الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول حكم بيع الميتة
استقر رأي الفقهاء على القول بتحريم الميتة، وذلك لنجاستها وحرمة أكلها، وترتب على ذلك القول بحرمة بيعها، وهذا ما عليه عامة أهل العلم وجمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
وإن كان الخلاف بينهم وقع فقط في منهج التعبير عن هذا التحريم، سواء كان ذلك فيما يتعلق بالتحريم، أو كان فيما يتعلق بالمنع من البيع وغيره من التصرفات الأخرى، وذلك لأن المقرر أن كل شيء حرم تناوله حرم ثمنه فلا يصح بيعه كالميتة، وأن هذا الحكم يسري كذلك بالنسبة للأجزاء المختلفة للميتة لإطلاق النهي عن بيعها1.
وعلى هذا: فكل ما حرمه الله سبحانه على العباد فبيعه حرام، وذلك لنجاسته ولتحريم ثمنه، أو لعدم ماليته على رأي الحنفية حيث لم يشترطوا طهارة المبيع وحل ثمنه وإنما اكتفوا بمالية المبيع وإمكان الانتفاع به شرعاً، حيث إن ركن المالية عندهم هو الركن الأهم في البيع.
وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه"2.
1 مواهب الجليل للحطاب 4/259، وبلغة السالك للصاوي 2/342، وروضة الطالبين للنووي 3/348، ومغني المحتاج للشربيني 2/11، والمجموع للنووي 9/213، والمغني مع الشرح الكبير لابن قدامة 4/41 – 42، والمبدع لابن مفلح 4/14.
2 الحديث بهذا اللفظ أخرجه أحمد في المسند 1/247، 322، وأبو داود في السنن كتاب الإجارة باب في ثمن الخمر والميتة برقم 3488، وابن حبان في الصحيح 11/3134938، والضياء في المختارة 9/511 494 كلهم من طريق خالد الحذاء عن بركة بن الوليد عن ابن عباس مرفوعا، ورجاله كلهم ثقات، والشطر الأول من الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري كتاب البيوع باب لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه برقم 2111، ومسلم كتاب المساقاة باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنْزير والأصنام برقم 1583.
وقد جاء في المغني: "ولا يجوز بيع الخنْزير ولا الميتة ولا الدم – قال ابن المنذر:1 أجمع أهل العلم على القول به، وأجمعوا على تحريم الميتة والخمر، وعلى أن بيع الخنْزير وشراءه حرام، وذلك لما روى جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يقول: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والأصنام" متفق عليه23.
وهذه نصوص المذاهب المختلفة، والتي يمكن من خلال النظر فيها تقرير وجهة ما قالوا به في هذا الشأن:
مذهب الحنفية: يرى فساد بيع الميتة، لأن الميتة محرمة ويفسد البيع إذا كان أحد العوضين أو كلاهما محرماً.
فلم يجز بيع الميتة والدم لانعدام المالية التي هي ركن البيع فإنهما لا يعدان مالاً عند أحد وعليه فالبيع يكون باطلاً.
فقد جاء في اللباب شرح الكتاب: "إذا كان أحد العوضين أو كلاهما محرماً فالبيع فاسد كالبيع بالميتة أو بالدم أو بالخمر أو بالخنْزير"4. فهذا النص يذكر أن البيع بالميتة فاسد.
وقال صاحب الهداية: "إذا كان أحد العوضين أو كلاهما محرماً فالبيع فاسد كالبيع بالميتة والدم والخمر والخنْزير، وكذا إذا كان غير مملوك كالحر"5.
وجاء في البحر الرائق: "لم يجز بيع الميتة والدم لانعدام المالية التي هي ركن
1 هو محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري أبو بكر، فقيه مجتهد من الحفاظ، أكثر تصانيفه في بيان اختلاف العلماء، له مصنفات كثيرة منها "المبسوط في الفقه" و"الإشراف على مذاهب أهل العلم واختلاف العلماء" وتوفي رحمه الله سنة 319 ?. راجع: طبقات الشافعية للأسنوي 3/102 – 103، الأعلام للزركلي 6/484.
2 سبق تخريج الحديث صفحة 47.
3 ابن قدامة 4/302.
4 عبد الغني الغنيمي الدمشقي 1/194.
5 المرغيناني 8/139.
البيع، فإنهما لا يعدان مالاً عند أحد، وهو في قسم الباطل، والمؤلف1 رحمه الله لما استعمل الفاسد في الباب للأعم عبر بعدم الجواز الشامل للباطل والفاسد"2.
فالحنفية يمنعون بيع الميتة ولا يعتبرونها محلاً للتعامل لأنها محرمة، وهم يفرقون فقط بين حالتين بسبب أنهم يفرقون بين الباطل والفاسد بحسب منهجهم في الأصول، وقالوا إن الميتة إذا كانت محلاً للتعاقد وكان المقابل لها نقداً كان العقد باطلاً في حين أنها إذا كانت ثمناً فإن العقد يكون فاسداً يملك فيه المبيع بالقبض من جانب المشتري لوجود حقيقة البيع وهو مبادلة مال بمال، فالحنفية يمنعون بيع الميتة بسبب حرمتها وعدم ماليتها، وأنهم فقط يخالفون الجمهور في وصف العقد، وقالوا بأنه يختلف هذا الوصف بحسب كون الميتة محلاً للعقد أي مبيعاً فإن العقد في هذه الحالة يكون باطلاً وإن كان ثمناً فالعقد يكون فاسداً وذلك كأثر لما عليه أصولهم من التفرقة بين الباطل بأصله وبين الفاسد بوصفه.
مذهب المالكية: القول بعدم جواز بيع الميتة لنجاستها، ولأن النجس لا تحصل به منفعة فضلا عن النهي عنها، لتحريمها وتحريم ثمنها فقد عدو التعامل بشأنها من أكل أموال الناس بالباطل وهو منهي عنه..
فقد جاء في مواهب الجليل: "ولا يجوز بيع ميتة
…
"3.
مذهب الشافعية: يرى حرمة بيع الميتة لحرمتها ولنجاستها لاشتراطهم طهاره المبيع لصحة عقد البيع. وقد نص على هذا في المجموع: قال ابن المنذر: "أجمع العلماء على تحريم بيع الميتة"4. وفي مغني المحتاج: "إن الله تعالى حرم بيع الخمر والميتة
1 المؤلف هو صاحب كنْز الدقائق الفقيه عبد الله بن أحمد النسفي أبي البركات كان ببغداد سنة 710?، تفقه على شمس الأئمة الكردري والعتابي، له من المؤلفات كتاب المصفى المنافع شرح النافع والكافي شرح الوافي، توفي رحمه الله تعالى في ربيع الأول عام 701 في بلده إيدج. راجع: الجواهر المضية لمحي الدين القرشي برقم 692، تاج التراجم لابن قطلوبغا ص 174-175، الفوائد البهية للكنوي 101-102.
2 ابن نجيم 6/112.
3 الحطاب 4/258.
4 النووي 9/275.
والخنْزير والأصنام
…
"1
مذهب الحنابلة: يرى عدم صحة بيع الميتة ولا شيء منها، ولو لمضطر، ولو كانت الميتة طاهرة كميتة الآدمي، لعدم حصول النفع بها. فقد ورد في كشاف القناع:"ولا يصح بيع ميتة ولا شيء منها ولو لمضطر"2. وكذلك جاء في الروض المربع: "ولا بيع ميتة ولو طاهرة كميتة آدمي لعدم حصول النفع بها" 3. وجاء فيه أيضاً: "الشرط الثالث - أي من شروط البيع -: أن تكون العين المعقود عليها أو على منفعتها مباحة النفع من غير حاجة
…
والميتة لا يصح بيعها"4.
بالموازنة بين أقوال الفقهاء: نجد أن الاتفاق قائم بينهم على تحريم بيع الميتة، وذلك لنجاستها ولتحريم ثمنها، أو لعدم ماليتها، أو لعدم جواز الانتفاع بها على قولهم، أي إن الفقهاء قد اتفقوا على منع بيع الميتة إلا أنهم قد اختلفوا فقط -في تعبيرهم عن هذا المنع ووجه تعليلهم له، فقد وجدنا الحنفية يعبرون عنه بالبطلان، في حين عبر عنه المالكية بعدم الجواز، والشافعية سلكوا في هذا مسلك التحريم، أما الحنابلة فقد عبروا عن هذا المنع بعدم الصحة، والناظر في هذا- يجد أنه مجرد خلاف في اللفظ فقط وبالتالي فلا أثر له لأنه لم يغير في الحكم المتفق عليه عندهم وهو منع بيع الميتة، بمراعاة أن الحنفية قد بنوا حكمهم بعدم انعقاد بيع الميتة على عدم ماليتها المعتبرة أساساً في عقد البيع وهذا لا يعني أنهم لا يقولون بحرمتها.
هذا: وقد استدل من قال بمنع بيع الميتة لنجاستها وبالتالي لتحريم ثمنها وذلك على نحو ما ذهب جمهور الفقهاء – استدلوا بما يأتي: حديث جابر بن عبد الله السابق وفيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يقول: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنْزير والأصنام".
1 الشربيني 3/393.
2 البهوتي 4/1386.
3 البهوتي 2/240.
4 البهوتي 2/240 – 241.
أن كل ما حرمه الله سبحانه على العباد فإن بيعه يحرم تبعاً لهذا، وذلك لنجاسته ولتحريم ثمنه، وهكذا الميتة والذي يدل على المبدأ السابق هو قوله صلى الله عليه وسلم:"لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه".
وقد رأيت المالكية يستدلون على تحريم بيع النجس ومنه الميتة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 1.
وقالوا: إن الله سبحانه نهى عن أكل أموال الناس بالباطل والنجس لا تحصل به منفعة يسيرة فكأنه غير منتفع به أصلاً، فأخذ العوض عنه أكل لأموال الناس بالباطل المناقض للتجارة. وهكذا يستقر في الذهن القول بإجماع الفقهاء على منع بيع الميتة أياً كان تعبيرهم عن هذا على نحو ما سبق بيانه. والله تعالى أعلم.
1 سورة النساء: الآية 29.