الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(20) - (880) - بَابُ مَنْ حَارَبَ وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا
(45)
- 2536 - (1) حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ
===
(20)
- (880) - (باب من حارب وسعى في الأرض فسادًا)
(45)
- 2536 - (1)(حدثنا نصر بن علي) بن نصر بن علي (الجهضمي) البصري، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة خمسين ومئتين، أو بعدها. يروي عنه:(ع).
(حدثنا عبد الوهاب) بن عبد المجيد بن الصلت الثقفي أبو محمد البصري، ثقةٌ تغير قبل موته بثلاث سنين، من الثامنة، مات سنة أربع وتسعين ومئة (194 هـ). يروي عنه:(ع).
(حدثنا حميد) بن أبي حميد الطويل أبو عبيدة الخزاعي مولاهم البصري، اختلف في اسم أبيه على عشرة أقوال: قيل: اسمه: تير، وقيل: تيرويه، وقيل: زاذويه، وقيل: طرخان، وقيل: مهران، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: مخلد، وقيل: غير ذلك، ثقةٌ مدلس، من الخامسة، مات سنة اثنتين، ويقال: ثلاث وأربعين ومئة (143 هـ). يروي عنه: (ع).
(عن أنس بن مالك) رضي الله تعالى عنه.
وهذا السند من رباعياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.
(أن ناسًا من عرينة) - مصغرًا بوزن جهينة - وهي من قضاعة، وحي من بجيلة، وحي من قحطان؛ والمراد هنا: هو الثاني، كذا ذكره موسى بن عقبة في "المغازي"، وقد وقع في بعض الروايات: أنهم كانوا من عكل - بضم العين وسكون الكاف - وهي قبيلة من تيم الرباب.
قَدِمُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ
===
وجمع بعض الرواة بينهما، فقال:(من عكل أو عرينة) بالشك؛ كما في "البخاري" في الوضوء، أو (من عكل وعرينة) بلا شك؛ كما في "البخاري" في المغازي، ويؤيده ما رواه أبو عوانة والطبري من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس قال:(كانوا أربعة من عرينة، وثلاثة من عكل)، ولا يخالف هذا ما رواه البخاري في الجهاد والديات:(أن رهطًا من عكل ثمانية) لاحتمال أن يكون الثامن من غير القبيلتين، وكان من أتباعهم، فلم ينسب. هذا ملخص ما في "فتح الباري"(1/ 337)، فراجعه للتفصيل.
(قدموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وذكر ابن إسحاق في المغازي أن قدومهم كان بعد غزوة ذي قرد، وكانت غزوة ذي قرد، في جمادى الآخرة سنة ست.
وذكرها البخاري في المغازي بعد الحديبية، وكانت في ذي القعدة سنة ست، وذكرها الواقدي في "مغازيه" أنَّها كانت في شوال منها، وتبعه ابن سعد وابن حبان وغيرهما، كذا في "الفتح".
قوله: (قدموا المدينة) أخرج البخاري في المحاربين عن أنس قال: قدم رهط من عكل على النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في الصفة، وهذا يدلُّ على أنهم أقاموا في الصفة قبل خروجهم إلى إبل الصدقة.
وزاد في رواية يحيى بن أبي كثير: (فأسلموا)، وفي رواية أبي رجاء:(فبايعوه) على الإسلام.
(فاجتووا المدينة) أي: كرهوا هواء المدينة ومرضوا فيها.
قال ابن فارس: يقال: اجتويت البلد؛ إذا كرهت المقام فيه، وإن كنت في نعمة، وقيده الخطابي بما إذا تضرر بالإقامة فيه، وهو المناسب لهذه القصة،
فَقَالَ: "لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى ذَوْدٍ لَنَا فَشَرِبْتُمْ مِنْ ألْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا"، فَفَعَلُوا، فَارْتَدُّوا
===
وقال القزاز: (اجتووا) أي: لَمْ يوافقهم طعامها، وقال القرطبي:(اجتووها) أي: لَمْ توافقهم صحتهم، يقال: اجتوى البلد واستوبله واستوخمه؛ إذا سقم فيه عند دخوله. انتهى "أبي".
استوخموا المدينة وكرهوا الإقامة بها، لَمْ يوافقهم هواؤُها.
وحاصل ما ذكر: أنهم كانوا في هُزَالٍ شديد من الجهد والجوع، فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعمهم حتى صحت أجسامهم، ثُم ابتُلُوا بالاستسقاء: وهو انتفاخ البطن لمرض فانتفخت بطونهم، فزعموا أن مرضهم هذا من استيخامهم وكراهيتهم هواءَ المدينة، والله أعلم.
وهو مشتق من الجوى: وهو داء في الجوف.
(فقال) لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو خرجتم إلى) محل (ذود) وإبل (لنا) في خارج المدينة (فشربتم من ألبانها وأبوالها) .. لكان أقرب لكم إلى حصول صحتكم، فجواب لو محذوف، كما قدرناه، دل عليه ما بعده.
وفي الحديث: دلالة على جواز الخروج من البلد، الذي لا يوافق الرجلَ هواه تداويًا وعلاجًا، وكانت إبل الصدقة تَرْعى بذي الجَدَرِ ناحيةَ قُباء قريبًا مِن عَيْرٍ على ستة أميال من المدينة، ذكره ابنُ سعد في "طبقاته".
(ففعلوا) ما أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج إلى إبل الصدقة وشُرْبِ ألبانِها وأبوالها (فصَحُّوا) من مرضهم؛ كما في رواية مسلم؛ أي: فحصلت لهم الصحة والعافية من مرضهم، وإنما جاز لهم شرب ألبان إبل الصدقة؛ لأنَّها للمحتاجين والفقراء، وهم منهم (فارتدوا) وفي رواية مسلم:
عَنِ الْإِسْلَامِ وَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَاقُوا ذَوْدَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ فِي طَلَبِهِمْ فَجِيءَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ،
===
(ثم ارتدوا) بثم بدل الفاء هنا، أي: ثم بعدما صحوا من مرضهم ارتدوا ورجعوا (عن) دين (الإسلام) إلى كفرهم (وقتلوا راعي) إبل (رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسار النوبي، ذكره العيني (واستاقوا) أي: ساقوا (ذوده) أي: إبله، أي: أخذوا إبله وقَدَّمُوها أمامَهم سائقين لها مطاردين إلى جهة بلادهم.
وفي رواية مسلم: (فبلغ ذلك) أي: ذلك الأمرُ الذي فعلوه من قتل الراعي وسوق الإبل (النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعدما ارتفع النهار (فبَعَث) أي: وأرسل (رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ناسًا من المسلمين نحو: عشرين فارسًا (إثْرهُمْ) أي: وراءهم (في طلبهم) وأخذهم فأُخذوا (فجيء بهم) أي: فأتي بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: أَتَتْ سريةُ الطلب بالعرنيين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج الواقدي (2/ 570) عن يزيد بن رُومان قال: حدثني أنس بن مالك قال: فخرجْتُ أَسْعَى في أَثارهم مع الغِلْمَانِ حتى لَقِيَ بهم النبي صلى الله عليه وسلم بالغابةِ بمجمع السُّيولِ، فأمَرَ بهم، فقُطِعَتْ أيديهم وأرجلهم، وسُمِلَتْ أعينُهم، وصُلبُوا هناك.
قال أنس: وإني لواقفٌ أَنظُر إليهم (فقَطع) النبي صلى الله عليه وسلم أي: أمرَ بقطع (أيديهم وأرجلهم) على الخلاف؛ أي: قَطعوا أيدي اليمنى وأرجل اليسرى؛ لحد المحاربة وللقصاص (وسمر) النبي صلى الله عليه وسلم (أعينهم) أي: أمر بسَمْرِ أعينهِم.
ومعنى سَمْرِها: كَحْلُها بمسامير مُحَمَّمَةٍ؛ ليذهب بصرها.
وَتَرَكَهُمْ بِالْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا.
===
وفي بعض الرواية: (سمل أعينهم) ومعنى سَمْلِها: شَدْخُ حَدَقتِها بأيِّ شيء كان أو بحديدة محُماةٍ، وقيل: سمَرَ وسملَ بمعنىً واحد؛ أي: فقَأَ وأذهب ما فيها؛ أي: أمَرَ بسَمْلها (وتركهم) رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: أمر بتركهم (بالحرة حتى ماتوا) والحرة: أرض ذات حجارة سود معروفة بالمدينة.
وإنما ألقوا فيها؛ لأنَّها قرب المكان الذي فعلوا فيه ما فعلوا، كذا في "فتح الباري"، وإنما تركهم حتى ماتوا؛ لأنهم استحقوا عقوبة الإعدام بجنايتين: الحرابة والارتداد عن دين الإسلام؛ فأما قطع الأيدي والأرجل .. فكان حدًّا للمحاربة، أو قصاصًا لما فعلوه بيسار النوبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما سمل الأعين .. فالجمهور على أنه كان قصاصًا، واستدلوا به على وجوب المماثلة في قصاص كلّ جناية.
والحنفية على أنه لا قود إلَّا بالسيف، فيحملون حديث الباب على التعزير والسياسة، أو على أنه منسوخ بأحاديث النهي عن المثلة.
ويدل على النسخ ما ذكره الترمذي في "جامعه": عن ابن سيرين أنه قال: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا قبل أن تُنْزَلَ الحدود.
وربما يعترض بعض مَلاحدةِ عصرنا على هذه القصة بأن العقوبة التي عاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم قاسية جدًّا، ولكنَّنا نرَى أن ما فعله العرنيون أَقْسَى منه كثيرًا وأبعد عن المروءة والإنسانيةِ؛ فإنهم لَمْ يرتدُّوا عن الإسلام فحَسْبُ، وإنما جازوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه على مننهم الجَسيمةِ مُجازاة لا تتصوَّرُ مِن إنسان يَحمِلُ قدرًا أدنى مِن المروءةِ والإنسانيةِ؛ إنهم أتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في حالة الجُوع والهُزال والمرضِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
والسقام، فآواهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأطعمهم، ثُمَّ مَنَّ عليهم بإِرسالهم إلى إبلِ الصدقة، وأباح لهم ألبانَ لِقَاحِه، وهيَّأَ لهم كلَّ ما يحتاجون إليه من غِذَاءٍ صحِّيٍّ وهَواءٍ لطيفٍ ودواءٍ مُفيدٍ وَائْتَمَنَهم على رُعاته وأمواله، ولكنهم ارتدُّوا عن الإسلام، وانْتَهبوا الإبلَ، وقتَلُوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أيِّ ذنبٍ منه أو تقصيرٍ، وقطعوا يدَه ورجلهُ وسَملُوا عَيْنَه بأشواك.
والحَقُّ أنهم كانوا يستحقُّون أَقْسَى ما يكون من عذاب، ولكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يفعل بهم إلَّا مِثْلَ ما فعلوه براعي رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم المظلوم، فلا يقْدَحُ في إقامة مثلِ هذه العقوبة على مثل هؤلاء الظَّلمة الطُّغاة، إلَّا مَن أَعْمَتْهُ عداوةُ الإسلام والمسلمين.
قوله: في أول الحديث: (إن أناسًا من عرينة
…
) إلى آخره، اختلفت الروايات عن البخاري: ففي بعضها: (من عكل أو عرينة)، وفي بعضها:(من عكل)، وفي بعضها:(من عرينة) كما عند المؤلف، وفي بعضها:(من عكل وعرينة) بواو العطف، وهو الصواب، ويؤيده: ما رواه أبو عوانة والطبري عن أنس أنهم كانوا أربعة من عرينة، وثلاثة من عكل، ولا يخالف هذا رواية:(ثمانية) لاحتمال أن يكون الثامنُ من غير القبيلتَينِ، وكان من أتباعهم فلم ينسب. انتهى مختصرًا، وقد سبق مِنَّا ذِكْرُ هذا الجمع في أول الحديث، ولكن أَعَدْنَاه هنا؛ لئلا يَغْفَل عنه القارئُ.
قوله: "لو خرجتم إلى ذود لنا فشربتم من ألبانها وأبوالها"، وأخرج البخاري من رواية وهيب عن أيوب:(أنهم قالوا: يا رسول الله؛ أَبْغِنَا رِسْلًا) أي: اطلُبْ لنا لبنًا (فقال صلى الله عليه وسلم: "ما أَجِدُ لكم إلَّا أن تلحقوا بالذود" ثم ظاهر هذه الرواية: أن العرنيين خرجوا إلى إبل الصدقة، ويعارضه رواية
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
أبي رجاء عند البخاري، وفيها:(هذه نعَمٌ لنا تَخْرُج فاخرجوا فيها)، وروايةُ أيوب في الوضوء:(فأمرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بلِقاحٍ)، ورواية وُهيب في المحاربين: (إلَّا أن يَلْحَقُوا بإبلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وظاهرُ هذه الروايات: أنَّ اللقَاح كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، فجَمَع بينهما الحافظُ في "الفتح"(1/ 338) بأن إبلَ الصدقة كانت تَرْعَى خارجَ المدينة، وصادَفَ بَعْثُ النبي صلى الله عليه وسلم بلقاحه إلى المرعى طلبَ هؤلاءِ النفرِ الخروجَ إلى الصحراء؛ لشربِ ألبانِ الإبل، فأمرهم أَن يَخْرجُوا مع راعيه، فخرَجوا معه إلى الإبل، ففعلوا ما فعلوا؛ مِن قتلِ رِعَاء إبل الصدقة، وقتلِ راعي لِقاح النبي صلى الله عليه وسلم، وسوقِ إبل الصدقة ولقاحِ النبي صلى الله عليه وسلم.
ويجمع أيضًا بينَ روايةِ: (فقتَلُوا الرعَاءَ) بالجمعِ، وبين رواية:(فقتلوا الراعِيَ) بالإفراد: بأنَّ المراد بالرِعاء: رِعاءُ إبلِ الصدقة، وبالراعي: راعي لقاح النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو يسار النوبي؛ كما مر، فلا معارضة؛ لأنهم قتلُوا وساقوا الكلَّ. انتهى بزيادة.
ويحتمل أن تكون إبل الصدقة نسبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم من جهة كونه صلى الله عليه وسلم متوليًا لها.
ودل الحديث على جواز انتفاع مستحق الزكاة من إبل الصدقة بشرب لبنها؛ لأن العرنيين كانوا أبناء السبيل، ولهذا أخرجه البخاري في الزكاة، وترجم عليه:(بابُ استعمال أبوال إبل الصدقة وألْبانِها لأبناءِ السبيل).
قوله: "فشربتم من ألبانها وأبوالها" أما شرب لبن إبل الصدقة .. فلِمَا ذكَرْنا مِن أنهم كانوا أبناءَ السبيل، وأما شرب لبن لِقاح النبي صلى الله عليه وسلم ..
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
فَلِتَحقُّقِ الإذنِ منه صلى الله عليه وسلم، وأما شرب أبوال الإبل .. ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: مسألةُ بول ما يؤكل لحمه.
استدل مالك رحمه الله تعالى بهذا الحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه، أمَّا بول الإبل .. فاستدلُّوا على طهارته بهذا الحديث، وأما بول غيرِها مما يؤكل لحمهُ .. فبالقياس عليه، وهو قولُ أحمد بن حنبل، ومحمد بن الحسن من الحنفية، والإِصْطَخْرِي والرُّويانِي من الشافعية، وبه قال الشعبي وعطاء والنخعي والزهري وابنُ سيرين والحكَمُ والثوريُّ.
وقال أبو داوود ابن علية: بول كلّ حيوان وإن كان لا يؤكل لحمه طاهر إلَّا بول الآدمي.
وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وجَمْعٌ كثير من العلماء: الأبوالُ كلُّها نجسة إلَّا ما عُفِي عنه من القدر القليل، وهذه المذاهب مأخوذة من "عمدة القاري"(1/ 919).
وأجاب الحنفيةُ والشافعية عن قصة العرنيين بأجوبة:
الأول منها: أنَّ شربهم للأبوال كان على سبيلِ التداوي للضرورة؛ كما أُجِيزَ لبس الحرير في الحرب أو للحكة، وقد أصيبوا بمرض الاستسقاء، ولأبوال الإبل تأثير في ذلك؛ فإنها كانت تَرْعَى الشيحَ والقَيصُوم، والإبلُ التي ترعى ذلك تنفعُ ألبانها وأبوالُها في بعض أنواع الاستسقاء، وقد أخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 65) عن ابن عباس مرفوعًا: إن في أبوال الإبل وألبانها شِفاءً لِذَرَبَةِ بطونهم.
والثاني: أن قصة العرنيين متقدمةٌ نَسخ حكْمَها أحاديث دالة على نجاسة الأبوال، والنسخ وإن كان لا يَثبت بِمُجَرَّدِ الاحتمالِ عند عدم عِلْمِ التاريخ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
ولكن احتمالُ النسخ إذا تأيَّدَ بقرائن قوية يَكْفِي لإبطال الاستدلال بما جاء في الروايات مخالفًا للأصولِ الكلية والرواياتِ المشهورة، وتُوجد ها هنا قرائنُ تُقوِّي احتمالَ النسخ.
فمنها: أن قصةَ العرنيين وقعت سنةَ ست؛ كما قدمنا، وحديثَ نجاسة البول مروي عن أبي هريرة؛ كما سيأتي، وأن أبا هريرة أسلم سنة سبع، ثم من المعلوم المشاهدِ في الأحاديث أنَّ الإحكام قد انتقلَتْ في الأنجاس من السهولةِ إلى الصعوبة، فهناك أشياء كثيرة اعتُبرت طاهرةً غيرَ مفسِدة للصلاة في مبدأ الإسلام، ثم جاء الحكْمُ بنجاستها؛ فمن جملتها ما أخرجه البخاري في رقم (240) عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في قصةِ وَضْعِ أبي جهل سلا جزور على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُصل ساجدٌ، وقد ثبَت أنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْطَع صلاتَه، بل اسْتَمرَّ فيها؛ كما ذكره الحافظُ في "الفتح"(1/ 351).
وادَّعى ابن حزم أن هذا الحديث منسوخ بما روي في نجاسة النَّجْوِ والدمِ، فهذه القرائن مما يُقوّي احتمالَ النسخ، وعند هذا الاحتمال القويِّ لا يَتِمُّ الاستدلالُ بحديث الباب على طهارة البول الذي ورد في نجاستِه أحاديث كثيرةٌ.
والوجه الثالث: في الاعتذارِ عن حديث الباب أنه يحتمل أن الأمر بشُرْب الألبان واستنشاقِ الأبوال، وإنما عَطفَ الأبوال على الألبان بطريق التضمين، والتضمينُ أن يُعطف معمولُ عامل محذوف على معمول عامل مذكور؛ كقوله:(علفتها تبنًا وماءً باردًا)، والمراد علفتها تبنًا وسقَيْتُها ماء باردًا، وقد أَوْضَحه ابن هشام في "مغني اللبيب" في أوائل الباب الخامس من الجزء الثاني.
ويؤيده ما ورد في بعض طرق الحديث عند النسائي في "سننه"(2/ 167)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
من غير ذكر الأبوال، ولفظه: (فبعث بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى لقاحه؛ ليشربوا من ألبانها، وكانوا فيها
…
) إلى آخره، وكذلك لَمْ يذكر لفظ الأبوال في حديث أنس عند الطحاوي من طريق عبد الله بن بكر عن حميد عن أنس، ذكره البنورِيُّ في "معارف السنن"(1/ 275)، ثم قال: وعلى هذا يكاد أن يكون ذكر الأبوال مع الألبان في سياق أمره صلى الله عليه وسلم من تصرف الرواة، فيكون صلى الله عليه وسلم أمر بشرب ألبانها واستنشاق أبوالها، ولعلهم شربوا أبوالها أيضًا، فوقع التعبير بهما معًا في سياق الأمر؛ نظرًا إلى ما وقع، لا أنه صلى الله عليه وسلم أمر بهما معًا.
وبالجملة: فلا يستقيم الاستدلال بحديث الباب على طهارة أبوال الإبل عند وجود هذه المحامل القوية.
وأما أدلة نجاسة الأبوال .. فكثيرة؛ منها: ما أخرجه الترمذي في الأطعمة من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها؛ والجلالة: التي تأكل الجلة؛ وهي البعرة؛ كما في "القاموس" وغيره، فكان سبب النهي هو أكلها البعرة، فعلم أنه نجس؛ حيث سرت نجاستها إلى لحمها.
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعًا: "استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه" أخرجه ابن ماجة والدارقطني والحاكم في "المستدرك"(1/ 183)، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، ومنها غير ذلك.
المسألة الثانية: مسألة التداوي بالمُحرم.
واستدل بحديث الباب من أجاز التداوي بالمحرمات والأنجاس، والمذاهب
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
في هذا الباب مختلفة؛ فمذهب الحنابلة عدم جواز التداوي بالمحرمات مطلقًا، قال ابن قدامة: ولا يجوز التداوي بمحرم، ولا يستثنى فيه محرمٌ؛ مثل ألبان الأُتُنِ ولحم شيء من المحرمات، ولا شربُ الخمر للتداوي به؛ لما ذكرنا من الخبر.
وأما الشافعية .. فيجوز التداوي عندهم بالمحرمات غير المسكر إلَّا إذا تعين الشفاء فيها، فأما التداوي بالمسكر .. فلا يجوز عندهم أيضًا.
قال النووي في "المجموع شرح المهذب"(9/ 52) مذهبنا: جواز التداوي بجميع النجاسات سوى المسكر، ودليلنا حديث العرنيين، وهو في "الصحيحين" كما سبق، وهو محمول على شربهم الأبوال للتداوي؛ كما هو ظاهر الحديث، وحديث:"لَمْ يجعل الله شفاءكم" .. محمول على عدم الحاجة إليه؛ بأن كان هناك ما يغني عنه ويقوم مقامه من الأدوية الطاهرة.
وقال البيهقي: هذان الحديثان إن صحا .. حملا على النهي عن التداوي بالمسكر وعن التداوي بالحرام من غير ضرورة؛ للجمع بينهما وبين حديث العرنيين.
وأما المالكية .. فمذهبهم في هذا الباب كمذهب الحنابلة؛ فإنهم لا يجوزون التداوي بالمحرم بحال.
ويقول القرطبي في "تفسيره" من سورة البقرة (2/ 213): وإن كانت الميتة قائمة بعينها .. فقد قال سحنون: لا يتداوى بها بحال ولا بخنزير؛ لأن منها عوضًا حلالًا، بخلاف المجاعة، وكذلك الخمر لا يتداوى بها.
وأما الحنفية .. فقد اختلف أقوال علمائهم في المسألة: فالمشهور عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يجوز التداوي بالمحرم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وقال السرخسي في باب الوضوء والغسل من "المبسوط"(1/ 54): وعلى قول أبي حنيفة لا يجوز شربه؛ يعني: بول ما يؤكل لحمه للتداوي وغيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى لَمْ يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم".
وعند محمد يجوز شربه للتداوي وغيره؛ لأنه طاهر عنده، وعند أبي يوسف يجوز شربه للتداوي لا غير؛ عملًا بحديث العرنيين.
واستدل من حرم التداوي بالمحرمات بأحاديث متعددة؛ منها: ما أخرجه أبو داوود في باب الأدوية المكروهة من كتاب الطب عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام".
ومنها أيضًا: ما أخرجه عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث.
ومنها: ما أخرجه عن وائل بن حجر، ذكر طارق بن سويد أو سويد بن طارق سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه، ثم سأله، فنهاه عنه، فقال له: يا نبي الله؛ إنها دواء، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا؛ لكنها داء"، وأخرجه أيضًا ابن ماجة في الطب رقم (3500).
ومنها أيضًا: عن عبد الرَّحمن بن عثمان أن طبيبًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضفدع يجعلها في دواء، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها.
ومنها: ما أخرجه الطحاوي عن عطاء قال: قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (اللهم؛ لا تشف من استشفى بالخمر)، إلى غير ذلك.
ومن رأى جواز التداوي بالحرام .. أجاب عن هذه الأحاديث بأنها محمولة على حالة الاختيار؛ يعني: إذا علم أن للمرض دواء آخر، وهذا الجواب قد اختاره العيني في عمدة القاري (1/ 290).
(46)
- 2537 - (2) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَا: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْوَزِيرِ، حَدَّثَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ،
===
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري في كتاب الحدود وغيره، ومسلم في كتاب الحدود، باب حد المحاربين، وأبو داوود في كتاب الحدود، والترمذي في كتاب الحدود، والنسائي في كتاب الحدود، وأحمد في "مسنده".
فهذا الحديث في أعلى درجات الصحة؛ لأنه من المتفق عليه، وغرضه: الاستدلال به على الترجمة.
* * *
ثم استشهد المؤلف لحديث أنس بحديث عائشة رضي الله تعالى عنهما، فقال:
(46)
- 2537 - (2)(حدثنا محمد بن بشار) بن عثمان العبدي البصري، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين ومئتين (252 هـ). يروي عنه:(ع).
(ومحمد بن المثنى) العنزي البصري، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين ومئتين (252 هـ). يروي عنه (ع) وهما كفرسي رهان.
(قالا) أي: كلّ منهما: (حدثنا إبراهيم) بن عمر بن مطرف الهاشمي مولاهم أبو إسحاق (بن أبي الوزير) المكي، نزيل البصرة، صدوق، من التاسعة، مات سنة اثنتي عشرة ومئتين (212 هـ). يروي عنه:(خ عم).
(حدثنا الدراوردي) عبد العزيز بن محمد بن عبيد أبو محمد الجهني مولاهم المدني، صدوق، كان يحدث من كتب غيره فيخطئ، قال النسائي: حديثه عن عبيد الله العمري منكر، من الثامنة، مات سنة ست أو سبع وثمانين ومئة (187 هـ). يروي عنه:(ع).
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ قَوْمًا أَغَارُوا عَلَى لِقَاحِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ.
===
(عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة) أم المؤمين رضي الله تعالى عنها.
وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.
(أن قومًا) من العرنيين (أغاروا) أي: هجموا (على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبله ونهبوها من ذي الجَدَر؛ موضع قريب إلى قباء، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم وراءهم طلبًا عشرين فارسًا، فأخذوا وأتي بهم النبي صلى الله عليه وسلم (فقطع النبي صلى الله عليه وسلم أي: أمر بقطع (أيديهم وأرجلهم) على خلاف، (وسمل أعينهم) أي: أمر بسملها وفقئها وكحلها بمسامير محمية.
قال السندي: (لقاح) - بكسر اللام -: هي ذات اللبن من النوق (وسمل) - بميم مفتوحة -؛ فقأها، وفي بعض الرواية:(سمر).
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: النسائي في كتاب التحريم، باب ذكر اختلاف طلحة بن مصرف ومعاوية بن صالح على يحيى بن سعيد.
ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده، وغرضه: الاستشهاد به لحديث أنس بن مالك.
* * *
ولم يذكر المؤلف في هذا الباب إلَّا حديثين:
الأول للاستدلال، والثاني للاستشهاد.
والله سبحانه وتعالى أعلم