الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب التاسع في المستثنيات
سبق أن تقرر ما نص عليه الفقهاء من أن تحريم بيع الأواني والأدوات المصنوعة من الذهب والفضة كان بسبب حرمة الاستعمال المترتب بدوره على حرمة الاتخاذ والاقتناء ولهذا فإنه إذا جاز الاستعمال استثناء لضرورة شرعية جاز تبعاً لهذا اعتباره محلاً للبيع وذلك بمراعاة حدوده إعمالاً لقاعدة أن الضرورة تقدر بقدرها.
وعلى هذا فإن الفقهاء أباحوا اتخاذ الأنف من الذهب أو الفضة إذا احتيج إلى ذلك، استناداً إلى ما روي عن عبد الرحمن بن طرفة:"أن جده عرفجة بن أسعد الكناني1 أصيب أنفه يوم الكُلاب2 فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتخذ أنفاً من ذهب"3.
فقد أفاد هذا الحديث جواز اتخاذ الأنف من الذهب أو الفضة، والحكمة في استعمال الذهب في ذلك أنه لا يصدأ إذا كان خالصاً، بخلاف الفضة، وأن الأنف ينتن إذا اتخذ من الفضة فلا بد من اتخاذه من ذهب فكان ضرورة، فسقط اعتبار حرمته4.
أما اتخاذ السن وإن تعددت من الذهب أو الفضة أو ربطها بشريط متخذ من أي منهما أو حشو السن، فالفقهاء لهم تفصيل في حكمه، فالخلاف بينهم على جواز اتخاذ السن وإن تعددت، والشريط الذي يربطها عند التخلخل أو حشوها أو اتخاذ
1 عرفجة بن أسعد بن كريب- بفتح الكاف وكسر الراء بعدها موحدة- التميمي، صحابي، نزل البصرة، كان من الفرسان في الجاهلية، ثم أسلم. راجع: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 1795، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 6/411 برقم 5498.
2 هو يوم معروف من أيام الجاهلية كانت لهم وقعة مشهورة والكلاب اسم لماء من مياه العرب كانت عنده الوقعة فسمي ذلك اليوم يوم الكلاب وقيل عنده وقعتان مشهورتان يقال فيهما الكلاب الأول والكلاب الثاني المجموع للنووي 1/311 ولسان العرب 12/138.
3 أخرجه أحمد في المسند 5161، 5162 وأبو داود برقم 4232، 4233، 4234 والترمذي برقم 1770 والنسائي برقم 5161، 5162 وابن حبان في صحيحه 12/276 ورجال إسناده ثقات رجال الشيخين غير عبد الرحمن بن طرفة وقد وثقه العجلي وذكره ابن حبان في الثقات راجع تهذيب التهذيب ترجمة عبد الرحمن بن طرفة.
4 بدائع الصنائع للكاساني 5/132 والمغني لابن قدامة 8/323.
الأنملة أو الأذن من الفضة فيما يأتي:
مذهب الحنفية: اختلف الحنفية في هذا، ففي رواية عن أبي حنيفة ورواية عن أبي يوسف أنه لا يحل شد الأسنان بالذهب ولا اتخاذها أو اتخاذ الأنملة أو الأذن منه، وأن هذا مكروه، ورواية أخرى عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن بأنه يحل اتخاذ السن من الذهب وإن تعددت والشريط الذي يربطها والأنملة والأذن.
فقد جاء في بدائع الصنائع: "
…
وأما شد السن المتحرك بالذهب، فقد ذكر الكرخي رحمه الله أنه يجوز، ولم يذكر خلافاً، وذكر في الجامع الصغير أنه يكره عند أبي حنيفة؛ وعند محمد رحمه الله لا يكره ولو شدها بالفضة لا يكره بالإجماع
…
وكذا لو جدع أنفه فاتخذ أنفا من ذهب لا يكره بالاتفاق، لأن الأنف ينتن بالفضة فلا بد من اتخاذه من ذهب، فكان فيه ضرورة فسقط اعتبار حرمته" 1.
وعليه فنص البدائع: يفيد أن الخلاف في شد السن المتحرك بالذهب بين المجوز والقائل بكراهته، وأنه لا خلاف بالنسبة لشدها بالفضة وكذلك لا خلاف فيما لو اتخذ أنفاً من ذهب عند جدعه، وذلك لضرورة أنه لو اتخذه من فضة لأصابه النتن.
وجاء في حاشية ابن عابدين: "
…
قوله: "المتحرك" قيد به لما قال الكرخي: إذا سقطت ثنية رجل فإن أبا حنيفة يكره أن يعيدها ويشدها بفضة أو ذهب ويقول هي كسن ميتة، ولكن يأخذ سن شاة ذكية يشد مكانها، وخالفه أبو يوسف فقال: لا بأس به، ولا يشبه سنه سن ميتة استحسن ذلك. وبينهما فرق عندي – وإن لم يحضرني. زاد في التاترخانية2: قال بشر3: قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن ذلك في مجلس
1 الكاساني 5/132.
2 هو عالم بن علاء عالم حنفي فاضل من آثاره "الفتاوى التتارخانية" مطبوع، لم يسمها مؤلفها باسم فسميت بذلك نسبة للملك "تاتارخان" وقيل انه سماها "زاد المسافر" جمع فيها مسائل المحيط البرهاني والذخيرة والفتاوى الخانية والفتاوى الظهيرية، رتبه على أبواب الهداية، توفي رحمه الله تعالى سنة 286?. راجع: معجم المؤلفين لعمر كحالة 2/52، وهداية العارفين للبغدادي 1/435.
3 هو بشر بن غياث بن أبي كريمة عبد الرحمن المريسيّ العدوي بالولاء، فقيه عارف بالفلسفة أدرك مجلس أبي حنيفة وأخذ نبذاً منه، ثم لازم أبا يوسف وأخذ الفقه عنه وبرع حتى صار من أخص أصحابه، من تصانيفه "التوحيد" و "الإرجاء" توفي سنة 218?. راجع الأعلام للزركلي 2/55، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة 3/406.
آخر فلم ير بإعادتها بأساً. قوله: "وجوزهما محمد" أي: جوز الذهب والفضة أي جوز الشد بهما، وأما أبو يوسف فقيل معه، وقيل مع الإمام قوله "لأن الفضة تنتنه"
…
وأشار إلى الفرق للإمام بين شدّ السن واتخاذ الأنف، فجوز الأنف من الذهب لضرورة نتن الفضة، لأن المحرم لا يباح إلا لضرورة، وقد اندفعت في السن بالفضة فلا حاجة إلى الأعلى وهو الذهب، قال الإتقاني1: ولقائل أن يقول مساعدة لمحمد: لا نسلم أنها في السن ترتفع بالفضة لأنها تنتن أيضاً"2.
فمذهب الحنفية: عدم شد السن المتحركة بذهب، وإنما يمكن شدها بالفضة، وخالف في هذا محمد بن الحسن، وجوز شدها بالذهب والفضة على السواء، فشد السن بالفضة لا خلاف فيه، وإنما الخلاف فقط في شدها بالذهب وقد كره أبو حنيفة شدها بفضة أو بذهب.
وجوز ذلك محمد بن الحسن، واختلف النقل عن أبي يوسف، فقيل إنه مع الإمام، وقيل إنه موافق لصاحبه محمد بن الحسن ووجهة نظر الإمام أن الحاجة تندفع بالشد بالفضة وأنه لا ضرورة في شدها بالذهب، في حين أن محمد بن الحسن وجه كلامه بأن الفضة تنتنه، وفرق الإمام بين الشد واتخاذ الأنف حيث اعتبر الضرورة في الأنف، وقال بجواز اتخاذ الذهب في الأنف باعتبار أن الفضة تنتنه.
مذهب المالكية: القول بأنه لا مانع من اتخاذ الأنف من ذهب عند جدعها، وذلك لضرورة أنها تنتن لو اتخذت من فضة، وأنه من باب التداوي، وأنه بالنسبة لشد السن المتحرك بالذهب فقد ورد بشأنه الخلاف، فقال ابن عرفة إنه لا مانع من ذلك، وإنه يستوي في هذا الذهب والفضة، وأن هذا ما عليه الأكثر من المالكية.
1 هو أمير كاتب بن أمير عمر بن أمير غازي، قوام الدين أبو حنيفة الإتقاني الفارابي ولد بإتقان سنة 685? وإتقان قصبة فاراب، وفاراب ولاية وراء نهر سيحون، كان رأساً في الحنيفة بارعاً في الفقه واللغة العربية وغير ذلك من العلوم، من تصانيفة "غاية البيان ونادرة الزمان في آخر الأوان" توفي بالقاهرة سنة 758?. راجع: معجم المؤلفين 3/4.
2 ابن عابدين 9/597 - 598.
فقد جاء في مواهب الجليل: "ص1: "والسيف" ش: قال في التوضيح في كتاب الذكاة وسواء اتصلت الحلية بأصله كالقبضة أو كانت في الغمد ص: "والأنف" ش لئلا ينتن فهو من باب التداوي ص: "وربط سن" ش: كذلك ما يشد به محل سن سقطت قاله ابن عرفة ص "مطلقاً" ش: أي بالذهب والفضة وهو راجع إلى جميع ما تقدم على المعروف الذي عليه الأكثر
…
"2.
فمذهب المالكية: أنه لا خلاف في أخذ الأنف من الذهب عند جدعه، لأنه من باب التداوي، ولضرورة أن ينتن لو اتخذ من فضة، وأن الخلاف بشأن ربط السن المتحركة بالذهب، وأن الأكثر فيما ذكره ابن عرفة على جوازه، وأن شأنه في هذا الحكم شأن الفضة على السواء.
مذهب الشافعية: يحل اتخاذ السن، وإن تعددت من الذهب، وكذلك الشريط الذي يربط بها طالما أن ذلك كان لضرورة. فقد جاء في المجموع: "
…
وقال أصحابنا: فيباح له الأنف والسن من الذهب، ومن الفضة، وكذا شد السن العليلة بذهب وفضة جائز ويباح أيضاً الأنملة منهما
…
"3.
مذهب الحنابلة: يحل اتخاذ السن، وإن تعددت، والشريط الذي يربطها والأنملة والأذن من الذهب.
فقد جاء في الكافي: "
…
ويباح ربط أسنانه بالذهب إذا خشي سقوطها لأنه في معنى أنف الذهب
…
"4. وفي مجموع فتاوى ابن تيمية: "
…
فإنما أبيح الذهب للأنف، وربط الأسنان لأنه اضطرار، وهو يسد الحاجة يقيناً كالأكل في المخمصة"5.
1 رمز يرمز به الحطاب في شرحه مواهب الجليل على مختصر خليل يعني به: الأصل.
2 الحطاب 1/126.
3 النووي 1/312.
4 ابن قدامة 1/42.
5 21/567.
الموازنة: بمراجعة ما قاله الفقهاء بشأن ربط السن المتحركة أو اتخاذها من الذهب أو الفضة وكذا اتخاذ الأنف من هذا عند جدعها أو اتخاذ الأنملة ونحوها يتضح الآتي:
أنه بالنسبة لاتخاذ الأنف من الذهب عند جدعها، فالاتفاق حاصل بين الفقهاء على جواز هذا، وذلك لضرورة أنها تنتن لو اتخذت من الفضة، وأن هذا من باب التداوي، وإنما الخلاف حاصل فقط بشأن ربط السن المتحركة أو سد مكانها أو اتخاذها من ذهب بعد أن اتفقوا على جواز هذا بالفضة.
فالحنفية: على خلاف في هذا، فعند الإمام أو ما وافقه عليه أبو يوسف في رواية له أنه لا يجوز هذا، وعند محمد بن الحسن، وفي رواية أخرى لأبي يوسف أنه يجوز اتخاذ السن من الذهب أو ربطها عند تحركها به.
والمالكية: على جواز ذلك عند أكثرهم فيما قاله ابن عرفة، وأن ربط السن أو شدها بالذهب يجوز مثل شدها بالفضة وإن كانت عبارة كتبهم يتضح منها أن هناك من يرى عدم جواز ذلك.
والشافعية والحنابلة: متفقون على حل اتخاذ السن أو شدها وكذا الأنملة من الذهب.
وعليه فالخلاف في هذه المسألة وهو شد السن المتحركة بالذهب ينحصر في مذهبين:
المذهب الأول: يرى حل ذلك وجوزاه على نحو ما ذهب الشافعية والحنابلة وجمهور المالكية ورواية أبي حنيفة وقول لأبي يوسف من الحنفية.
المذهب الثاني: يرى عدم جواز هذا، وهو قول محمد بن الحسن، ورواية أخرى لأبي يوسف وبعض المالكية.
الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول على حل اتخاذ السن والشريط الذي يربطها والأذن والأنملة من الذهب بما يلي:
1-
ما روى هشام بن عروه عن أبيه عن ابن عمر "أن أباه سقطت ثنيته1 فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يشدها بذهب"2.
2-
ما روى هشام بن عروه عن أبيه عن عبد الله بن عبد الله بن أبي سلول قال: "اندقت ثنيتي يوم أحد، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن اتخذ ثنية من ذهب"3.
3-
بما روي عن إبراهيم بن عبد الرحمن مولى موسى بن طلحة قال: "رأيت موسى بن طلحة بن عبد الله قد شد أسنانه بذهب"4.
4-
بما روي عن واقد بن عبد الله التميمي5 عمن رأى عثمان رضي الله عنه "أنه كان يشد أسنانه بالذهب6، وفي رواية أخرى. أنه ضبب أسنانه بذهب"7.
5-
بما روى محمد بن سعدان عن أبيه قال: "رأيت أنس بن مالك يطوف به بنوه على سواعدهم وقد شد أسنانه بذهب"8.
1 الثنية: من السن، قال في المحكم: الثنية من الأضراس أول ما في الفم، وقال غيره: ثنايا الإنسان في فمه الأربع التي في مقدم فيه، ثنتان من فوق وثنتان من أسفل. راجع: لسان العرب لابن منظور 2/141.
2 الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط 8/171، وذكره الهيثمي في المجمع 5/150.
3 الحديث أخرجه ابن قانع في معجم الصحابة2/109، من طريق عاصم بن عمارة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله به، وعاصم قال أبو علي بن السكن مجهول، وعروة لم يلق عبد الله بن عبد الله، قال الحافظ: ورواه أيضا نصر بن طريف عن هشام عن أبيه. اهـ. ونصر متهم، راجع: ميزان الاعتدال للذهبي 7/21-22، ولسان الميزان لابن حجر 6/153-154.
4 أخرجه النسائي في الكنى كما في نصب الراية 4/237 من طريق محمد بن سعدان عن أبيه، وأخرجه ابن سعد في الطبقات 6/211، وابن أبي شيبة في المصنف 5/205، وأبو نعيم في الحلية عن طعمة بن عمرو الجعفري قال رأيت أنس بن مالك
…
الخ.
5 هو واقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين التميمي الحنظلي حليف بني كعب.
راجع: تعجيل المنفعة لابن حجر ص 487 برقم 1148.
6 أخرجه ابن سعد في الطبقات 3/56.
7 وهذه الرواية أخرجها الإمام أحمد في المسند 1/73 من طريق واقد بن عبد الله التيمي عمن رأى عثمان رضي الله عنه.
8 الأثر أخرجه البخاري في التاريخ الكبير 1/104، والطبراني في الكبير 1/241، والبيهقي في السنن 2/426، وذكره الهيثمي في المجمع 5/151.
واستدل أصحاب المذهب الثاني القائلون بعدم جواز اتخاذ الأجزاء السابقة من الذهب:
أن الأصل في الذهب هو حرمة استعماله، وإباحته للضرورة، وهي تندفع بالأدنى وهو الفضة، فلا حاجة إلى الأعلى وهو الذهب، فبقي على أصل الحرمة والضرورة في حديث عرفجة لم تندفع باستعمال ما هو دون الذهب، حيث أنتن فتعين استعمال الذهب لدفع الضرورة1.
والراجح في هذا: جواز اتخاذ السن والشريط الذي يربطها والأنملة والأذن ونحوها من الذهب طالما أن الضرورة أو الحاجة ماسة لهذا الاستعمال وأشار بها طبيب مسلم عدل ثقة حاذق ولم يترتب على اتخاذها حدوث الضرر بالمريض، وأن جواز استعمال واتخاذ هذه الأجزاء من الذهب والفضة يترتب عليه، فإنه لا مانع من تداولها بالبيع إعمالاً للضرورة ودفع الضرر عن العباد. والله تعالى أعلم.
1 راجع: حاشية ابن عابدين 9/598.