الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: بيان حكم الشرع للصور بأنواعها
للصور والتصوير أنواع مختلفة باعتبارات مختلفة، فباعتبار الوسيلة المستخدمة فيه نوعان: تصوير يدوي، سواء كان ذلك التصوير مسطحا أو كان مجسما، أما النوع الثاني فهو التصوير الآلي، وهذا النوع له أقسام متعددة: فمنه التصوير الفوتوغرافي، ومنه السنمائي، ومنه التلفزيوني، ومنه التصوير بالأشعة.
وينقسم التصوير باعتبار ذات الصورة - أي من حيث طبيعة الصورة نفسها - إلى قسمين: الأول: التصوير المجسم، والثاني: التصوير المسطح.
كما أن التصوير ينقسم كذلك من حيث الحياة وعدمها إلى قسمين: الأول: صور ذوات الروح. أما الثاني: صور غير ذوات الروح 1.
المطلب الأول الصور المجسمة
وهي التي تعرف في الواقع بالتماثيل، والتي تعتبر في السابق والحاضر من مظاهر الترف والتنعم يزين بها أرباب الترف بيوتهم وقصورهم ويتفننون في صنعها.
والمراد بالتصوير المجسم: كل تمثال أو صورة لها جسم شاخص وحجم بارز وأعضاء نافرة، إن كانت الصورة لذي روح، تشغل حيزا من الفراغ يدرك بالنظر وباللمس معا، ويكون لها بسبب ذلك الجسم البارز ظل إذا قابلت أحد مصادر الضوء، سواء كانت هذه الصورة كاملة أو ناقصة، مشوهة أو غير مشوهة، وسواء كانت لإنسان، أو حيوان لذي روح، أو لغير ذي روح2.
وقد أجمع الفقهاء على حرمة اتخاذ واقتناء هذا النوع من الصور المجسمة، والتي
1 التصوير والحياة للدكتور/محمد نبهان سويلم صفحة 46، والتصوير بين حاجة العصر وضوابط الشريعة للدكتور/محمد توفيق رمضان البوطي صفحة 101.
2 التعريفات للجرجاني صفحة 177 - 178، تفسير آيات الأحكام للصابوني 2/392، والمجموع الثمين لابن عثيمين 1/153.
تتميز بأنها تحتوي على ظل، حيث وردت الأحاديث الصحيحة والصريحة بالنهي عن صناعتها وعن تصوير ما فيه روح، سواء كان إنساناً أو حيواناً أو طيراً، ولا غرابة في محاربة الإسلام الحنيف لهذه التماثيل وتواجدها في بيوت المسلمين، وعلة تحريم التصوير على هذا النحو متعددة فمنها: أن التصوير فيه مضاهاة لخلق الله سبحانه، وتشبيه فعل المخلوق بفعل الخالق، وأن صناعة صور ذوات الروح المحرمة واتخاذها فيه تشبيه بفعل من كانوا يصنعون الصور والتماثيل ويعبدونها من دون الله تعالى، فقد كان أهل الشرك ومن نحا نحوهم من اليهود والنصارى يضعون الصور والتماثيل ليتخذوها واسطة بين الله وخلقه، أو لأجل أن تذكرهم بحال الأنبياء والصالحين، كما صنع قوم نوح وأهل الكتاب، ثم آل بهم الأمر إلى عبادتها من دون الله الواحد القهار، فقد كان تصوير ذوات الأرواح وسيلة إلى الغلو فيها من دون الله تعالى، وربما جر ذلك إلى عبادة تلك الصورة وتعظيمها، هذا فضلاً أن النهي عن إضاعة المال وتبذيره، والمعروف أن إنفاق المال في التصوير والصور مما لا ضرورة إليه، ولا مصلحة تترتب عليه، وفيه إسراف وتبذير.
موقف الفقهاء من التصوير للصور المجسمة لذوات الأرواح:
مذهب الحنفية: القول بكراهة الصورة المجسمة لذوات الأرواح، حيث نصت كتبهم على عدم كراهة تصوير غير ذي الروح كالشجر، وبينت المراد من النهي الوارد هنا إنما هو ذي الروح. فقد جاء في شرح فتح القدير:".... والتمثال خاص بمثال ذي الروح لكن المراد هنا ذو الروح فإن غير ذي الروح لا يكره كالشجر،.."1. وفي بدائع الصنائع: "
…
وكذا النهي إنما جاء عن تصوير ذي الروح،.." 2. وفي البناية شرح الهداية: "
…
التمثال ما يصور تشبيها بخلق الله تعالى من ذوات الروح، والصورة عام، وروى عن ابن عباس ما يدل على أن التمثال والصورة واحد وهو أنه نهى مصوراً عن التصوير فقال كيف أصنع وهو كسبي؟ فقال: إن لم يكن لك بد
1 ابن الهمام 1/414.
2 الكاساني 1/116.
فعليك بتمثال الأشجار،.." 1.
فقد نصت كتب الحنفية على عدم كراهية غير ذوي الروح، وهذا يفهم منه أن تصوير ذي الروح مكروه شرعاً.
مذهب المالكية: القول بتحريم الصورة المجسمة لذوات الأرواح، أي ماله ظل ويقيم، فهو حرام. فقد جاء في حاشية الخرشي: "
…
التمثال إذا كان لغير حيوان كالشجر جائز، وإذا كان لحيوان فماله ظل ويقيم فهو حرام بإجماع،.. وما لا ظل له إذا كان غير ممتهن فهو مكروه، وإن كان ممتهنا فتركه أولى،.." 2.
فالتمثال إذا كان لغير حيوان كان جائزاً، أما إذا كان لحيوان، فإن كان له ظل فهو حرام، وإن لم يكن له ظل، فإن كان غير ممتهن، كان مكروهاً، وإن كان ممتهناً فالأولى تركه.
وجاء في شرح منح الجليل: ".... يحرم صور مجسدة لحيوان عاقل أو غيره، كامل الأعضاء الظاهرة التي لا يعيش بدونها ولها ظل على كجدار لا مبنية في وسطه، لأنها لا ظل لها، كالنقش، ويحرم تصوير ما استوفى الشروط المتقدمة، إن كان يدوم كخشب وطين وسكر وعجين إجماعاً، وكذا إذا كان لا يدوم كقشر بطيخ خلافاً لأصبغ، وغير ذي الظل يكره إن كان في غير ممتهن كحائط وورق، فإن كان في ممتهن كحصير وبساط فخلاف الأولى،.."3.
يستفاد من هذا النص: أن الصور المجسدة لحيوان عاقل أو غير عاقل يحرم صنعها، ويحرم تصوير ما استوفى الشروط، بأن كان كامل الأعضاء الظاهرة التي لا يعيش بدونها، ولها ظل إن كان يدوم كخشب وطين وسكر وعجين إجماعاً، وكذلك الحكم إذا كان لا يدوم كما لو صنع من قشر البطيخ خلافاً لما ذهب إليه أصبغ، أما غير ذي الظل فإنه مكروه إذا كان في غير ممتهن، كحائط وورق، أما إذا كان في ممتهن كحصير
1 العيني 2/455.
2 الخرشي 4/395.
3 الشيخ محمد عليش 2/166 – 167.
ونحوه كان اتخاذه خلافاً للأولى.
مذهب الشافعية: القول بتحريم الصورة المجسمة لذوات الأرواح، وقال بعضهم بجواز ذلك. فقد جاء في الزواجر عن اقتراف الكبائر: "
…
وأما فعل التصوير لذي الروح فهو حرام مطلقاً، وإن أغفل من الصورة أعضاؤها الباطنة أو بعض الظاهرة مما توجد الحياة مع فقده
…
وأما المصور صورة الحيوان فإن كان معلقاً على حائط أو ملبوس كثوب وعمامة أو نحوه مما لا يعد ممتهناً فحرام، أو ممتهناً كبساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها فلا يحرم
…
"1.
"
…
ويحرم تصوير حيوان
…
قال المتولى2: وسواء أعمل لها رأساً أم لا؟ وقال الأوزاعي: إن المشهور عندنا جواز التصوير إن لم يكن له رأس،.. وهذا هو الظاهر"3.
وجاء في الحاوي الكبير "وقال أبو سعيد الإصطخري 4: إنما كان التحريم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لقرب عهدهم بالأصنام ومشاهدتهم بعبادتها ليستقر في نفوسهم بطلان عبادتها وزوال تعظيمها، وهذا المعنى قد زال في وقتنا لما قد استقر في النفوس من العدول عن تعظيمها، فزال حكم تحريمها وحظر استعمالها، وقد كان في الجاهلية من يعبد كل ما استحسن من حجر أو شجر، فلو كان حكم الحظر باقياً لكان استعمال كل ما استحسن حراما
…
" 5.
1 الهيتمي 2/62 – 63.
2 عبد الرحمن بن مأمون النيسابوري أبو سعد المعروف بالمتولي فقيه مناظر عالم بالأصول ولد بنيسابور سنة 426? وتعلم بمرو وتولى التدريس بالمدرسة النظامية من مصنفاته "تتمة الإبانه للفوراني" وكتاب في "الفرائض" توفي رحمه الله سنة 478 هـ. راجع: الأعلام للزركلي 3/323.
3 مغني المحتاج للشربيني 3/316.
4 هو أبو سعيد الحسين بن أحمد الإصطخري، "244 – 328 هـ"، قال الأسنوي: كان هو وابن سريج شيخي الشافعية ببغداد، وصنف كتباً كثيرة منها:"أدب القضاة"، وكان زاهداً متقللاً من الدنيا ولكن في أخلاقه قدوة، ولاّه المقتدر بالله قضاء سجستان فرفض، ثم حبسه ببغداد. راجع: طبقات الشافعية للأسنوي 1/34.
5 الماوردي 9/564.
فمذهب الشافعية: أن فعل التصوير للصور المجسمة لذوات الأرواح محرم شرعاً، حتى ولو أغفل من الصور ما يستشف منه ملامحها، وأما صورة الحيوان على ما هو ممتهن كسجادة أو بساط أو مخدة أو وسادة ونحو ذلك فلا بأس به، وقال المتولى: التصوير للحيوان حرام، سواء كان للصورة رأس أم لا؟ وقال الأوزاعي إن المشهور عند الشافعية جواز التصوير لما لا رأس له، وذكر صاحب المغني أن هذا هو الظاهر.
غير أن صاحب الحاوي الكبير قد أورد أن أبا سعيد الأصطخري قال إن هذا التحريم كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لقرب العهد بالأصنام، وحيث زال هذا المعنى، فلا معنى للقول بالتحريم، وقال إنه لو كان حكم الحظر باقياً لكان استعمال كل ما استحسن حراماً.
مذهب الحنابلة: القول بحرمة تصوير ما فيه روح خلافاً للأجرى وغيره. فقد جاء في الإنصاف: ".... يحرم تصوير ما فيه روح
…
وأطلق بعضهم تحريم التصوير،.. وقال في الوجيز: ويحرم التصوير واستعماله، وكره الآجري1 وغيره
…
يحرم تعليق ما فيه صورة حيوان وستر الجدار به وتصويره على الصحيح من المذهب وقيل: لا يحرم.... وهو ظاهر ما جزم به في المغني والشرح،
…
ولا يحرم افتراشه ولا جعله مخدة بل ولا يكره فيها،.."2.
فمذهب الحنابلة: حرمة تصوير ما فيه روح، وعند الآجري وغيره هذا التصوير مكروه، ويحرم تصوير الحيوان وستر الجدار بصورته، وقيل لا يحرم ولا يحرم افتراشه، ولا جعله مخدة، بل ولا يكره ذلك.
الموازنة: بمراجعة نصوص الفقهاء بشأن حكم الشرع بالنسبة لتصوير ذي الروح يتضح الآتي:
الحنفية يرون كراهة تصوير ذي الروح، ونصوا على أن تصوير غير ذي الروح
1 هو أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي الآجري، من تآليفه الشريعة وآداب العلماء، توفي رحمه الله بمكة عام 360?. راجع: تاريخ بغداد للبغدادي 2/343، سير أعلام النبلاء للذهبي 16/133-136.
2 المرداوي 1/436.
ليس بمكروه.
المالكية أن الاتفاق حاصل لديهم بشأن تحريم الصور المجسدة لحيوان عاقل أو غير عاقل، كالتمثال ونحوه، طالما كان كامل الأعضاء، أو كان له ظل ويدوم، أي يمكن استمراره، وأن الخلاف فيما لو كان التمثال مصنوعاً مما لا يدوم، كما لو صنع من قشر البطيخ مثلا، فالمذهب أنه الآخر يحرم تصويره، ويرى أصبغ أنه غير محرم، وقالوا بالنسبة لغير ذي الظل: إنه إن كان في غير ممتهن كحائط وورق فإن تصويره يكون مكروهاً، وإن كان ممتهناً كحصير وبساط كان تصويره خلاف الأولى.
أن الخلاف حاصل بين الشافعية بشأن التصوير لذي الروح من حيوان وغيره.
أ – فالمذهب أن فعل التصوير لذي الروح حرام مطلقاً، حتى وإن أغفل من الصورة بعض أجزائها، أي بأن كانت غير مكتملة، وإلى هذا ذهب المتولي موافقاً لأصل المذهب هنا.
ب – وقيل: إن المصور صورة الحيوان على ما لا يعد ممتهناً، فإن التصوير يكون حراماً بخلاف ما لو كانت الصورة هذه معلقة على ممتهن كبساط يداس، ومخدة، ووسادة، فلا يحرم.
ج – وقال الأوزاعي: إن المشهور عندنا جواز التصوير إن لم يكن له رأس، وهذا هو الظاهر في المذهب.
د – وقال الإصطخري: إن التصوير جائز مطلقاً، لأن تحريمه كان في بداية عهد الناس بالإسلام مع قرب عهدهم بالأصنام، وقد زال هذا السبب الآن.
أما مذهب الحنابلة في التصوير فعلى الخلاف الآتي:
أ – أن التصوير محرم مطلقاً، أي سواء كان لذي الروح أم لا، وهذا ما أطلقه بعض الحنابلة وما نص عليه في الوجيز من حرمة التصوير واستعماله.
ب – وقال الآجري ومن معه بكراهة التصوير مطلقاً، أي سواء كان لذي روح أم لا؟
ج – أن التصوير لذي الروح فقط هو المحرم، ويفهم منه أن غير ذي الروح لا يحرم تصويره، وهذا أصل المذهب الحنبلي.
وعلى هذا فمن خلال النظر في الآراء السابقة نستخلص في المسألة أربعة مذاهب:
المذهب الأول: يرى تحريم التصوير لذي الروح، وهي الصور المجسمة لحيوان أو غيره، سواء كان ذلك عاقلاً أم لا؟ وإلى هذا ذهب المالكية والشافعية في أصل مذهبهم، وهذا ما قال به المتولي وغيره، وهذا ما أطلقه بعض الحنابلة، وما نص عليه في الوجيز.
المذهب الثاني: يرى كراهة تصوير ذي الروح، وهذا ما ذهب إليه الحنفية بعد أن نصوا على عدم كراهة تصوير غير ذي الروح، وهو مذهب الآجري، ومن معه من الحنابلة.
المذهب الثالث: يرى جواز تصوير غير ذي الروح طالما كان بلا رأس، أو بدون الأجزاء التي يعيش منها، وهو قول المالكية والأوزاعي من الشافعية.
المذهب الرابع: التصوير جائز مطلقا، وهو مذهب الإصطخري من الشافعية.
الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول القائلون بحرمة الصور المجسمة بما يأتي:
1-
أن القرآن الكريم حقر التماثيل، وقلل من شأنها، واستهان بها وبصانعيها، وعابديها، وسفه أحلامهم، وضلل عقولهم، كما أخبر أن الذين يصنعون هذه التماثيل هالكون ومدمرون لا محالة، وما ذلك إلا لشدة تحريم صناعتها واتخاذها.
وقد وردت آيات قرآنية كثيرة تبين هذه المعاني؛ منها:
قوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ*وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1.
1 سورة الصافات: الآية 95 – 96.
2 سورة الأنبياء: الآية 51 – 54.
2-
ما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم"1.
3-
ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصباً، فجعل يطعنها بعود في يده وهو يقول:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} 2 3.
4-
ما رواه جابر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب زمن الفتح وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها حتى محيت كل صورة فيها"4.
5-
عن أبي الهياج الأسدي5 قال: قال لي علي رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته"6.
واستدل أصحاب المذهب الثاني القائلون بكراهة الصور المجسمة لذي الروح: بذات الأدلة التي ساقها القائلون بالتحريم، غير أنهم نحوا ناحية تفسيرها على غير عمومها، وحملوا النهي الوارد بشأنها على محمل الكراهة، ليشفع ذلك لهم في استدلالهم على وجه كراهة ذلك التصوير.
واستدل أصحاب المذهب الثالث القائلون بإباحة الصور المجسمة وجواز صنعها بما يلي:
1-
قوله تعالى {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} 7.
1 أخرجه البخاري برقم 5607 ومسلم برقم 2108.
2 سورة الإسراء: الآية 81.
3 أخرجه البخاري برقم 2346 وبرقم 4036، وبرقم 4443،ومسلم برقم 1781.
4 أخرجه أحمد في المسند 3/335، 336، 383، وأبو داود برقم 4156، وابن حبان في صحيحه 13/168.
5 هو حيان بن حصين أبو الهياج الأسدي الكوفي، ثقة. راجع: تقريب التهذيب لابن حجر صفحة 86.
6 أخرجه مسلم في كتاب الجنائز باب الأمر بتسوية القبر برقم 969.
7 سورة المائدة: الآية 110.
حيث إن عمل عيسى عليه السلام وخلقه من الطين كهيئة الطير يعد تصويراً لذوات الأرواح من الطير، ومع ذلك لم ينكر الله تعالى عليه فعله، بل امتن عليه بذلك وجعلها نعمة منه سبحانه على سيدنا عيسى عليه السلام، وفي هذا الدلالة على جواز صناعة التماثيل والصور لذوات الأرواح 1.
2-
قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} 2.
حيث دلت هذه الآية على أن صناعة التماثيل في شريعة سيدنا سليمان عليه السلام كانت جائزة، فقد أخبر الله سبحانه بهذا ممتنا عليه بذلك.
3-
قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "يا عائشة إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة: المصورون"3.
حيث حمل الوعيد الوارد في الحديث على من صنع التماثيل لتعبد من دون الله تعالى فقط4.
4-
ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن الله سبحانه وتعالى: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي فليخلقوا ذره أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة"5.
فإن هذا الحديث وأمثاله كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الذين يضاهون بخلق الله" 6، وفي بعض الروايات:"الذين يشبهون بخلق الله" بعد أن قال: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة".
إن هذه النصوص يتعين حملها على من قصد بتصويرها أن تحدى صنعة الخالق
1 الموسوعة الفقهية الكويتية 12/101.
2 سورة سبأ: الآية 13.
3 أخرجه البخاري برقم 5758، ومسلم برقم 2107.
4 الموسوعة الفقهية الكويتية 12/101.
5 الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري برقم 5609 ومسلم برقم 2110.
6 الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في الفتح 1/385 ومسلم 3/ 1671.
عز وجل، ويفتري عليه بأن يخلق مثل خلقه، أما من لم يقصد بذلك فلا 1.
واستدل الإصطخري -صاحب المذهب الرابع، القائل بجواز التصوير مطلقا- استدل بأن التحريم كان مقرراً على عهد النبوة وذلك لقرب العهد بالأصنام، وقرب مشاهدة الناس لعبادة الأصنام، فحرم التصوير واتخاذ التماثيل حتى يستقر في نفوسهم بطلان عبادة الأوثان، ولما كان هذا المعنى المقصود من التحريم غير موجود الآن بسبب استقرار النفوس على العدول عن تعظيم الأصنام، فإن التحريم يكون لا معنى له، لأن المقرر أن الحكم يدور مع علته، وأنه يزول بزواله علته، وقد زالت العلة فيزول الحكم ويبقى التصوير على الإباحة والجواز، ودعم الاصطخري استدلاله هذا بقوله إنه لو كان حكم الحظر باقياً لكان استعمال كل من استحسن محرماً، وهو لم يقل به أحد.
والراجح في هذا: هو القول بتحريم الصور المجسمة لذي الروح، كالإنسان والحيوان والتي تعرف بالتماثيل، حيث إنه يشتمل على المضاهاة لخلق الله سبحانه، وبالتالي فلا يجوز بيعها أو شراؤها ونحو ذلك من جميع التصرفات الأخرى. والله تعالى أعلم.
ومن المسائل المفرعة: حكم صناعة واتخاذ هذه الصور إذا كانت غير ممتهنه، كأن تكون معلقة، أو منصوبة مصانة عن الوطء أو الدوس ونحوهما، فقد اختلف الفقهاء في هذا:
مذهب الحنفية: القول بكراهة اتخاذ الصور غير الممتهنة. فقد جاء في شرح فتح القدير: "ويكره أن يكون فوق رأسه في السقف، أو بين يديه، أو بحذائه تصاوير أو صورة معلقة،.."2. وجاء في بدائع الصنائع: "
…
وكذا يكره الدخول إلى بيت فيه صور على سقفه أو حيطانه أو على الستور والأزر والوسائد والعظام...."3.
1 الموسوعة الفقهية الكويتية 12/100 – 101.
2 ابن الهمام 1/415.
3 الكاساني 1/116.
فالمستفاد من نصوص الحنفية: القول بكراهة الصور غير الممتهنة كالصور على السقف أو الحيطان والوسائد ونحوها، وكأن الحنفية سووا في الحكم بين الصور الممتهنة وغير الممتهنة في الحكم وهو الكراهية.
مذهب المالكية: قالوا بكراهة اتخاذ الصور غير الممتهنة. فقد جاء في حاشية الدسوقي: ".... وغير ذي ظل كالمنقوش في حائط، أو ورق، فيكره إن كان غير ممتهن،.."1. وجاء في مواهب الجليل: "
…
وما لا ظل له فإن كان غير ممتهن فهو مكروه"2.
فالمستفاد من نصوص المالكية: أن اتخاذ الصور غير الممتهنة كالصور المنقوشة في حائط أو ورق ونحو ذلك مكروه شرعاً.
مذهب الشافعية: قالوا بحرمة اتخاذ الصور غير الممتهنة. فقد جاء في الزواجر عن اقتراب الكبائر: "
…
وأما المصور صورة الحيوان فإن كان معلقاً على حائط، أو ملبوس كثوب أو عمامة مما لا يعد ممتهناً فحرام،.."3. وفي شرح النووي على مسلم:"وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان، فإن كان معلقاً على حائط، أو ثوباً ملبوساً، أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد ممتهناً، فهو حرام،.."4.
فمذهب الشافعية: أن اتخاذ الصور غير الممتهنة كالمعلق على الحوائط ونحو ذلك محرم شرعاً، فصورة الحيوان في المعلق على حائط أو ملبوس كثوب أو عمامة مما لا يعد ممتهناً فهو حرام.
مذهب الحنابلة: قالوا بحرمة اتخاذ الصور غير الممتهنة. فقد جاء في كشاف القناع: "ويحرم على ذكر وأنثى لبس ما فيه صورة حيوان،.. وتعليقه، أي ما فيه صورة.
1 الدسوقي 2/338.
2 الحطاب 1/552.
3 الهيتمي 2/63.
4 14/81.
وستر الجدر به، وتصويره، كبيرة للوعيد عليه،.."1.
وجاء في حاشية الروض المربع: "
…
فتصوير الحيوان حرام وكبيرة، سواء صنعه لما يمتهن أو لغيره، وسواء كان في الدراهم أو الحيطان أو الثياب أو الورق،.."2.
فمذهب الحنابلة: حرمة اتخاذ الصور غير الممتهنة، وتعليق ذلك على الجدار، وقد سووا بين الممتهن وغيره، وقالوا تصوير الحيوان حرام وكبيرة، سواء صنعه لما يمتهن أو لغيره، وسواء كان في الدراهم أو الحيطان أو الثياب أو الورق أو نحو ذلك.
الموازنة: بمطالعة ما قاله الفقهاء بشأن تصوير الصور في غير الممتهن كأن تكون معلقة مصانة عن الدوس والوطء ونحو ذلك يتضح الآتي:
أ - أن الحنفية وكذا المالكية يرون كراهية اتخاذ مثل هذه الصور.
ب - أن الشافعية وكذا الحنابلة يرون حرمة اتخاذ مثل هذه الصور.
فخلاصة الأقوال في هذه المسألة مذهبان:
المذهب الأول: يرى كراهة اتخاذ وصناعة الصور غير الممتهنة، وإلى هذا ذهب الحنفية والمالكية.
المذهب الثاني: يرى حرمة اتخاذ وصناعة الصور غير الممتهنة، وإلى هذا ذهب الشافعية والحنابلة.
الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول القائلون بكراهة اتخاذ الصور غير الممتهنة:
1-
بما روى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حيث قالت: كان لنا ستر فيه تمثال ظاهر، وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا"3.
فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهتكه أو نزعه بل أمر بتحويله فقط، وهذا يدل على الكراهة
1 البهوتي 1/329 – 330
2 ابن القاسم 1/516.
3 الحديث أخرجه مسلم كتاب اللباس والزينة باب تحريم تصوير صورة الحيوان برقم 2107.
فقط.
2-
بما روي عن أنس رضي الله عنه قال: كان قرام1 لعائشة رضي الله سترت به جانب بيتها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أميطى هذا عني فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي"2.
واستدل أصحاب المذهب الثاني القائلون بتحريم اتخاذ الصور غير الممتهنة:
1 -
بعموم الأدلة الدالة على تحريم الصور مطلقاً، والتي سبق عرضها كأدلة لمن قال بتحريم الصور مطلقاً.
2-
أن متخذ الصور قد تشبه بالكفار الذين يتخذون الصور في بيوتهم، ويعظمونها، فكرهت الملائكة ذلك، لأن اتخاذ الصور معصية، والمعصية تمنع دخول الملائكة لبيته وصلاتها فيه واستغفارها وتبريكها عليه.
والذي يترجح لدي: هو ما قال به الشافعية والحنابلة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنع عن دخول البيت الذي فيه ستر عليه صورة، وأمر بنَزعه وهتكه، وما ورد في بعض روايات الحديث أنه أظهر كراهيته له وتركه، فهذا -والله أعلم- محمول على صورة غير ذي الروح كالشجرة ونحوه كما قال الحافظ في الفتح، أو يحمل هذا على أنه كان قبل التحريم، كما أشار إليه النووي في شرحه على مسلم، وبالتالي لا يجوز بيع صور ذي الروح التي تعلق على الحائط أو التي توجد في الستائر المعلقة، لأنها غير ممتهنة لما في ذلك من المعصية وشيوع المنكر. والله تعالى أعلم.
حكم الصور الممتهنة:
مذهب الحنفية: لم تصرح كتب الحنفية بحكم الصور الممتهنة غير أنه يفهم من قولهم بكراهة الصور المجسمة لذي الروح، وأنه إذا كانت الصورة غير مجسمة وكانت لغير ذي الروح أو كانت ممتهنة فإنه لا بأس من اتخاذها واستعمالها، تخريجاً على مفهوم قولهم بالكراهة
1 القِرام: الستر الرقيق، وبعضهم يزيد وفيه رقم ونقوش. المصباح المنير للفيومي صفحة 500 القاموس المحيط للفيروز آبادي 1482.
2 الحديث أخرجه البخاري برقم 367، برقم 5614.
فيما عدا ذلك.
مذهب المالكية: أن التصوير الموضوع على ما هو ممتهن كحصير وبساط فالأولى تركه. فقد جاء في حاشية الخرشي: "وإن كان ممتهناً فتركه أولى،.."1. وفي شرح منح الجليل: "
…
وإن كان في ممتهن كحصير وبساط فخلاف الأولى،.."2.
مذهب الشافعية: القول بعدم حرمة الصور على الممتهن كبساط ووسادة ونحو ذلك، ولعل هذا فيه احتمال الجواز. فقد جاء في الزواجر عن اقتراف الكبائر: "
…
أو ممتهنا كبساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها فلا يحرم،
…
"3.
فمذهب الشافعية: أن صورة الحيوان على ما هو ممتهن كسجادة أو بساط أو حصيرة أو مخدة أو وسادة ونحو ذلك أنه لا بأس من استعمالها واتخاذها.
مذهب الحنابلة: النص على أنه لا يحرم افتراش ما فيه صورة، ولا جعله مخدة، بل وأنه لا يكره فيها ذلك. فقد جاء في الإنصاف: "
…
ولا يحرم افتراشه ولا جعله مخدة، بل ولا يكره فيها،.."4.
الموازنة: حاصل هذه المذاهب أن اتخاذ ما فيه صورة واستعماله على نحو الامتهان كأن كان موضوعاً في وسادة أو مخدة أو بساط أو حصير ونحو ذلك لا بأس به، مع خلاف لفظي في التعبير عن هذا ما بين التصريح بهذا، أو من قال بأنه خلاف الأولى، أو من نص صراحة على عدم حرمة ذلك وعدم كراهته، كما فعل الحنابلة، أو أنه نص على تحريم تصوير ذي الروح وسكت عن غيره، فما يفهم منه أنه لا بأس من استخدامه، خاصة مع وجه امتهانه.
وهذا هو تحقيق القول في مسألة اتخاذ ما به صورة لحيوان ونحوه من شجر وغير ذلك طالما كانت على وجه الامتهان، وهذا هو الراجح في المسألة، تقريراً لوجه ما
1 الخرشي 4/395.
2 الشيخ عليش 2/166 – 167.
3 الهيتمي 2/62 – 63.
4 المرداوي 1/436.