الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول
أنشد في الهمزة، وهو الانشاد الرابع:
(4)
أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل
وهو صدر وعجزه:
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
وهو من معلقة امرئ القيس، وقبله:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة
…
فقالت لك الويلات إنك مرجلي
تقول وقد مال الغبيط بنا معًا
…
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فقلت لها سيري وأرخي زمامه
…
ولا تبعديني من جناك المعلل
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعا
…
فألهيتها عن ذي تمائم محول
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له
…
بشق وتحتي شقها لم يحول
ويومًا على ظهر الكثيب تعذرت
…
علي وآلت حلفةً لم تحلل
أفاطم مهلًا
…
البيت
فإن تك قد ساءتك مني خليقة
…
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
أغرك مني أن حبك قاتلي
…
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وما ذرفت عيناك إلا لتضر بي
…
بسهميك في أعشار قلب مقتل
قوله: ويوم دخلت الخدر
…
الخ: هو معطوف على «يوم» في قوله: ولا سيما يوم بدارة جلجل، من بيت قبله، لكنه بني على الفتحة لإضافته إلى مبني، والخدر بكسر الخاء المعجمة: الهودج هنا، وخدر عنيزة: بدل منه، وعنيزة بوزن مصغر عنزة: لقب ابنة عمه فاطمة، وفيه رد على من زعم أنه لم يسمع تلقب الإناث، وقيل: عنيزة امرأة أخرى غير فاطمة، ونون عنيزة للضرورة، والوبلة والوبل: شدة العذاب، وهذا دعاء عليه منها، وزعم بعضهم أنه دعاء له منها في معرض الدعاء عليه، والعرب تفعل ذلك صرفًا لعين الكمال عن المدعو عليه، كقولهم: قاتله الله ما أشعره وأرجله، إذا أحوجه أن يمشي راجلًا، ورجل الرجل يرجل، كعلم يعلم: إذا صار راجلًا. يريد أنه لما حملته على بعيرها ومال معها في شقها، كرهت أن يعقر البعير، والغبيط بفتح الغين المعجمة وآخره طاء مهملة: هو القنب، وقيل: نوع من الرحال، وقيل: نوع من الهوادج، والباء للتعدية، أي: أمالنا الغبيط فقالت: أدبرت ظهر بعيري فانزل من البعير.
وقوله: فقلت لها سيري، هو أمر من سار يسير، وأرخي: من أرخيت الستر ونحوه إذا أرسلته، وجناها: ما اجتني منها من القبل، والمعلل بكسر اللام: اسم فاعل من علله تعليلًا إذا ألهاه وشفاه، وحقيقته: أزال علته أو خففها، وروي بفتح اللام: اسم مفعول من علله تعليلا، مبالغة عله إذا سقاه ثانيًا، يريد: جناك الذي قد علل بالطيب، أي: طيب مرة بعد مرة.
ومعنى البيت: أنه تهاون بأمر البعير في حاجته، فأمرها أن تخلي زمامه ولا تبالي ما أصابه من ذلك. وقد شرحت هذين البيتين مع أبيات قبلهما بأكثر مما هنا في شرح الشاهد الرابع والأربعين بعد المائتين من شرح شواهد الرضي.
وقوله: فمثلك حبلى
…
الخ، مثلك: مجرور «برب» المقدرة بعد الفاء، وطرقتها: أتيتها ليلًا. وقوله: عن ذي تمائم، أي: عن صبي ذي تمائم، جمع تميمة، وهي: العوذة تعلق على الولد لترد العين عنه، ومحول: اسم فاعل من أحول الصبي إذا تم له حول، ويأتي إن شاء الله تعالى شرحه مع البيت الذي يليه في «رب» .
وقوله: ويومأ على ظهر الكثيب
…
الخ، يومأ: نصب على الظروف «بتعذرت» قال الزوزني: هذا يحتمل أن يكون صفة حال اتفقت له مع عنيزة، ويحتمل أنها اتفقت له مع المرضع التي وصفها، هذا كلامه، والسياق يقتضي الأول، والكثيب: الرمل المجتمع المرتفع على غيره، وعلى متعلقة بتعذرت أيضًا، وتعذرت، أي: جاءت بالمعاذير من غير عذر، وآلت: حلفت، يقال: آلى إيلاء، أي: حلف، ونصب «حلفة» بفتح الحاء على المصدر من غير لفظه، ولم تحلل: من التحلل في اليمين، وهو الاستثناء، روي بفتح اللام على أن الجملة صفة لحلفة، وروي بكسرها على أن الجملة حال من ضير آلت.
قال الإمام الباقلاني: يتعجب من ذلك اليوم، وإنما تشددت وتعسرت وحلفت عليه، فهو كلام رديء النسج، لا فائدة لذكره لنا أن حبيبته تمنعت عليه [يومًا] بموضع يسميه ويصفه، وأنت تجد في شعر المحدثين من هذا الجنس في التغزل ما يذوب معه اللب، وتطرب عليه النفس، وهذا مما يشمئز منه القلب،
وليس فيه شيء من الإحسان والحسن، انتهى.
وقوله: أفاطم مهلًا، الهمزة لنداء القريب، والقرب يعلم من القرينة، وهو الأبيات، وفاطم بالفتح: منادى مرخم على لغة من ينتظر، وفاطمة: اسم عنيزة السابقة، ونقل التبريزي في شرحه عن ابن الكلبي أنها فاطمة بنت عبيد بن ثعلبة ابن عامر، ولها يقول:
لا وأبيك ابنة العامري
…
لا يدعي القوم أني أفر
انتهى. وعامر: هو ابن عوف بن كنانة بن عوف بن عذرة، ومهلًا: رفقًا، وهو مفعول مطلق، وأصله: أمهلي إمهالًا، فحذف عامله وحذف زائده، وجعل نائبًا عن فعله، فبعض منصوب به لا بفعله، أي: أخريه عن هذا الوقت، وقال الزوزني: نصب به «بعض» لأن «مهلًا» ينوب مناب «دع» ، والتدلل والإدلال: أن يثق الإنسان بحب غيره، فيؤذيه على حسب ثقته به، والاسم: الدل والدلال والدالة، وأزمعت الشيء: جزمته وصمت على فعله، قال الفراء: ويقال أيضًا: أزمعت عليه، والصرم بالفتح: الهجر، يقال: صرمت الرجل صرمًا إذا قطعت كلامه، والاسم: الصرم بالضمو وروي بهما، والإجمال: الإحسان، يقول لها: إن كان هذا منك تدللا فأقصري، وإن كان عن بغضة فأجملي، ويقال: أجملي في اللفظ.
أخرج ابن عساكر عن الإصبع بن عبد العزيز قال: سألت نصيبًا، أي
بينت قالته العرب أنسب؟ فقال: قول امرئ القيس:
أفاطم ميلا بعض هذا التدلل
…
البيت.
وقد تحامل عليه الإمام الباقلاني في كتاب «إعجاز القرآن» بقوله: فيه ركاكة جدًا وتأنيث ورقة، ولكن فيها تخنيث، ولعل قائلا أن يقول: كلام النساء بما يلائمهن من الطبع أوقع وأغزل، وليس كذلك، لأنك تجد الشعراء في الشعر المؤنث لم يعدلوا عن رصانة قولهم، والمصراع الثاني منقطع عن الأول لا يلائمه ولا يوافقه، وهذا يبين لك إذا عرضت معه البيت الذي تقدمه، وكيف ينكر عليها تدللها، والمتغزل يطرب على دلال الحبيب وتدلله! هذا كلامه، وفيه أنه لم ينكر دلالها رأسًا، وإنما طلب تخفيف دلالها المفرط وتأخيره إلى وقت آخر.
وهذا البيت مقفى، والتفقيه: أن يتساوى العروض والضرب من البيت في الوزن والروي من غير نقص ولا زيادة، وأكثر ما تكون التقفية في مطلع القصيدة، كما في قوله:
قفا نبك من ذكر حبيب ومنزل
…
البيت
…
وقد يأتي في أثنائها كما وقع له هنا. وقوله: وإن تك قد ساءتك، أي: آذتك، والخليقة والخلق واحد، وتنسل: تسقط، يقال: نسل ريش الطائر إذا سقط، وأنسل إذا نبت، والنسول: سقوط الريش والوبر والشعر، وفعله من باب نصر، وقوله: فسلي ثيابي من ثيابك، أي: انزعي قلبي من قلبك، وهذا تمثيل كما في قوله تعالى:{وثيابك فطهر} [سورة المدثر /4]، وقال عنترة:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه
…
ليس الكريم على القنا بمحرم
ومنهم من حمل الثياب على حقيقتها، وقال: كنى بتباين الثياب عن تباعدهما، وقال: إن ساءك شيء من أخلاقي فاستخرجي ثيابي من ثيابك، أي: ففارقيني كما تحبين، فإني لا أوثر إلا ما آثرت لانقيادي، وإن كان فراقي سبب هلا كي، هذا كلام الزوزني.
وقال الإمام الباقلاني: ذكر الثوب وأراد البدن، مثل قوله تعالى:{وثيابك فطهر} وقال أبو عبيدة: هذا مثل الهجر. وهو بيت ركيك المعنى، وكل ما أضاف إلى نفسه ووصف به نفسه سقوط وسقه وسخف يوجب قطعه، فلم لم يحكم على نفسه بذلك! ولكن يورده [مورد] أن ليست له خليقة توجب هجرانه، وأنه مذب الأخلاق، فذلك يوجب أن لا تنفك من وصاله. والاستعسارة في المصراع الثاني فيها تواضع وتقارب وإن كانت غريبة، انتهى كلامه.
وقوله: أغرك مني
…
الخ، الهمزة للاستفهام، وغره: خدعه وأطمعه بالباطل، وقال الزوزني: أغرك: أحملك على الغيرة، وهو فعل من لم يجرب الأمور، يقول: أغرك مني كون حبك قاتلي، وكون قلبي مطيعًا لك بحيث مهما أمرته بشيء فعله؟ فألف الاستفهام للتقرير، وقيل: معناه: قد غرك مني أنك علمت أن حبك مذللي – والقتل: التذليل – وأنك تملكين فؤادك مهما أمرت قلبك بشيء أسرع إلى مرادك، فتحسبين إني أملك عنان قلبي كما ملكت عنان قلبك حتى يسهل علي فراقك كما سهل عليك فراقي!
وقال الإمام الباقلاني: قد عيب هذا عليه، لأنه قد أخبر أن من سبيلها أن
لا تغتر بما يدلها من أن حبها يقتله، وإنما تملك قلبه، فما أمرته فعله، والمحب إذا أخبر عن مثل هذا صدق، وإن كان المعنى غير هذا الذي عيب عليه، وإنما ذهب مذهبا آخر، وهو أنه أراد أن يظهر التجلد، فهذا خلاف ما أظهره من نفسه فيما تقدم من الأبيات من الحب والبكاء على الأحبة، وقد دخل في وجه آخر من المناقضة، ثم قوله: تأمري القلب يفعل، [معناه]: تأمريني، والقلب لا يؤمر، والاستعارة في ذلك غير واقعة ولا حسنة. انتهى. وقوله: وما ذرلفت عيناك .. الخ، ذرفت: دمعت، ومعنى قوله: إلا لتضربي .. الخ، أي: لتجرحي قلبًا معشرًا، أي: مكسرًا، من قولهم: برمة أعشار إذا تكسرت، وقال الزوزني: استعار للحظ عينيها ودمعها اسم السهم لتأثيرهما في القلوب، وجرحهما إباها، كما أن السهام تجرح الأجسام وتؤثر فيها، والمقتل: المذلل غاية التذليل، وقيل: أراد بالسهمين: المعلى والرقيب من سهام الميسر، والجزور يقسم على عشرة أجزاء، للمعلى سبعة أجزاء، وللرقيب ثلاثة، فمن فاز بهذين فقد فاز بجميع الأجزاء وظفر بالجزور. وتلخيص المعنى على هذا القول: وما بكيت إلا لتملكي قلبي كلهو وتفوزي بجميع أعشاره، والأعشار على هذا جمع عشر، لأن أجزاء الجزور عشرة. انتهى.
وقال الإمام الباقلاني: هذا البيت معدود من محاسن القصيدة وبدائعها، ومعناه: ما بكيت إلا لتجرحي قلبًا معشرًا، أي: مكسرًا من قولهم: برمة أعشار إذا كانت قطعًا، هذا تأويل ذكره الأصمعي، وهو أشبه عند أكثرهم، وقال غيره: هذا مثل للأعشار التي تقسم الجزور عليا، ويعني بسهميك: المعلى، وله سبعة أنصباء، والرقيب، وله ثلاثة أنصباء، فأراد: أنك ذهبت بقلبي أجمع. ويعني بقوله مقتل: مذلل، وأنت تعلم أنه على ما يعني به فهو غير موافق للأبيات المتقدمة
لما فيها من التناقض، ويشبه أن يكون من قال بالتأويل الثاني فزع إليه، لأنه رأى اللفظ مستكرهًا على المعنى الأول، لأن القاتل إذا قال: ضرب فلان بسهمه في الهدف بمعنى أصابه، كان كلامًا ساقطًا مرذولًا، وهو يرى أن معنى الكلمة أن عينيها كالسهمين النافذين في إصابة قلبه المجروح، فلما بكتا وذرفتا بالدموع كانتا ضاربتين في قلبه، ولكن من حمل على التأويل الثاني سلم من الخلل الواقع في اللفظ، ولكنه إذا حمل على الثاني فسد المعنى واختل، لأنه إن كان محبًا على ما وصف به نفسه من الصبابة، فقلبه كله لها، فكيف يكون بكاؤها هو الذي يخلص قلبه لها!
واعلم أن هذا البيت غير ملائم للبيت الذي قبله، ولا متصل به في المعنى، وهو منقطع عنه، لأنه لم يسبق كلام يقتضي بكاءها، ولا سبب يوجب ذلك، فتركيبه هذا الكلام على ما قبله فيه اختلال، ثم لو سلم له بيت من عشرين بيتًا، وكان بديعًا لا عيب فيه، فليس بعجيب، لأنه لا يدعى على مثله أن كلامه كله متناقض، ونظمه كله متبلين، وإنما يكفي أن نبين أن ما سبق من كلامه إلى هذا البيت، مما لا يمكن أن يقال: إنه يتقدم فيه أحدًا من المتأخرين فضلًا عن المتقدمين، وإنما قدم في شعره لأبيات قد برع فيها، وبان حذقه فيها، وإنما أنكرما أن يكون شعره متناسبًا في الجودة، ومتشابهًا في صحة المعنى واللفظ، وقلنا: إنه يتصرف بين وحشي غريب مستنكر، وعربية كالمهمل مستكرهة، وبين كلام سليم متوسط، وبين عامي سوفي في اللفظ والمعنى، وبين حكمة حسنة، وبين سخف مستشنع، ولهذا قال الله تعالى:{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرا} [النساء/82]. انتهى كلام الباقلاني.
وفيه تحامل شديد عليه كما لا يخفى.
وامرؤ القيس: شاعر جاهلي ترجمناه ترجمة مبسوطة في شرح الشاهد التاسع والأربعين من أبيات شرح الكافية للرضي.