذرعًا بهجرها والكتاب
سلبتني مجاجة المسك عقلي
…
فسلوها بما يحل اغتصابي
أزهقت أم نوفل إذ دعتها
…
مهجتي ما لقاتلي من متاب
حين قالت لها أجيبي فقالت
…
من دعاني قالت أبو الخطاب
فاستجابت عند الدعاء كما لبى
…
رجال يرجون حسن الثواب
أبرزوها مثل المهاة تهادى
…
بين خمس كواعب أتراب
وهي ممكورة تحير منها
…
في أديم الخدين ماء الشباب
ثم قالوا تحبها قلت بهرًا
…
عدد النجم والحصى والتراب
دمية عند راهب ذي اجتهاد
…
صوروها فيب جانب المحراب
قوله: أتحب القتول: هي صفة مشبهة، أي: التي شأنها قتل العشاق، وزعم السيوطي أن قتول علم امرأة منقول من الوصف، يقال: امرأة قتول،
أي: قاتلة، قال شارح «المغني» ابن الملا: وهذا إنما يتم ها إذا ثبت أن لها علمين: الثريا والقتول، و «أل» على هذا للمح الوصف، قال المبرد: قوله: قلت وجدي بها
…
البيت معنى صحيحو وقد اعتوره الحكماء وكلهم أجاد فيه، وقوله: إذا منعت برد الشراب، يريد: عند وقت الحاجة إليه، وبذلك صح المعنى. ويروى عن علي بن أبي طا لب رضي الله تعالى عنه أن سائلا سأله فقال: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فقال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ. وقال آخر:
لئن كان برد الماء حران صاديًا
…
إلي حبيبًا إنها لحبيب
وقال القطامي:
فهن ينبذن من قولٍ يصبن به
…
مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
وقوله: ضقت ذرعًا .. الخ، أي: صبرًا وطاقة، وأصل الذرع بسط اليد، وهو تمييز محول عن الفاعل، وقوله: والكتاب، الواو: للقسم، والكتاب: القرآن الكريم، وقوله: سلبتني مجاجة المسك: فاعل سلبتني، وعقلي مفعوله، وروي بدله «لبي» لمعناه، وقوله: بما يحل، ما: استفهامية، وثبت ألفها، والكثير حذفه، وقوله: أزهقت .. الخ، أي: أبطلت وأذهبت، ومهجتي: تنازعه أزهقت الطالب للمفعول، ودعتها الطالب للفاعل، والمتاب: التوبة، والمصدر إذا كان بزيادة الميم من فعل يفعل من باب نصر، فهو على مفعل، قال تعالى:{فإنه يتوب إلى الله متابا} [الفرقان/71].
وأبو الخطاب: كنية عمر ابن أبي ربيعة، وقوله: أبرزوها مثل المهاة، هي البقرة في هذا الموضع، وتشبه بالبقرة الوحشية لحسن عينيها ولمشيها، وتكون المهاة البلورة في غير هذا الموضع، قاله المبرد. وتهادى: أصله تتهادى بتاءين من التهادي، وهو التمايل في المشية، وقال المبرد: قوله تهادى: يهدي بعضها بعضًا في مشيتها، ومشية البقرة تستحسن، وقوله: بين خمس، صوابه: بين ست، لأن بعده:
بين أسماء والخلوب وريا
…
وسليمى وزينب والرباب
وقوله: الكواعب جمع كاعب، وهي التي قد كعب ثديها للنهود، والأتراب: المستويات في السن والولادة، جمع ترب، بكسر أوله، وقوله: وهي ممكورة، قال المبرد: هي المكتنزة، وروى بعضهم:«وهي مكنونة» أي: مستترة في الخباء ونحوه، وتحير: اجتمع مترددًا، وأديم الخدين: جلدهما، والمراد بماء الشباب: نضارته ورونقه، وقوله: عدد النجم: منصوب بـ «أحبها» المقدر، أو صفة لبهرًا على أنه مصدر مؤكد لبهوني، قال المبرد: فيه قولان، أحدهما: أنه أراد بالنجم النجوم، فوضع الواحد في موضع الجمع، لأنه للجنس، كما تقول: أهلك الناس الدرهم والدينار، والوجه الآخر: أن يكون النجم ما نجم من النبتو وهو ما لم يقم على ساق، واليقطين: ما انتشر على وجه الأرض، قال الله تعالى:{والنجم والشجر يسجدان} [الرحمن /6] وقوله: دمية، أي: هي كدمية – بضم الدال – الصورة من العاج، وقوله: في جانب المحراب، هو صدر المجلس، وأشرف موضع فيه، وروى الجاحظ في كتاب «المحاسن والأضداد»: في «مذبح المحراب» . والمذبح، بالذال المعجمة بعدها باء موحدة فحاء مهملة كجعفر، قال صاحب «الصحاح»: المذابح: المحاريب،
سميت بذلك للقرابين، قال السيوطي: فإضافته بيانية، وفي «القاموس»:
المذابح: المحاريب والمقاصير وبيوت كتب النصارى.
قال السيد المرتضى في «أماليه» : الثويا هذه التي عناها عمر أموية، وقد اختلف في نسبها فقيل: إنها الثريا بنت عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر ابن عبد شمس، وقيل: إنها بنت علي بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر، وذكر الزبير بن بكار أنها بنت عبد الله بن محمد بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر، وأنها أخت محمد بن عبد الله المعروف بأبي جراب العبلي.
وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني بسنده إلى مؤمن بن عمر بن أفلح قال: أخبرني بلال بن أبي عتيق في حديث طويل لعمر ابن أبي ربيعة مع الثريا، اختصرناه وأوردنا بعضه قال: لما سمع ابن أبي عتيق قول عمر: «من رسولي إلى الثريا» قال: إياي أراد وبي نوه، لا جرم، والله لا أذوق أكالًا حتى أشخص إليه لأصلح بينهما، فاكترى راحلتين من بني الديل وأغلى لهم، فقلت له: استوضعهم شيئا أو دعني أماكسهم، فقد اشتطوا! فقال لي: ويحك! أما علمت أن المكاس ليس من خلق الكرام، وركب إحداهما، وركبت الأخرى، فسار سيرًا شديدًا فقلت له: ارفق على نفسك فإن ما تريد لا يفوتك، فقال: ويحك «أبادر حبل الود أن يتقضبا» وما ملح الدنيا إلا أن يتم الصدع بين عمر والثريا، فأتينا مكة ليلًا غير محرمين، فدق على عمر بابه، فخرج إليه فسلم عليه، فما نزل ابن أبي عتيق عن راحلته، وقال لعمر: اركب أصلح بينك وبين الثريا، فأنا رسولك الذي سألت عنه. فركب معه فقدمنا الطائف، فقال ابن أبي عتيق للثريا: هذا عمر قد جشمني السفر من المدينة، فجئتك به معترفًا بذنب لم يجنه، معتذرًا من إساءتك إليه، فدعيني من التعداد والترداد، فإنه من الشعراء الذين يقولون
ما لا يفعلون، فصالحته أحسن صلح، وكررنا راجعين إلى المدينة، ولم يقم ابن أبي عتيق بمكة ساعة واحدة.
وفي الثريا يقول عمر أيضًا لما تزوجها سهيل بن عبد الرحمن المكتني بأبي الأبيض، وقيل: بل تزوجها سهيل بن عبد العزيز بن مروان:
أيها المنكح الثريا سهيلًا
…
عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت
…
وسهيل إذا استقل يمان
انتهى كلام الشريف المرتضى، قدس الله تعالى روحهز
وقد أورد الجاحظ هذه الحكاية في كتاب «المحاسن والأضداد» وصاحب كتاب «الأغاني» على غير هذا الأسلوب، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وترجمة عمر ابن أبي ربيعة تقدمت في الإنشاد السادس.
وأورد بعده، وهو الإنشاد التاسع:
(9)
أحياو أيسر ما قاسيت ما قتلا
…
والبين جار على ضعفي وما عدلا
وقال أحيا: فعل مضارع، والأصل: أأحيا، فحذف همزة الاستفهام، والواو للحال. تقدير الهمزة في هذا البيت لم يذهب إليه أحد غير ابن الحاجب قال في «أماليه»: يجوز أن يكون أحيا فعلًا مضارعًا حذف منه همزة الاستفهام للإنكار، وتقديره: أأحيا وأيسر ما قاسيت ما قتل؟ ! أي: كيف أحيا وهذه حالي! فيكون قوله: وأيسر ما قاسيت، جملة في موضع الحال، أو جملة معطوفة
قرر بها الجهة التي من أجلها أنكر الحياة ونفاها، لأنه إذا كان أيسر ما لاقاه قائلا كان غير حي. انتهى.
والمصنف وإن وافقه في تقدير همزة الاستفهام، لكنه خالفه في جعل الاستفهام للتعجب، ولهذا قال: والمعنى التعجب من حياته مع تحمله لأعباء الهوى، وصبره على النوى مع شدة جوره عليه، ولم يجعله للإنكار، لأن الاستفهام الإنكاري في معنى النفي، ومع نفي الحياة لا يلتئم قوله:«والبين جار على ضعفي وما عدلا» .
ولا جوز ابن الحاجب تقدير الهمزة في «أحيا» ، وجوز أن يكون «أحيا» أفعل التفضيل، ورأى أن المصراع الثاني لا يناسب الإنكار قال: قوله والبين جار على ضعفي يقوي الوجه الثاني، لأن الوجه الأول الذي أنكر فيه كونه حيًا لا يحسن أن يذكر بعده أن البين جار على ضعفه، وبالتقدير الثاني لا يلزم ذلك، لأنه لم يتعرض إلا لشدة ما قاساه، وأن غيره يهلك بأقله، لا أنه هلك، وإنما أشار فيه إلى صبره وقوته على ما لقيه. انتهى.
وغالب شراح شعر المتنبي حملوا أحيا على أنه خبر لا إنشاء، وهو الأجود، قال الواحدي: أخبر عن نفسه بالحياة مع أن أقل ما يقاسيه من شدائد الهوى قاتل، يقول: أقل وأهون ما قاسيت قاتل، وأنا مع ذلك أحيا! والفراق جار على ضعفي حين فرق بيني وبين أحبتي، وكنت ضعيفًا بمقاساة الهوى، ولم يعدل حين ابتلاني ببعدهم. انتهى كلامه.
وقال ابن الشجري في «أماليه» أحيا: فعل متكلم، والجملة التي هي أيسر وخبره في موضع نصب على الحال من المضر في «أحيا» ، أي: أعيش، وأقل ما قاسيت، وأهون ما قاسيت ما قتل غيري، أخبر بحياته في هذه الحال كالمتعجب، وحقيقة المعنى: كيف أعيش وأهون الأشياء التي قاسيتها في الهوى الشيء الذي قتل المحبين؟ ! انتهى كلامه، فأفاد رحمه الله تعالى أن المراد من الجملة الخبرية هنا التعجب، فإن الجمل الخبرية قد وردت كثيرًا لأغراض سوى
الإخبار، كإظهار التحزن وإظهار التحسر، قال الصفوي في «شرح الفوائد الغيائية»: وقال الأبهري: وقد يكون للتعجب والتعجيب والاستعطاف، أو للمجازاة بالسوء، إلى أن قال: وحيث لم يرد به الإخبار، فصرح العلامة بأنه مجاز، وسنحققه إن شاء الله تعالى. وأراد بالعلامة: سعد الدين التفتازاني.
وجوز ابن الحاجب أن يكون أحيا أفعل التفضيل، قال: ويجوز أن يكون أحيا من باب أفعل التفضيل، حذف المضاف إليه استغناء عنه بما عطف عليه مما شرك بينه وبينه فيه، كأنه قال: أحيا ما قاسيت وأيسر ما قاسيت، فحذف المضاف إليه من الأول استغناء عنه بالثاني، أو حذف المضاف إليه من الثاني استغناء عنه بالأول، ثم أخر ليعتمد الثاني عليه من حيث اللفظ، كما في قولك: نصف وربع درهم، ويكون مبتدأ خبره «ما قتل» إن كانت «ما» في: ما قاسيت، بمعنى الذي، على القول بأن أفعل التفضيل يكتسب تعريفًا بالإضافة، وعلى القول بأن المعرفة تتعين بتقدمها للابتداء وإن كانت مشتقة، أو يكون خبرًا مقدمًا على القول بأن المشتق يتعين للخبر وإن كان معرفة ومقدمًا، فإن كانت ما بمعنى شيء، فخبر مبتدأ باتفاق. وأما أحيا باعتبار المعنى، فيجوز أن يكون مأخوذًا من حي الشيء: إذا كانت فيه حياة، كأنه قال: أظهر شيء فيه حياة مما قاسيته يقتل، ويجوز أن يكون مبنيًا من: أحييته إذا جعلته حيًا، كأنه قال: أظهر شيء يحيا قاسيته يقتل، والمقصود يحصل من المعنيين جميعًا، هذا كلامه برمته، وتكلفه ظاهر، ولهذا قال شيخنا الشهاب الخفاجي: وأما كونه اسمًا تفضيليًا فركيك.
ونقل ابن الملا في شرحه عن ابن الحاجب ما لم يقله قال: وعن ابن الحاجب في «أماليه» وجهان آخران، أحدهما: أن يكون الكلام خبرًا، أي: أعيش والحال أن أيسر ما قاسيت أمات غيري، كأنه يشير بذلك إلى تجلده وصبره على شدائد الحب بالنسبة إلى غيره، وثانيهما: أن يكون أحيا أفعل التفضيل، وفي الكلام تقديم وتأخير وحذف مضاف إليه، والأصل: ما قتل أحيا ما قاسيت وأيسر ما قاسيت، ولا يخفى ما في هذا الثاني من التكلف، والتزام أن يوجه قوله:
ما قتل غيره أحيا ما قاساه، أي: أشد حياة، كما أنه أيسره وأسهله يجعل الحياة مجازًا عن لازمها الذي هو كون صاحبها مألوفًا لا ينفر عنه، فيرجع أحيا ما قاساه وأيسره إلى ما هو المألوف منه جدًا له، وما هو السهل منه جدًا عليه، نعم، إن جعل أحيا أفعل تفضيل من الإحياء على الشذوذ، حتى يكون المعنى: ما قتل غيري من الهوى أشدما قاسيته إحياء لي وأيسره علي، هان الخطب. انتهى كلامه، ومن خطه نقلت، أما الأول فلم يذكره ابن الحاجب، وأما الثاني فلم يقف على كلامه حتى يفهم مراده.
تتمة: قال ابن الشجري: إن قيل: كيف كرر المعنى في قوله: والبين جار على ضعفي وما عدلا، لأنه أثبت للبين الجور، وفى عنه العدل، والمعنى فيهما واحد؟ فالجواب: إن الجائر في وقت قد يعدل في وقت آخر، فيوصف بالجور إذا جار، وبالعدل إذا عدل، وشبيه بذلك في التنزيل قوله تعالى في وصف الأوثان:{أموات غير أحياء} [النحل/21] فوصفها بأموات قد دل على أنها غير أحياء، والمعنى: أنها أموات لا تحيى في مستقبل الأزمان، كما يحيى الناس عند قيام الساعة، انتهى. أقول: يحتمل أنه من العدول، أي: جار علي ولم يفارقني.
وهذا البيت مطلع قصيدة للمتبني قالها أول صباه، وهو من الشعراء المحدثين الذين لا يصح الاستشهاد بكلامهم، وإنما أورده المصنف لزيادة إفادة، ولأن العلماء قد بحثوا فيه فاقتدى بهم، وبحث معهم، وكذا الحال في سائر ما أورده في هذا الكتاب من شعره.
والمتبني هو: أبو الطيب أحمد بن الحسين الكوفي الكندي، ولد بالكوفة في سنة ثلاث وثلاثمائة إلى محلة تعرف بكندة، فيها ثلاثة آلاف بيت من بين رواء ونساج، واختلف إلى كتاب فيه أولاد أشراف الكوفة، فكان يتعلم دروس العاوية شعرًا ولغة وإعرابًا، وقال الشعر في صباه، واشتهر صيته في الآفاق،