الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فنعت لهم، وقال في نعته: إذا رأيتم إلاهة، حيي لكم الطرق - وإلاهة قارة - فلما أتوها نزل أصحابه وقالوا له: انزل، فقال أفنون: لا والله لا أنزل! فجعلت ناقته ترتعي عرفجًا فلدغتها أفعى في مشفرها، فاحتكت باقة والحية متعلقة بمشفرها، فلدغته في ساقه، فقال لأخ معه: احفر لي قبرًا فإني ميت! ثم رفع صوته بأبيات منها:
لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي
…
إذا هو لم يجعل له الله واقيا
كفى حزنًا أن يرحل الحي غدوة
…
وأصبح في أعلى إلاهة ثاويا
وقال الآمدي في «المؤتلف والمختلف» : ظالم بن معشر، وهو أفنون التغلبي من شعراء بني تغلب المشهوري، وهو القائل:
لعمرك ما يدري الفتى كيف يتقي .. البيتين
وأنشد بعده، وهو الانشاد السابع والخمسون:
(57)
ما تنقم الحرب العوان مني
…
بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمي
نقل هذه الحكاية ياقوت الحموي في ترجمة أبي العباس أحمد بن يحيى بن سيار الشهير بثعلب إمام الكوفيين من كتابه «معجم الأدباء» قال: قرأت بخط ابن أبي سالم الحسن بن علي قال: نقلت من خط الحسن بن علي بن مقلة، قال أبو العباس أحمد بن يحيى: ابتدأت النظر في العربية والشعر واللغة في سنة ست عشرة، ومولدي في سنة مائتين في السنة الثانية من خلاف المأمون، وحذفت العربية، وحفظت كتب الفن كلها حتى لم ييذ عني حرف منها، ولي خمس وعشرون سنة، وكنت أعنى بالنحو أكثر من عنايتي بغيره، فلما أتقنته أكببت على الشعر والمعاني والغريب، ولزمت أبا عبد الله ابن الأعرابي بضع عشرة سنة، إلى أن قال: وقال أبو العباس: كنت أسير إلى الرياشي لأسمع عنه، وكان تقي العلم، فقال لي يومًا وقد فرئ عليه:
ما تنقم الحرب العوان مني .. الأبيات الثلاثة
كيف تقول: بازل أو بازل أو بازل؟ فقلت: أتقول لي هذا في العربية إنما أقصدك لغير هذا! قال: يروى بازل بالرفع على الائتناف، وبازل بالخفض على الإتباع، وبازل بالنصب على الحال، فاستحيى وأمسك. انتهى.
ومنها يعلم أن المصنف نقل هذا الكلام بالمعنى، فأخل بقوله: إنما أصير إليك لهذه المقطعات والخرافات والمنقول، إنما هو قوله: إنما أقصدك لغير هذا، يعني: لأخذ شعر العرب ولغاتها وأيامها.
ومات ثعلب لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين ومائتين، في خلافة المكتفي بن المعتضد، وقد بلغ تسعين سنة وأشهرًا، كذا قال ياقوت.
والرياشي: قال السيرافي: هو أبو الفضل عباس بن الفرج مولى محمد بن
سليمان بن علي الهاشمي، ورياش رجل من جذام، كان أبو عباس عبدًا له، فبقي نسبه إليه، وكان عالمًا باللغة والشعر، كثير الرواية عن الأصمعي، وروى أيضًا عن غيره، وقد أخذ عنه المبرد وابن دريد. مات سنة سبع وخمسين ومائتين بالبصرة، قتله الزنج، كذا في «تحفة الأديب في نحاة مغني اللبيب» للإمام السيوطي ومن خطه نقلت. وهذه الأبيات الثلاثة أوردها ابن هشام في غزوة بدر الكبرى من «السيرة» عن ابن إسحق لأبي جهل لعنه الله تعالى، قال: وأقبل أبو جهل يؤمئذ يرتجز وهو يقاتل، قال ويقول:
ما تنقم الحرب العوان مني .. الأبيات الثلاثة
وروى ابن هشام بسنده إلى ابن عباس، وعبد الله بن أبي بكر أنهما قالا: قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة: جعلت أبا جهل من شأني، فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أظنت قدمه بنصف ساقه، وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذنتي وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت بها عليها حتىطرحتها. قال ابن إسحق: ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمن عثمان، ثم مر بأبي جهلو وهو عقير، معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته، فتركه وبه رمق، وقاتل معوذ حتى قتل، فمر عبد الله بن مسعود بأبي جهل حين أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يلتمس في القتلى، قال عبد الله بن مسعود: فوجدته بآخر رمق فعرفته، فوضعت رجلي على عنقه، ثم قتلت له: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبماذا أخزاني، أعار على رجل قتلتموه؟ ! أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ قلت: لله ولرسوله. قال: ثم احترزت رأسه، ثم جئت به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقوله: ما تنقم، ما: استفهامية إنكارية منصوبة المحل بتنقم، وتنقم بمعنى تكره، قال صاحب «المصباح»: نقمت عليه أمره، ونقمت منه نقمًا، من باب ضرب ونقومًا، ونقمت أنقم من باب تعب لغة: إذا عبته وكرهته أشد الكراهة لسوء فعله، وفي التنزيل:(وما تنقم منا)[الأعراف/126] على اللغة الأولى، أي: وما تطعن فينا وتقدح، انتهى. والمعنى: أي شيء تكره الحرب مني؟ أي: ما تكره مني شيئًا لما أني موف لها حقها. كذا قالوا، والجيد أن يكون من نقمت منه من باب ضرب بمعنى: انتقمت وعاقبت، والمعنى: لم تؤثر الحرب في، ولم تقدر على الانتقام مني فإني جلد كامل القوى، فهذا الكلام أليق بمن يثق بنفسه ويفتخر بكمال شجاعته.
وقيد الحرب بالعوان مبالغة بشجاعته وإظهارًا لوفور بصيرته بالحرب، فإن من حارب ابتداء، ولم يكن سبق منه مقاتلة، يكون غرًا غير متبصر بأحوال الحرب، فإذا حارب ثانيًا كان ذا دربة وبصيرة بها، فلا يهابها ويخاتل قرنه بالطعان والدفاع. والعوان: المحاربة الثانية، قال صاحب «الصحاح»: العوان من الحروب: التي قوتل فيها مرة، كأنهم جعلوا الأولى بكرًا.
وقال ابن الأثير في «النهاية» : ومنه حديث علي بن أبي طالب: بازل عامين حديث سني. والبازل من الإبل: الذي تم له ثماني سينين ودخل في التاسعة، وحينئذ يطلع نابه وتكمل قوته، ثم يقال له بعد ذلك: بازل عام وبازل عامين، يقول: أنا مستجمع الشباب مستكمل القوة. انتهى. ومعنى بازل عامين: مر عليه بعد بزوله عامان، فهو متناهي القوة.
وروى ابن دريد في «الجمهرة» : «مخلف» بدل بازل، قال: يقال للجمل بعد بزوله بعام أو عامين: مخلف، قال أبو جهل:
ما تنقم الحرب العوان مني
…
مخلف عامين حديث سني
انتهى. وقال الأزهري في «التهذيب» : والإخلاف: أن يأتي على البعير البازل سنة بعد بزوله، فيقال: بغير مخلف ومخلف عامين، وكذلك ما زاد. انتهى. والسن: العمر، وحداثة السن: الشباب وأول العمر.
وقول المصنف: يروى البيت بالرفع على الاستئناف، يريد أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: أنا بازل، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًا واستئنافًا بيانيًا. وقوله: وبالخفض على الإتباع، أي: بإبداله من ياء المتكلم في مني، وهذا إنما يتمشى على مذهب الأخفش، بخلاف الجمهور، فإنهم يشترطون للإبدال من ضمير الحاضر بدل كل، الإحاطة والشمول، كقوله تعالى:{تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا} [المائدة/114] وقوله: وبالنصب على الحال، أي: من ياء المتكلم أيضًا.
وهذه الوجوه تجري أيضًا في قوله: حديث سني. وكذلك تجري في مخلف بدل بازل. وإذا نون «حديث» يكون سني مضافًا للياء فاعلًا لحديث، لاعتماده على المبتدأ المقدر، ويكون حديث خبرًا بعد خبر. وقولهك لمثل هذا، أي: القتال والحراب، ولدتني أمي، يريد: لما كان مآل أمري إلى هذا فكأنها ولدته له، كقوله تعالى:{فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنا} [القصص/8]، وقال الزمخشري في «الفائق»: قال سعد بن أبي وقاص: رأيت عليًا كرم الله تعالى وجهه يوم بدر وهو يقول:
بازل عامين حديث سني
…
سنحنح الليل كأني جني
لمثل هذا ولدتني أمي
وقال السيوطي: أخرج ابن عساكر في «تاريخه» من طريق مصعب بن سعد
عن أبيه سعد بن أبي وقاص قال: لقد رأيت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بارزًا يوم بدر، فجعل يحمحم كما يحمحم الفرس ويقول:
بازل عامين حديث سني
…
سنحنح الليل كأني جني
لمثل هذا ولدتني أمي
فما رجع حتى خضب بسيفه دمًا. ففي بازل على هذه الرواية لا تجري الوجوه المذكورة، قال ابن الحنبلي: إلا أن يكون علي قال ذلك على أنه لغيره، وأن قبله:
ما تنقم الحرب العوان مني
إلا أنه تركه وحكى ما بعده كما هو، والظاهر – إن صحت الروايتان – أنه من التوارد.
ورأيت في ديوان الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه نسق الأبيات هكذا:
قد عرف الحرب العوان أني
…
بازل عامين حديث سني
سنحنح الليل كأني جني
…
أستقبل الحرب لكل فن
معي سلاحي ومعي مجني
…
وصارم يذهب كل ضغن
أقصي به كل عدو عني
…
لمثل هذا ولدتني أمي
ونقل شارحه الفاضل المدقق حسين الميبدي عن الحافظ إسماعيل أن هذه الأبيات قالها الإمام يوم بدر.
والسنحنح، بفتح السين وفتح النونين وسكون الحاء الأولى: السهران، قال ابن الأثير في حديث علي:
سنحنح الليل كأني جني
أي: لا أنام الليل فأنا متيقظ أبدًا، وروي «سمعمع» أي: سريع خفيف، وهو في وصف الذئب أشهر، وإضافتها إلى الليل للملابسة والتأكيد، وقد أوضح المراد منه بقوله: كأني جني، على ما جرت عليه عادة العرب من زعمهم أن الجن إنما تسرح ليلًا، ولأنه يفترس ما يراه، ومن يراه ينخلع قلبه ويدهش من شدة الخوف.
وأورد الحسن السكري في أواخر شعر هذيل مثل هذا الرجز قال: خرجت بنو صاهلة من الليل، فأدركهم الطلب وفيهم رجل من بني ظفر يقال له كليب، فقال:
أنا كليب ومعي مجني
…
بازل عامين حديث سني
أضرب رأس البطل المعن
…
حتى يميطوا في الخلاء عني
لمثل هذا ولدتني أمي
وقال: المعن، بكسر الميم وفتح العين المهملة وتشديد النون: الذي يعترض للبلاء والشر والبغي، ويميطوا، يتنحوا في خلاء الأرض. انتهى. فإن كان قائل هذا جاهليًا فهو السابق، وإن كان إسلاميًا فهو متبع.
ورأيت في «ربيع الأبرار» للزمخشري: تزوج رجل امرأة، فلما دخل عليها أخذ يقبلها ويلاعبها، فقالت:
ليس لهذا ولدتني أمي
…
والله لا تمسكني بضمي
ولا بتقبيلي ولا بشمي
…
إلا بزعزاع يسلي همي
لمثل هذا ولدتني أمي
وقول المصنف: إنما أصير إليك لهذه المقطعات والخرافات، أي: لسماع هذه المقطعات وروايتها عنك، لا لأخذ وجوه إعرابها.
والمقطعات: جمع مقعطة – بصيغة اسم المفعول – من التقطيع، قال صاحب
«القاموس» : المقطعات من الشعر: قصاره وأراجيزه، وقال الدماميني: المقطعة: ما نقص من عشرة، ويقال لها أيضًا: المقطوع. انتهى.
وفي شرح ديباجة «الألفية» للشاطبي حكى القاضي ابن الطيب عن الفراء بسند يرفعه إليه أن العرب تسمي البيت الواحد يتيمًا، ومن ذلك الدرة اليتيمة لانفرادها، فإذا بلغ الاثنين والثلاثة فهي نتفة بضم النون، والعشرة تسمى قطعة، فإذا بلغ العشرين استحق أن يسمى قصيدًا. انتهى.
والخرافات: أراد به الأشعار والأخبار التي تكون بمنزلة ما يتفكه به من الثمار، وحملها هنا على الأباطيل وما لا أصل له غير جيد، قيل: أصل الخرافة: ما اخترف، أي: اجتني من الفواكه من الشجر، ثم جعل لما يتلهى به من الأحاديث، وقيل: خرافة: رجل من خزاعة استهوته الجن، وكان يحدث بما رأى فكذبوه وقالوا: حديث خرافة. وفي «النهاية» لابن الأثير في حديث عائشة قال لها: حدثيني، قالت: ما أحدثك حديث خرافة، خرافة: اسم رجل من عذرة استهوته الجن، فكان يحدث بما رأى: فكذبوه وقالوا: حديث خرافة، وأجروه على كل ما يكذبونه من الأحاديث، وعلى ما يستملح ويتعجب منه، ويروى عن النبيى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال:«خرافة حق» انتهى.
قال ابن المعالي عن عائشة قالت: حدث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة نساءه حديثًا، فقالت امرأة منهن: يا رسول الله هذا حديث خرافة، قال: «أتدرين ما خرافة؟ إن خرافة من عذرة أسرته الجن، فمكث فيهم دهرًا، ثم ردوه إلى الإنس، فكان يحدث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب، فقال الناس:
أحاديث خرافة» وعوام الناس يرون أن قول القائل: هذا خرافة، إنما معناه أنه حديث لا حقيقة له، وإنما هو مما يجري في السمر، وينتظم في الأعاجيب وطرف الأخبار، واشتقاقه من اخترف الثمرة إذا اجتناها، وهي خرفة، ولذا سمي الفصل خريفًا لاختراف الفواكه فيه، فكانت هذه الأحاديث بمنزلة ما يتفكه به من الثمار للتلهي بها، وأرى أن قولهم: خرف، إذا تغير عقله من هذا، لأنه يتكلم بما يضحك ويتعجب منه، ومن ههنا قيل: فكهت من كذا، أي: عجبت منه، وقيل للمزاح فكاهة لما فيه من المسرة والاستمتاع به. وقال الزمخشري في «ربيع الأبرار»: سمعت العرب يشددون الراء من خرافة، ويسمون الأباطيل الخراريف.
وهذه الأبيات الثلاثة تحتمل أن تكون من مشطور السريع كما قال الدماميني: وتحتمل أن تكون من الرجز المقطوع المخبون كما قاله غيره، وقد أورد المصنف هذا الرجز في الباب الثامن، وحكم أن فيه من عيوب القافية الإكفاء، وهو: اختلاف حرف الروي بما يقاربه في المخرج، والروي في الأولين نون وفي الثالث ميم، وهو أحد أقوال ثلاثة تبع فيه الزمخشري فإنه قال في «الفائق» في الموضع الذي أورده فيه: خالف بين حرفي الروي لتقارب النون والميم، وهذا يسمى الإكفاء
في علم القوافي. انتهى. وقد منع الدماميني هنا وهناك الإكفاء، وحكم أن الروي الياء، فتكون الرواية: حديث سني بالياء، وهذا قول آخر.
وقد حكى الأقوال الثلاثة عبد اللطيف البغدادي في شرح «نقد الشعر» : لقدامة، قال: وفي الحديث أن سعدًا قال رأيت عليًا كرم الله تعالى وجهه يوم بدر وهو يقول:
بازل عامين حديث سني
…
سنحنح الليل كأني جني
لمثل هذا ولدتني أمي
فأما قول أبي جهل:
ما تنقم الحرب العوان مني
…
بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمي
فقد روينا عن علي – كرم الله تعالى وجهه – نحوه، ففيه ثلاثة أقوال، أحدها: أن يكون إكفاء، وما قبل الياء هو الروي، والثاني: أن يكون أراد أن يطلق بالألف، فيقول: منيا وسنيا وأميا، فحذف، والثالث: أن يكون الياء حرف الروي، ويكون مقيدا، وهذا هو الأصح. انتهى كلامه.
وأبو جهل – لعنه الله تعالى – اسمه: عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وكان عمرو بن هشام