الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للنص على تحريم التداوي بالمحرمات، فقد بين القرآن الكريم أن الخمر رجس وأمر باجتنابها، وهذا عام في كل شيء لم يقيد، فيعم ترك شربها، وترك التداوي بها، وترك بيعها وشرائها، ولأنه صلى الله عليه وسلم بين أنها داء وليس من المعقول طلب الشفاء بالداء، وهذا هو الأصل في المسألة غير أنه إذا حصل اليقين أو غلبة الظن بأنه لا يمكن إنقاذ الحياة إلا بهذا الدواء المحرم مع التيقن بأن هذا الدواء الحرام يعد منقذاً للحياة عادة فإنه لا مانع من التداوي به على هذا النحو بهذه الضوابط والله تعالى أعلم.
المطلب الثاني: حكم بيع الخمر
اختلف الفقهاء بشأن حكم بيع الخمر، وذلك على النحو الآتي:
مذهب الحنفية: قالوا بأنه لا يجوز بيع الخمر، لأنه يحرم على المسلم تملكها والانتفاع بها، فإذا كانت الخمر ثمناً، فالبيع فاسد، وإذا كانت الخمر مبيعاً فإذا كان الثمن ديناً أو نقوداً فالبيع باطل، أما إذا كان الثمن عيناً فالبيع فاسد.
فقد جاء في بدائع الصنائع: "
…
ومنها أنه يحرم على المسلم تمليكها وتملكها بسائر أسباب الملك، من البيع والشراء وغير ذلك، لأن كل ذلك انتفاع بالخمر، وأنها محرمة الانتفاع على المسلم
…
إلا أنها تورث لأن الملك في الموروث ثبت شرعاً من غير صنع العبد فلا يكون ذلك من باب التمليك والتملك، والخمر إن لم تكن متقومة فهي مال عندنا فكانت قابلة في الجملة
…
أن البيع مبادلة شيء مرغوب فيه بشيء مرغوب فيه قال الله تبارك وتعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 1 وقد وجد هنا لأن الأشربة مرغوب فيها، والمال اسم لشيء مرغوب فيه، إلا أن الخمر مع كونها مرغوباً فيها لا يجوز بيعها بالنص الذي روينا، والنص ورد باسم الخمر فيقتصر على مورد النص، وعلى هذا الخلاف إذا أتلفها إنسان يضمن عنده أي عند أبي حنيفة -وعندهما- أي عند الشيخين لا
1 سورة البقرة: الآية 16.
يضمن
…
"1.
وجاء في حاشية ابن عابدين: "
…
ولا يجوز بيعها، لأن الله تعالى لما نجسها فقد أهانها والتقوم يشعر بعزتها
…
"2.
فعدم جواز بيع الخمر عند الحنفية مبني على أن الخمر نجسة، وأن هذه النجاسة تجعلها مهانة فلا يستساغ تقويهما، فلا تكون محلاً للبيع، فإذا كان المقابل في عقد بيعها نقداً فيبطل البيع، لأن الخمر تكون المقصود بالتملك بخلاف ما إذا كان المقابل في عقد بيعها عيناً فإن البيع يكون فاسداً باعتبار أن حقيقة البيع قد تحققت وهي مبادلة مال بمال فهي أقرب ما تكون إلى عقد المقايضة عند غيرهم.
"
…
والبيع بالخمر والخنْزير فاسد لوجود حقيقة البيع، وهو مبادلة المال بالمال، فإنه مال عند البعض، والباطل لا يفيد ملك التصرف
…
وأما بيع الخمر والخنْزير إن كان قوبل بالدين كالدراهم والدنانير، فالبيع باطل، وإن كان قوبل بعين، فالبيع فاسد حتى يملك ما يقابله، وإن كان لا يملك عين الخمر والخنْزير، ووجه الفرق: أن الخمر مال وكذا الخنْزير مال عند أهل الذمة، إلا أنه غير متقوم، كما أن الشرع أمر بإهانته وترك إعزازه وفي تملكه بالعقد مقصوداً إعزاز له، وهذا لأنه متى اشتراهما بالدراهم، فالدراهم غير مقصودة، لكونها وسيلة، كما أنها تجب في الذمة. وإنما المقصود الخمر، فسقط التقويم أصلاً، بخلاف ما إذا اشترى الثوب بالخمر، لأن المشتري للثوب إنما يقصد تملك الثوب بالخمر، وفيه إعزاز بالثوب دون الخمر، فبقي ذكر الخمر معتبراً في تملك الثوب بالخمر، لا في حق ملك نفس الخمر، حتى فسدت التسمية ووجبت قيمة الثوب دون الخمر، وكذا إذا باع الخمر بالثوب، لأنه يعتبر شراء الثوب بالخمر مقايضة
…
"3.
فالنص يفيد أن بيع الخمر، إن كان مقابل البيع ديناً كالدراهم والدنانير، فإن البيع
1 الكاساني 5/113 – 115.
2 ابن عابدين 10/33.
3 الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني 6/403 – 405.
يكون باطلاً، وإن كان مقابل بيع الخمر عيناً، فإن البيع يكون فاسداً، ومقابل البيع يملك فشراء الثوب بالخمر يعتبر مقايضة، وإن كان لا يملك عين الخمر، والخمر مال عند أهل الذمة، لكنه غير متقوم، لأن الشرع أمر بإهانته وترك إعزازه، وحين تشتري الخمر بالدراهم، تكون الدراهم غير مقصودة، لأنها وسيلة لما أنها تجب في الذمة، وإنما المقصود بالعقد هو الخمر فسقط التقويم أصلاً. وهذا بخلاف الحال حين يشتري الثوب بالخمر، لأن المشتري للثوب إنما يقصد تملك الثوب بالخمر وفيه إعزاز للثوب دون الخمر.
وجاء في اللباب في شرح الكتاب: "
…
إذا كان أحد العوضين أو كلاهما محرماً فالبيع فاسد، كالبيع بالميتة أو بالدم أو بالخمر أو بالخنْزير
…
"1.
مذهب المالكية: القول بعدم جواز بيع الخمر وما في حكمها من النجاسات، وذلك لأن الله سبحانه لما جعلها نجسة فقد أهانها، وبيعها يشعر بتقويمها وعزتها، وهذا مناف لما تقرر من نجاستها.
فقد جاء في مواهب الجليل: "
…
ولا يجوز بيع الحر، والخنْزير، والقرد، والخمر، والدم
…
"2. فقد نص على عدم جواز بيع بعض الأشياء، وعد منها صراحة الخمر، فتقرر عدم جواز بيعها.
وجاء في المقدمات الممهدات: "
…
فأما ما لا يصح ملكه فلا يجوز بيعه بإجماع كالحر والخمر والخنْزير
…
"3.
فقد دل النص على أن الخمر لا يصح تملكها، وعلى هذا لا يجوز بيعها، ذلك لأن الإجماع منعقد على أن ما لا يصح تملكه فلا يجوز بيعه.
وجاء في القوانين الفقهية: "
…
وأما الثمن والمثمون فيشترط في كل واحد منهما
…
أن يكون طاهراً منتفعاً به، معلوماً مقدوراً على تسليمه فقولنا "طاهراً"
1 الغنيمي 1/194.
2 الحطاب 4/265.
3 ابن رشد 2/62.
تحرزا، من النجس، فإنه لا يجوز بيعه كالخمر والخنْزير
…
"1.
دل نص القوانين الفقيهة على عدم جواز بيع الخمر تمشياً مع أصل المذهب المالكي بكون الخمر نجسة غير طاهرة، وبناء عليه منع بيعها لنجاستها، لأن من شروط صحة البيع عند المالكية طهارة الثمن والمثمون.
مذهب الشافعية: قالوا بعدم صحة بيع الخمر، لكونها نجسة في نفسها، لأنهم يرون أن الأعيان ضربان: نجس، وطاهر، والنجس على ضربين نجس في نفسه، ونجس بملاقاة نجاسة، والنجس في نفسه لا يجوز بيعه، والخمر نجسة العين.
فقد جاء في مغني المحتاج: "
…
فلا يصح بيع الكلب والخمر
…
"2. وفي نهاية المحتاج: "فلا يصح بيع الكلب ولو معلما، والخمر -يعني المسكر- وسائر نجس العين ونحوه
…
"3. وجاء في المهذب: "الأعيان ضربان: نجس، وطاهر. فأما النجس فعلى ضربين: نجس في نفسه، ونجس بملاقاة نجاسة. فأما النجس في نفسه فلا يجوز بيعه، وذلك مثل الكلب والخنْزير والخمر
…
"4.
فنص المهذب: يقرر ما عليه الشافعية من القول بعدم جواز بيع الخمر، بناء على نجاستها باعتبار أنها نجسة في نفسها، فكانت تلك النجاسة سبباً في عدم جواز البيع.
مذهب الحنابلة: قالوا بعدم جواز بيع الخمر لنجاستها لأنهم يشترطون مالية المبيع، والمال عندهم هو ما يباح نفعه مطلقاً كما يجوز اقتناؤه بلا حاجة، والخمر لا تعتبر مالاً، لأن فيها نفعاً محرماً، كما أنها لا تباح إلا عند الضرورة، وهي نجسة العين. والمقرر أن العين النجسة أو المتنجسة لا يجوز بيعها، وقالوا: كما لا يجوز بيعها، لا يجوز التوكل في بيعها أو شرائها إعمالا لأصل المنع من ذلك عندهم.
فقد جاء في المغنى والشرح الكبير: "ولا يجوز بيع الخمر، ولا التوكل في بيعه،
1 ابن جزي صفحة 163.
2 الشربيني 2/15.
3 الرملي 3/392.
4 الشيرازي 3/23.
ولا شرائه
…
"1. وجاء في كتاب الكافي: "
…
ولا يجوز بيع الخمر والميتة والخنْزير والأصنام
…
"2. وفي شرح منتهى الإرادات: "الثالث: كون المبيع مالاً وهو ما يباح نفعه مطلقاً أو اقتناؤه بلا حاجة، فخرج ما لا نفع فيه كالحشرات، وما فيه نفع محرم كخمر، وما لا يباح إلاّ عند الضرورة كالميتة
…
"3.
الموازنة: بالرجوع إلى أقوال الفقهاء بشأن بيع الخمر يتضح لنا أن الاتفاق حاصل بين جميع أهل العلم وجمهور الفقهاء على منع بيع الخمر، مع اختلاف طفيف في التعبير عن ذلك المنع، فمنهم من عبر عنه بعدم الجواز كالمالكية والحنابلة، ومنهم من عبر عن هذا بعدم الصحة كالشافعية. كما أن هؤلاء قد عللوا المنع بعلل تكاد تكون قريبة في معناها ومفادها، فمنهم من بنى المنع على كونها نجسة، وأن اعتبار بيعها يجعلها متقومة وهذا ينافي إهانتها بسبب النجاسة على نحو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة والمالكية الذين اعتبروا أن السبب في منع بيع الخمر نجاستها، وعدم طهارتها، وتحريمها، وذلك لأن كل نجس محرم، ولا يصح بيع المحرم النجس.
في حين أن الحنفية: مع اتفاقهم مع الجمهور على منع بيع الخمر وعدم اعتبارها محلاً للتعامل، لنجاستها، وعدم ماليتها، فإنهم فقط فرقوا بين حالتين بسبب أنهم يفرقون بين الباطل والفاسد بحسب منهجهم في الأصول، وقالوا: إن الخمر إذا كانت محلاً للتعاقد وكان المقابل لها نقداً كان العقد باطلاً، في حين أنها إذا كانت ثمناً فإن العقد يكون فاسداً يملك فيه المبيع بالقبض من جانب المشتري لوجود حقيقة البيع وهو مبادلة مال بمال.
فالحنفية مع الجمهور في منع بيع الخمر بسبب نجاستها وعدم ماليتها وإهانتها، وأنهم فقط يخالفونهم في وصف العقد وقالوا بأنه يختلف هذا الوصف بحسب كون الخمر محلاً للعقد أي مثمناً فإن العقد يكون باطلاً، وإن كان ثمناً فالعقد يكون فاسداً،
1 ابن قدامة 4/4.
2 ابن قدامة 2/7.
3 البهوتي 2/613.
وذلك كأثر لما عليه أصولهم من التفرقة بين الباطل بأصله وبين الفاسد بوصفه.
وهذا ما استدل به عامة أهل العلم:
1-
عن ابن عمر رضي الله عنه قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومتباعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمول إليه"1.
2-
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى يعرض بالخمر، ولعل الله سينزل فيها أمراً، فمن كان عنده فيها شيء فليبعه ولينتفع به". قال: فما لبثنا إلاّ يسيراً حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء، فلا يشربها، ولا يبعها ولا ينتفع بها. قال: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة فسفكوها"2.
3-
عن نافع بن كيسان3 أن أباه أخبره أنه كان يتجر في الخمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق يريد بها التجارة، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إني جئتك بشراب طيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا كيسان، إنها قد حرمت بعدك، قال: فأبيعها يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها قد حرمت وحرم ثمنها فانطلق كيسان إلى الزقاق فأخذ بأرجلها ثم أهراقها"4.
4-
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقترأهن على الناس، ثم نهى عن التجارة في الخمر"5.
1 الحديث أخرجه أحمد في المسند 2/25، 71، وأبو داود برقم 3674 والترمذي برقم 1295، وابن ماجه برقم 3380 وصححه الشيخ الألباني. في المشكاة برقم 2777 إرواء الغليل ص 367.
2 الحديث أخرجه مسلم في صحيحه كتاب المساقاة باب تحريم بيع الخمر برقم 1578.
3 هو نافع بن كيسان مختلف في صحبته، قال الحافظ في التعجيل: ذكره ابن شاهين وطائفة في الصحابة، وقال ابن سعد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسكن دمشق، وذكره جماعة في التابعين، والله أعلم. تعجيل المنفعة لابن حجر العسقلاني 2/302-303 برقم 1094.
4 الحديث أخرجه أحمد في المسند 4/335، والطبراني في الكبير 19/195.
5 الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري برقم 2112، وكتاب التفسير برقم 4266، 4267، 4268، 4269، ومسلم برقم 1580.
5-
عن مالك عن نافع أن رجالاً من أهل العراق سألوا ابن عمر رضي الله عنهما فقالوا: إنا نبتاع من ثمر النخيل والعنب فنعصره خمراً فنبيعها، فقال لهم:"إني أشهد الله عليكم وملائكته ومن سمع من الجن والإنس إني لأمركم أن لا تبيعوها" 1 وفي الموطأ: "إني لأمركم أن لا تبيعوها، ولا تبتاعوها ولا تعصروها ولا تشربوها ولا تسقوها فإنها رجس من عمل الشيطان"2.
فقد دلت هذه النصوص مجتمعة على عدم جواز بيع الخمر وما في حكمها من المسكرات المحرمة، حيث صرحت بالنهي عن التعامل بشأنها واعتبارها محلاً للتصرفات بالاتجار ونحوه، بناء على حرمة تناولها، ولنجاسة عينها، مع عدم ماليتها حتى إن بعض النصوص صرحت بلعن من ابتاعها كما هو الحال في حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وبهذا يتضح لنا ويترجح القول بحرمة بيع الخمر وجميع التصرفات الأخرى بشأنها، وأن هذا يسري بطبيعة الحال على جميع الأشربة المحرمة الأخرى كالنبيد ونقيع الزبيب ونحو ذلك. والله تعالى أعلم.
1 الأثر أخرجه البيهقي في السنن8/286 بسند صحيح.
22/848.