الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: بيع أرض مكة
اختلف الفقهاء بشأن حكم بيع أرض مكة.
فمذهب الحنفية: ذهب الإمام أبو حنيفة إلى عدم جواز بيع أرض مكة، وروي عنه جواز بيع أرضها. فقد جاء في بدائع الصنائع: "
…
وعلى هذا يخرج بيع رباع مكة وإجارتها أنه لا يجوز عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وروي عنه أنه يجوز
…
"1.
مذهب المالكية: ورد عن المالكية ثلاث روايات بشأن بيع أرض مكة الأول: المنع، والثاني: الجواز، والثالث: الكراهة مع عدم فسخ البيع إن وقع. فقد جاء في المقدمات الممهدات لابن رشد: "
…
فالظاهر من مذهب ابن القاسم في المدونة إجازة ذلك، والظاهر من قول مالك في سماع ابن القاسم في كتاب الحج المنع في ذلك، وحكى الداودي2 عنه أنه كره كراءها في أيام الموسم، وقال اللخمي اختلف قوله في كراء دور مكة وبيعها فمنع من ذلك مرة، وحكى أبو جعفر الأبهري3 عنه أنه كره بيعها وكراءها فإن بيعت أو كريت لم يفسخ ذلك، فيتحصل عنه في ذلك أربع روايات: الجواز والمنع والكراهة وكراهة كرائها في أيام الموسم خاصة
…
"4.
مذهب الشافعية: قالوا بجواز بيع أرض مكة. فقد جاء في روضة الطالبين: "يجوز
1 الكاساني 5/146.
2 هو عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود أبو الحسن الداودي، البوسنجي، فقيه محدث تفقه على أبي بكر القفال وأبو الطيب الصعلوكي وغيرهم توفي رحمه الله تعالى سنة 467?. راجع: معجم المؤلفين لعمر كحالة 5/192.
3 أبو جعفر محمد بن عبد الله الأبهري، ويعرف بالأبهري الصغير وبابن الخصاص الإمام العالم بالفقه وأصوله تفقه بأبي بكر الأبهري وسمع من زيد المروزي له كتاب كبير في مسائل الخلاف، وكتاب تعليق المختصر الكبير، توفي رحمه الله تعالى سنة 265?. راجع: شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف صفحة 91، والديباج المذهب لابن فرحون 2/228.
4 2/218 - 219.
بيع دور مكة"1. وجاء في المجموع للنووي: "يجوز بيع دور مكة وغيرها من أرض الحرم
…
"2.
مذهب الحنابلة: روي عن الحنابلة في ذلك روايتان الأولى ترى عدم جواز بيع رباع مكة وهي المذهب، والثانية ترى صحة ذلك. فقد جاء في كشاف القناع: "ولا يصح بيع رباع مكة
…
"3.
وجاء في الإنصاف: "ولا يجوز بيع رباع مكة ولا إجارتها، هذا هو المذهب المنصوص،
…
وقيل يجوز اختاره المصنف والشارح
…
"4.
الموازنة: بمراجعة نصوص ما قاله الفقهاء نخلص إلى مذهبين:
المذهب الأول: يرى جواز بيع أرض مكة، وهو مذهب الشافعية، ورواية عن الإمام أبي حنيفة، وظاهر مذهب ابن القاسم في المدونة، ورواية عند الحنابلة.
المذهب الثاني: يرى عدم جواز بيع أرض مكة، وهو الصحيح عن الإمام أبي حنيفة وقول مالك في سماع ابن القاسم، وهو صحيح مذهب الحنابلة.
الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول القائلون بجواز بيع أرض مكة بما يلي:
أ- قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} 5 فقد ثبت أن الله سبحانه أضاف الديار إلى المهاجرين، والإضافة تقتضي الملك وهذا الملك يقتضي جواز التصرف في المملوك بكافة أنواع التصرف من البيع والشراء وخلافه، والمهاجرون هم من تركوا الديار والأموال والأهل والعشائر حباً لله ولرسوله وهم الذين أخرجوا من مكة للمدينة ففهم من ذلك جواز التصرف في أرض مكة.
1 النووي 3/420.
29/298.
3 البهوتي 4/1390.
4 المرداوي 4/277.
5 سورة: الحشر الآية 8.
فإن قيل: تكون الإضافة لليد والسكنى لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} 1.
فالجواب أن حقيقة الإضافة تقتضي الملك ولهذا ولو قال: هذه الدار لزيد حكم بملكها لزيد، ولو قال: أردت به السكنى لم يقبل.
ب – ما رواه أسامة بن زيد بن حارثة حيث قال يا رسول الله: "انزل في دارك بمكة؟ فقال: "وهل ترك لنا عقيل2 من رباع أو دور"، وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرثه جعفر ولا علي لأنهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين"3.
فدل هذا على جواز إرث دورها والتصرف فيها.
ج - ما روي من أن حكيم بن حزام4 باع دار الندوة بمكة من معاوية بن أبي سفيان5 بمائة ألف، فقال له عبد الله بن الزبير6: يا أبا خالد بعت مآثره قريش وكريمتها، فقال: هيهات، ذهبت المكارم فلا مكرمة اليوم إلاّ الإسلام، فقال: أشهد أنها في سبيل الله يعني الدراهم7.
د – أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم دور بمكة كأبي بكر والزبير وحكيم بن حزام وأبي
1 سورة: الأحزاب الآية 33.
2 هو عقيل بن عبد مناف أبا طالب بن عبد المطلب بن هاشم أبو يزيد القرشي، صحابي أخو علي وجعفر لأبويهما، وكان أسن منهما، توفي رضي الله عنه سنة 60?. راجع: أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير 3/560، والأعلام للزركلي 4/242.
3 الحديث رواه البخاري 3/1113 برقم 2893، و 4/1560 برقم 4032، ومسلم 2/984 برقم 1351.
4 هو حكيم بن حزام بن خويلد ابن أسد بن عبد العزيز بن قصي الأسدي ابن أخي خديجة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ولد قبل الفيل بثلاثة عشر سنة وتوفي سنة 50 ?. راجع: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 1/348.
5 هو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية القرشي الأموي، ولد بمكة وأسلم عام الفتح، ولاّه أبو بكر ثم عمر وأقره عثمان على الديار الشامية،. راجع الأعلام للزركلي 7/261.
6 هو عبد الله بن الزبير بن العوام من بني أسد من قريش فارس قريش في زمنه أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق أول مولود للمسلمين بعد الهجرة، مات سنة 73?. راجع: الأعلام للزركلي 4/87.
7 أخرجه البيهقي في سننه 6/34 – 35، وأورده البيهقي في الخلافيات كما أفاده الحافظ في التلخيص الحبير 3/20، وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 3/1085 برقم 1839، والذهبي في السير 3/50، وابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة 4/539برقم 5643.
سفيان وسائر أهل مكة فمنهم من باع داره ومنهم من تركها فهي في يد أعقابهم، فالمقرر أن أهل مكة لا يزالون يتصرفون في دورهم تصرف الملاك بالبيع وغيره ولم ينكره منكر فقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم نسبة دورهم إليهم فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قصة فتح مكة قال:"فجاء أبو سفيان فقال يا رسول الله: أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن" 1.
استدل أصحاب المذهب الثاني القائلون بعدم جواز بيع أرض مكة:
أ- بما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم: - قال "مكة حرام لا تباع رباعها ولا تورث"2.
وهذا نص في الموضوع يفيد منع بيع رباعها وثوارتها، وقال الكاساني في البدائع: إن الله تبارك وتعالى وضع للحرم حرمة، وفضله، وكذلك جعله سبحانه وتعالى مأمناً، فابتذاله بالبيع والشراء والتمليك والتملك امتهان3.
ب – ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تبارك وتعالى حرم مكة يوم خلقها، ولم تحل لأحد من بعدي، وإنما حلت لي ساعة من نهار، ولا يختلي خلاها4، ولا يعضد شجرها5، ولا يتحشى حشيشها6".
ففي هذا الحديث يخبر النبي صلى الله عليه وسلم إن مكة حرام، وهي اسم للبقعة الحرام، فلا يحق لأحد بيعها.
1 الحديث رواه مسلم 3/1405-1409.
2 الحديث رواه أبو عبيد في الأموال صفحة 83 وحميد بن زنجويه من طريقه في الأموال له 1/204 وأبو بكر بن أبي شيبة المصنف 3/329 برقم 14679 و 14680 والفاكهي في أخبار مكة 3/246- 347 كلهم من طريق معاوية عن الأعمش عن مجاهد مرفوعا. راجع: نصب الراية للزيلعي 4/265.
3 5/146.
4 الخلاء مقصور: الرطبة من الحشيش الواحدة خلاة، ومعنى لا يختلي خلاها أي لا يقطع خلاها.
5 لا يعضد شجرها: أي لا ينقطع في العضد وهو القلع.
6 الحديث رواه البخاري 3/449، 4/46-47، 5/87، 6/283، 8/26، ومسلم 2/986-987 واللفظ له.
ج– روى ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مكة حرام، حرمها الله لا يحل بيع رباعها، ولا إجارة بيوتها"1.
وهذا نص في الموضوع يفيد حرمة بيع أراضي مكة وإجارتها.
د- كما أن أرض مكة فتحت عنوة. ولم تقسم، فصارت موقوفة، فلم يجز بيعها كسائر الأراضي التي فتحها المسلمون عنوة ولم يقسموها.
والذي يترجح لدي من هذا الخلاف: هو جواز بيع أرض مكة لأنه قد وردت أثار تفيد التصرف فيها، ويؤكد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهلها على أملاكهم، فهذا يدل على أنه تركها لهم، أما الآثار التي استدل بها القائلون بعدم جواز التصرف فيها فإن كانت صحيحة، فلا تدل على عدم جواز التصرف فيها صراحة، وأما الآثار التي تدل على عدم جواز التصرف فيها صراحة فهي آثار ضعيفة والله أعلم.
1 الحديث رواه أبو عبيد في الأموال صفحة 83، وحميد بن زنجويه من طريقه في الأموال له 1/204 وأبو بكر بن أبي شيبة المصنف 3/329 برقم 14679 و 14680 والفاكهي في أخبار مكة 3/246- 347 كلهم من طريق معاوية عن الأعمش عن مجاهد مرفوعا. راجع: نصب الراية للزيلعي 4/256.