الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: حكم أرواث الحيوانات وحكم بيعها
المطلب الأول: حكم أرواث 1 الحيوانات
اختلف الفقهاء في أرواث البهائم، وسرجين ذوات الحافر، وزرق الطيور، من ناحية طهارتها ونجاستها.
فمذهب الحنفية: أن أرواث البهائم نجسة، وأن الثوب إذا أصابه روث أو إخثاء البقر أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه، وأما إذا أصابه أقل من ذلك فمعفو عنه - أي تجوز الصلاة فيه - وذلك لعدم الاحتراز عنه لامتلاء الطرق بها، وهذه ضرورة مؤثرة في التخفيف، واستثنوا من هذا بول الحمار، فلا يعفى عن قليله وذلك لأن الأرض تنشفه.
فقد جاء في البناية شرح الهداية: "
…
وإذا أصاب الثوب من الروث أو من إخثاء البقر أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه عند أبي حنيفة رحمه الله، لأن النص الوارد في نجاسته وهو ما روي أنه عليه الصلاة والسلام رمى بالروثة وقال:"هذا رجس أو ركس"2 لم يعارضه غيره، ولهذا يثبت التغليظ عنده والتخفيف بالتعارض
…
ولأن فيه ضرورة لامتلاء الطرق بها، وهي مؤثرة في التخفيف، بخلاف بول الحمار لأن الأرض تنشفه"3.
1 الروث: رجيع ذي الحافر ومفرده روثة والجمع أرواث وهو بخلاف الخثى وهو ما يرمي به البقر أو الفيل من بطنه من الروث والجمع أخثاء وخثى، والبعر: رجيع ذوات الخف وذوات الظلف من الإبل والشاه وبقر الوحش والظباء إلا البقر الأهلية والمفرد بعرة. راجع: لسان العرب لابن منظور 5/355.
2 الحديث أخرجه ابن أبي شيبة 1/155 و14/223 والإمام أحمد 1/388، 465 والترمذي في جامعه 1/67 برقم 17، وفي العلل الكبير 8، والطبراني في الكبير برقم 9952.
3 العيني 1/730 - 732.
وقالوا: إن الروث نجس بدليل أنهم كرهوا الاستنجاء به وبغيره من الأنجاس، ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تستنجوا بالعظم ولا بالروث، فإن العظم زاد إخوانكم الجن، والروث علف دوابهم"1.
وجاء في بدائع الصنائع: "
…
ومنها -أي من النجاسات– ما يخرج من أبدان سائر الحيوانات من البهائم من الأبوال والأرواث على الاتفاق والاختلاف، أما الأبوال فلا خلاف في أن كل ما لا يؤكل لحمه نجس، واختلف في بول ما يؤكل لحمه، قال أبو حنيفة وأبو يوسف: نجس، وقال محمد: طاهر حتى لو وقع في الماء القليل لا يفسده ويتوضأ منه ما لم يغلب عليه
…
وأما الأرواث: فكلها نجسة عند عامة العلماء، وقال زفر2: روث ما يؤكل لحمه طاهر، وهو قول مالك
…
ومنها خرء3 بعض الطيور من الدجاج والبط، وجملة الكلام فيه أن الطيور نوعان: نوع لا يزرق في الهواء، ونوع يزرق في الهواء، أما ما لا يزرق في الهواء كالدجاج والبط فخرؤهما نجس، لوجود معنى النجاسة فيه وهو كونه مستقذراً لتغيره إلى نتن وفساد رائحته فأشبه العذرة، وفي الأوز عن أبي حنيفة روايتان: روى أبو يوسف عنه أنه ليس بنجس، وروى الحسن عنه أنه نجس، وما يزرق في الهواء نوعان أيضاً: ما يؤكل لحمه كالحمام والعصفور والعقعق4 ونحوها، وخرؤها طاهر عندنا، وعند الشافعي نجس
…
وما لا يؤكل لحمه كالصقر والبازي والحدأه وأشباه ذلك، خرؤها طاهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد نجس نجاسة غليظة
…
وخرء الفأرة نجس لاستحالته إلى خبث ونتن رائحته، واختلفوا في
1 الحديث أخرج نحوه مسلم في الصحيح كتاب الصلاة باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن برقم 450.
2 هو زفر بن الهذيل بن قيس العنبري أصله من أصبهان فقيه من أصحاب الإمام أبي حنيفة تولى قضاء البصرة وولى قضاءها وبها توفي رحمه الله سنة 158?. راجع: الأعلام للزركلي 3/45.
3 الخرء: العذرة والجمع خروء راجع: مختار الصحاح للرازي صفحة 96.
4 العقعق طائر نحو الحمامة، طويل الذنب فيه بياض وسواد، وهو نوع من الغربان، والعرب تتشاءم به.
المصباح المنير للفيومي صفحة 422، القاموس المحيط للفيروز آبادي 1175.
الثوب الذي أصابه بولها
…
وبول الخفافيش1 وخرؤها ليس بنجس لتعذر صيانة الثياب والأواني عنه، لأنها تبول في الهواء وهي فأرة طيارة فلهذا تبول
…
"2.
فالمستفاد من نصوص الحنفية: قولهم بأن جميع ما يخرج من أبدان سائر الحيوانات من النجاسات، سواء كان ذلك من الأرواث أو من الأبوال، على خلاف وتفصيل فرعي داخل المذهب في كل:
أ – الأرواث: الاتفاق في المذهب الحنفي على أن الأرواث كلها نجسة حتى ولو كانت البهائم مأكولة اللحم، ولم يخالف في هذا سوى زفر من أصحاب أبي حنيفة حيث فرق بين روث ما يؤكل لحمه وبين روث ما لا يؤكل لحمه، فقال بطهارة روث ما يؤكل لحمه كخرء بعض الطيور من الدجاج والبط ونحو ذلك.
ب – الأبوال: فقد حصل الاتفاق في المذهب الحنفي على أن بول ما لا يؤكل لحمه نجس، غير أنهم اختلفوا في بول ما يؤكل لحمه، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إنه نجس. وقال محمد: إنه طاهر، لا ينجس الماء القليل إن وقع فيه، ويجوز التوضؤ منه إلا إذا غلب على الماء فيمتنع الوضوء منه لهذا الغالب على الماء وهو بول ما يؤكل لحمه.
ج – بالنسبة لخرء ما يزرق في الهواء: قال صاحب البدائع: إن الطيور نوعان:
نوع يزرق في الهواء: وهذا على حالين؛ لأنه قد يكون مما يؤكل لحمه، وقد لا يكون كذلك، فإن كانت مما يؤكل لحمه فخرؤها طاهر على مذهب الحنفية بلا خلاف، وذلك كالحمام والعصفور ونحوهما، وإن كان مما لا يؤكل لحمه كالصقر والبازي ونحوهما ففي خرؤها خلاف في المذهب، فعند الإمام وأبي يوسف طاهر، وعند محمد نجس وأن نجاسته غليظة.
1 الخَفَشُ: صِغَر العينين وضعف في البصر، ويكون خلقة، وهو علة لازمة، وصاحبه يبصر بالليل أكثر من النهار، ويبصر في الغيم دون الصحو. والخفاش طائر مشتق من ذلك، لأنه لايكاد يبصر بالنهار. المصباح المنير للفيومي صفحة 175، القاموس المحيط للفيروز آبادي 765.
2 الكاساني 1/61 – 62.
أما ما لا يزرق في الهواء: فالاتفاق حاصل في المذهب على أنه خرءه نجس وذلك كالدجاج والبط.
أما في الأوز: فعن الإمام أبي حنيفة روايتان: نقل الأولى عنه أبو يوسف وقال فيها أنه ليس بنجس ومراده الخرؤ والثانية نقلها عنه الحسن فأورد أنه نجس.
وقال الحنفية: إن خرء الفأرة نجس، أما بالنسبة لبول الخفافيش وخرئها فليس بنجس.
مذهب المالكية: القول بأن أرواث البهائم من بول وعذرة ونحو ذلك نجسة إلاّ إذا كانت من مأكول اللحم ولم يتغذ بنجس فتكون طاهرة.
واختلفوا بالنسبة لفضلة ما تولد من مباح وغيره، واختلفوا في أثر وقوع روث البهائم في الماء أثناء شربها، وقدر العفو عن ذلك، فقالوا: إنه إذا وقع روث أو بول ماشية في ماء أثناء شربها منه فإن الماء لا يتنجس للضرورة التي تجعل هذا من الأمور المعفو عنها، سواء كانت الماشية نعماً أو غيرها، ومن المالكية من يرى نجاسة الماء إذا وقع فيه الروث، وإلى هذا ذهب ابن عرفة.
فقد جاء في مواهب الجليل: "وينجس كثير طعام مائع بنجس، قال ابن عرفة المشهور أن الطعام المائع ينجس بحلول يسير نجاسة"1
وجاء في جواهر الإكليل: "إن الماء لا يتنجس بوقوع روث وبول ماشية ألقته فيه حال شربها منه، سواء كانت الماشية نعماً أو غيرها"2.
وورد في الشرح الكبير: "
…
والطاهر بول وعذرة يعني روثاً من مباح أكله إلا المتغذي منه بنجس أكلاً أو شرباً تحقيقاً أو ظناً كشك، وكان شأنه ذلك كدجاج وفأر، لا إن لم يكن شأنه ذلك كحمام، وخرج بالمباح المحرم والمكروه وفضلتهما نجسة"3.
1 الحطاب 1/108.
2 الأزهري 1/7.
3 الدردير 1/51.
وفي حاشية الدسوقي: "قوله وبول وعذرة من مباح هذا وإن كان طاهراً لكنه يستحب غسل الثوب ونحوه عند مالك إما لاستقذاره أو مراعاة للخلاف، لأن الشافعية يقولون بنجاستها، وأما ما تولد من مباح وغيره من محرم أو مكروه كالمتولد من الغنم والسباع أو من البقر والحمير فهل تكون فضلته طاهرة أو نجسة، والظاهر أنه يلحق بالأم لقولهم كل ذات رحم فولدها بمنْزلتها
…
قوله يعني روثاً أي لأن العذرة إنما تقال لفضلة الآدمي، وأما فضلة غيره فإنما يقال لها روث. قوله إلا المتغذى بنجس أي فبوله وروثه نجسان مدة ظن بقاء النجاسة في جوفه"1.
وجاء في شرح منح الجليل: "إن روث وبول الماشية التي ألقته فيه حال شربها فليس منه مغيرة تغييراً كثيراً أو يسيراً، هذا الماء طهور إذ الروث عندهم غير طاهر فالتشبيه ليس تاماً، هذا هو المعروف من روايتي اللخمي، والرواية الأخرى تقييد الضرر بالكثير والعفو عن اليسير، وحمل عليها بعض الشارحين2 كلام المصنف فجعل التشبيه تاماً وسواء كانت الماشية نعماً أو غيرها، وفي المجموعة طهورية الغدير المتغير بروث النعم مطلقاً، ويستحسن تركه مع وجود غيره"3.
فيستفاد من نصوص المالكية: أن بول وعذرة المأكول اللحم طاهرة، إلاّ إذا كان متغذياً بنجس فإنها تنجس لهذا أو لمراعاة الخلاف فيها، وقال مالك باستحباب غسل الثوب منه لاستقذاره أو مراعاة للخلاف فيه، ونصوا على أن فضلة محرم الأكل أو مكروهه نجسة.
واختلفوا بالنسبة لفضلة ما تولد من مباح وغيره من محرم أو مكروه كالمتولد من الغنم والسباع أو المتولد من البقر والحمير، والظاهر: القول بأنه يلحق بالأم، أي إنه إذا كانت أمه مأكولة اللحم كانت فضلته طاهرة، وإلاّ كانت نجسة.
1 الدسوقي 1/51.
2 هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن غازي العثماني المكناسي. راجع: مواهب الجليل للحطاب 3/188،شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف صفحة 276.
3 الشيخ محمد عليش 1/19.
وقال المالكية: إن روث وبول الماشية الذي يقع منها في الماء أثناء شربها ولم يغير هذا الماء تغييراً قليلاً أو كثيراً لا يؤثر في الماء، ويظل ذلك الماء طهوراً، وهذه هي الرواية الأولى عند اللخمي المالكي، والرواية الثانية تقصر هذا الحكم على ما لو كان الروث أو البول الملاقي للماء أثناء شرب الماشية يسيراً حيث يكون هذا معفواً عنه دون الكثير من ذلك.
مذهب الشافعية: أن روث الماشية نجس، وأن الماء يتنجس بوقوعه فيه.
فقد جاء في المهذب: "
…
وروث وبول
…
أن هذه الأشياء نجسة، ومنها روث الماشية عندهم نجس، ويتنجس الماء بوقوعه فيه
…
"1.
وفي حاشية قليوبي: "قوله: وروث ولو من مأكول اللحم خلافاً لمالك فهو أعم من تعبير أصله بالعذرة لأنها فضلة الآدمي خاصة ومثله البول"2.
وفي مغني المحتاج: "
…
وروث ولو من سمك وجراد
…
" 3 يعني نجس.
فنصوص مذهب الشافعية: تفيد أن روث البهائم وما في حكمه كالبول نجس، وأن الماء يتنجس بوقوع هذه الأرواث فيه، فروث الحيوانات نجسة حتى ولو كان ذلك من سمك أو جراد أو من مأكول اللحم.
مذهب الحنابلة: القول بنجاسة أرواث البغال والحمير وسباع البهائم والطير والجوارح خاصة لو كانت من غير مأكول اللحم أو من إنسان غير الأنبياء، أما سائر الأنبياء فما يخرج عنهم فهو طاهر والنجس منا طاهر منهم.
فقد جاء في كشاف القناع: "وأبوالها وأرواثها" أي أن البغال والحمير وسباع البهائم والطير الجوارح نجسة
…
والبول والغائط من آدمي وما لا يؤكل نجسة، من غيره صلى الله عليه وسلم ومن غير سائر الأنبياء فالنجس منا طاهر منهم"4.
1 الشيرازي 1/171.
2 قليوبي 1/70.
3 الشربيني 1/113.
4 البهوتي 1/228.
فنص مذهب الحنابلة يفيد: على أن أرواث البهائم كلها نجسة وأن المائع يتنجس بوقوعها فيه كالماء ونحوه.
وأن هذا الحكم يشمل ما كان من مأكول اللحم ومن غيره، وأنه يسري على ما خرج من الإنسان بخلاف ما يخرج من الأنبياء فإنه على طهارته.
الموازنة: بمراجعة ما قاله الفقهاء بالنسبة لحكم الأرواث والأبوال من حيث الطهارة من عدمها نجد آراءهم تتبلور فيما يأتي:
المذهب الأول: يرى أن أرواث البهائم نجسة حتى ولو كانت من مأكول اللحم، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة.
المذهب الثاني: يرى أن بول وعذرة مأكول اللحم – أي مباح أكله - طاهر، وذلك بشرط ألا يكون قد تغذى بنجس، فإن كان قد تغذى بنجس فإن بوله وعذرته تكون نجسة تبعاً لذلك النجس الذي تغذى به، وإلى هذا ذهب المالكية، وهم في هذه الجزئية يتفقون مع الجمهور.
وقد أضاف المالكية أحكاماً أخرى في هذا الشأن فقالوا: إن روث البهائم الذي يقع منها أثناء شربها في الماء لا يؤثر في ذلك الماء، فيجوز الوضوء منه، فهو طهور إلا إذا غلب الروث على الماء؛ وفرق اللخمي منهم فقال: المعفو عنه والذي لا يؤثر في كون الماء طهوراً إنما هو القليل دون الكثير، أما الكثير فيؤثر في كون الماء طهوراً، وعليه لا يجوز الوضوء منه.
المذهب الثالث: فهو لزفر من الحنفية، وهو يفرق في الحكم بين روث ما يؤكل لحمه، وروث ما لا يؤكل لحمه فقال: روث ما يؤكل لحمه طاهر، وروث ما لا يؤكل لحمه نجس.
وعلى هذا فهو يتفق مع الجمهور بالنسبة لحكم روث ما لا يؤكل لحمه، في حين أنه يتفق مع المالكية بالنسبة لحكم ما يؤكل لحمه.
الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول: بما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله