المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: خلاصة ما قاله الفقهاء بشأن بيع الدم - البيوع المحرمة والمنهي عنها

[عبد الناصر بن خضر ميلاد]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول: التعريف بالبيع

- ‌المطلب الأول: البيع لغة

- ‌المطلب الثاني: البيع اصطلاحاً

- ‌المطلب الثالث: أركان البيع

- ‌المطلب الرابع: شروط المعقود عليه "المبيع

- ‌المبحث الثاني: مشروعية البيع وحكمه

- ‌المبحث الثالث: المقصود بالأعيان المحرمة

- ‌المطلب الأول: تعريف العين لغة واصطلاحاً والمحرم لغة والحرام عند الأصوليين

- ‌المطلب الثاني: الأعيان المحرمة لنجاستها

- ‌المطلب الثالث: الأعيان المحرمة لغلبة المفسدة فيها

- ‌المطلب الرابع: الأعيان المحرمة لكرامتها

- ‌الباب الأول: في النجاسات

- ‌التمهيد في بيان اختلاف الفقهاء في حرمة بيع النجاسات وأسبابه

- ‌الفصل الأول: بيع الميتة

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول حكم بيع الميتة

- ‌المبحث الثاني حكم بيع أجزاء الميتة

- ‌المطلب الأول: حكم بيع عظم الميتة

- ‌المطلب الثاني حكم بيع جلد الميتة

- ‌المطلب الثالث حكم بيع شعر الميتة

- ‌المبحث الثالث خلاصة القول بشأن بيع الميتة

- ‌الفصل الثاني بيع الدم

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول تعريف الدم المسفوح

- ‌المبحث الثاني: حكم بيع الدم المسفوح

- ‌المبحث الثالث: خلاصة ما قاله الفقهاء بشأن بيع الدم

- ‌الفصل الثالث: بيع فضلات الإنسان والحيوان

- ‌المبحث الأول حكم المني وحكم بيعه

- ‌المطلب الأول: حكم المني

- ‌المطلب الثاني: حكم بيع المني

- ‌المبحث الثاني: حكم أرواث الحيوانات وحكم بيعها

- ‌المطلب الثاني: حكم بيع رجيع الحيوانات

- ‌المطلب الثالث: حكم التداوي بأبوال الحيوانات

- ‌الفصل الرابع: بيع الكلب والخنزير

- ‌المبحث الأول: حكم الكلب وحكم بيعه

- ‌المطلب الأول: حكم الكلب

- ‌المطلب الثاني: حكم بيع الكلب

- ‌المبحث الثاني: حكم الخنزير وحكم بيعه وبيع شعره

- ‌المطلب الأول: حكم الخنزير

- ‌المطلب الثاني حكم بيع الخنزير

- ‌المطلب الثالث: حكم بيع شعر الخنزير

- ‌الفصل الخامس: بيع الخمر

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: حكمة تحريم الخمر

- ‌المبحث الثاني: حكم الخمر

- ‌المبحث الثالث: حكم التداوي بالخمر، وحكم بيعها

- ‌المطلب الأول: حكم التداوي بالخمر

- ‌المطلب الثاني: حكم بيع الخمر

- ‌الفصل السادس: حكم بيع المتنجسات والانتفاع بها

- ‌الباب الثاني: مانهى الشارع عن الانتفاع به

- ‌الفصل الأول: بيع أواني الذهب والفضة

- ‌المبحث الأول: حكم أواني الذهب والفضة

- ‌المطلب الأول: حكم استعمال واقتناء أواني الذهب والفضة

- ‌المطلب الثاني: حكم بيع أواني الذهب

- ‌المبحث الثاني: حكم المضبب بالذهب والفضة

- ‌المطلب الأول: حكم استعمال المضبب بالذهب

- ‌المطلب الثاني: حكم بيع المضبب بالذهب

- ‌المطلب الثالث: حكم استعمال المضبب بالفضة

- ‌المطلب الرابع: حكم بيع المضبب بالفضة

- ‌المطلب الخامس: حكم استعمال المموه بالذهب والفضة

- ‌المطلب السادس: حكم بيع المموه بالذهب أو الفضة

- ‌المطلب السابع: حكم اتخاذ خاتم وساعة الذهب المعدين للرجال واستعمالهما

- ‌المطلب الثامن: حكم بيع خاتم وساعة الذهب المعدين للرجال

- ‌المطلب التاسع في المستثنيات

- ‌الفصل الثاني: وبيع الأصنام والصور

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: بيان حكم الشرع للصور بأنواعها

- ‌المطلب الأول الصور المجسمة

- ‌المطلب الثاني: التصوير لغير ذي الروح

- ‌المبحث الثاني: حكم بيع الصور بأنواعها

- ‌المبحث الثالث: المستثنيات

- ‌الفصل الثالث: بيع آلات اللهو

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: آلات اللهو

- ‌المطلب الأول: حكم سماع الغناء

- ‌المطلب الثاني: حكم بيع آلات اللهو

- ‌المبحث الثاني: النرد

- ‌المطلب الأول حكم اللعب بالنرد

- ‌المطلب الثاني: حكم بيع النرد

- ‌المبحث الثالث: الشطرنج

- ‌المطلب الأول: حكم اللعب بالشطرنج

- ‌المطلب الثاني بيع الشطرنج

- ‌الفصل الرابع: بيع المخدرات والمفترات

- ‌المبحث الأول: التعريف بالمخدرات والمفترات

- ‌المبحث الثاني: حكم بيع المخدرات

- ‌المبحث الثالث: حكم بيع المفترات

- ‌الفصل الخامس: بيع الإنسان الحر وأجزائه

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: حكم بيع الإنسان الحر

- ‌المبحث الثاني: حكم نقل وبيع بعض أجزاء الإنسان الحر

- ‌المطلب الأول حكم نقل أعضاء الإنسان

- ‌المطلب الثاني: حكم بيع بعض أجزاء الإنسان

- ‌الفصل السادس: بيع الأشياء المحرمة لقدسيتها

- ‌المبحث الأول: بيع المصحف

- ‌المبحث الثاني: بيع المصحف للكافر

- ‌المبحث الثالث: بيع أرض مكة

- ‌الخاتمة

- ‌المصادر والمراجع

الفصل: ‌المبحث الثالث: خلاصة ما قاله الفقهاء بشأن بيع الدم

‌المبحث الثالث: خلاصة ما قاله الفقهاء بشأن بيع الدم

استبان لنا فيما سبق اتفاق العلماء على أن الدم المسفوح محرم شرعاً، وذلك لنجاسته وأنه لهذا حرم تناوله، وبالتالي فقد حرم اعتباره محلاً للانتفاع به لهذا السبب، أو لأن المالية غير معتبرة فيه، وذلك لأن المال ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة.

فالدماء المسفوحة كلها نجسة، وذلك بإجماع الفقهاء، وذلك لثبوت نجاسة الدم بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة، وحيث ثبت نجاسته، فإن حكمه من حيث التناول والانتفاع يكون هو الآخر محرماً، وهذا يترتب عليه عدم إمكان اعتباره محلاً للبيع وغيره من كافة التصرفات الأخرى.

ففقهاء الحنفية: متفقون على أن المحرم من الدم إنما هو الدم المسفوح دون الذي في العروق والعالق باللحم بعد الذبح، وذلك لطهارته وعدم إمكان وصفه بالمسفوح، في حين أن الخلاف حاصل بينهم بشأن دم السمك، حيث قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله بطهارته، في حين أن أبا يوسف –رحمه الله يقول بنجاسته1.

وفقهاء المالكية: متفقون كذلك على أن الدم المسفوح نجس، وأن هذه النجاسة تشمل الدم الخارج من السمك والذباب والقراد، غير أنهم قد اختلفوا بشأن تحديد الدم المسفوح من السمك، وهل هو الدم الخارج عند التقطيع الأول دون الذي خرج في التقطيع الثاني؟ وقد استظهر بعضهم أن المسفوح إنما هو الخارج عند التقطيع الأول2.

وفقهاء الشافعية: يرون أن الدم المسفوح نجس، حتى ولو تحلب من سمك أو كبد أو طحال، رغم أنهم يرون طهارة كل من الكبد والطحال.

1 بدائع الصنائع 1/60 – 62.

2 حاشية الدسوقي 1/52، والشرح الكبير 1/57.

ص: 115

كما أن فقهاء الشافعية: قد اختلفوا بشأن حكم الدم الباقي على اللحم والعظم وفي العروق من الحيوانات المأكولة المذبوحة، فمنهم من قال بأنه نجس معفو عنه، وهذا هو الظاهر، وقال آخرون إنه طاهر1.

وذهب فقهاء الحنابلة: إلى القول بنجاسة الدم المسفوح، أما بالنسبة للدم الباقي على العروق والدم الباقي في خلل اللحم بعد الذبح وما يبقى من العروق فمباح، وعللوا هذا بأنه معفو عنه، وقال بعضهم إنه لا ينجس المرق بل يؤكل معها2.

هذا: وقد اقتضت حكمة الله تعالى بعباده رفع الحرج عنهم باستثناء بعض الدماء من الأحكام السابق ذكرها من حيث التناول، وإمكان جعلها محلاً للتصرفات دفعاً لهذا الحرج ورفعاً للضيق، إما لسبب عدم الاحتراز عنها – أي عن بعض أنواع الدماء – مثل الدم المتبقى على العروق وما بين العظام وما اختلط باللحم، وأما بسبب الضرورة كما في حالة سد رمق العطش، أو بالنص عليه مثل حالة الكبد والطحال.

أولاً: الكبد والطحال اتفق العلماء على أن الكبد والطحال مستثنيان من تحريم الدم الشامل لجميع أنواعه، فرغم أنهما دمان إلا أنهما مباحان بالنص تناولاً، وبالتالي فإن هذا الاستثناء يسري بدوره على البيع والشراء، فالبيع يرد عليهما.

وقد تقرر هذا الاستثناء بالاتفاق بين الفقهاء استناداً إلى ما رواه عبد الله بن عمر3 رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال".

1 نهاية المحتاج 1/239، ومغني المحتاج 1/112.

2 الإنصاف 1/309، وكشاف القناع 1/226.

3 الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عبد الرحمن، من المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، كان من أشد الناس اتباعا للأثر، ولد بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، واستصغر يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، توفي رضي الله عنه عام 73?. راجع: الاستيعاب في معرفة الأصحاب للقرطبي 1612، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 6/167-173 برقم 4825.

ص: 116

وعلى هذا كان استثناء الكبد والطحال من التحريم بالنص على ذلك فضلاً عن طهارتهما، وهكذا كان الإجماع على إباحتهما وإمكان تناولهما وإيراد جميع التصرفات الشرعية عليهما، ومن ذلك البيع والشراء، وإن كان الخلاف فقط في اعتبارهما دماً أو لحماً.

وعن الطهارة بشأنهما – قال المرداوي في الإنصاف "ومنها الكبد والطحال وهما دمان لا خلاف في طهارتهما"1.

وفي كشاف القناع: "والكبد والطحال من مأكول: طاهران لحديث: "أحلت لنا ميتتان ودمان" "2.

وجاء في أيسر التفاسير: بشأن تفسير قوله تعالى {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 3 أو مصبوباً صباً لا الدم المختلط بالعروق والعظم واللحم كالكبد والطحال"4.

وذكر ابن العربي في أحكام القرآن: بعد أن أورد حكم الدم من حيث الطهارة وعدمها ومن حيث تناوله قال:"ثم اختلف الناس في تخصيص هذا العموم في الكبد والطحال، فمنهم من قال: إنه لا تخصيص في شيء من ذلك، قاله مالك، ومنهم من قال: هو مخصوص من الكبد والطحال، قاله الشافعي، والصحيح أنه لم يخصص، وأن الكبد والطحال لحم يشهد بذلك العيان الذي لا يعارضه بيان ولا يفتقر إلى برهان"5.

غير أن البعض الآخر رجح كونهما دمين وأنهما طاهران وشملهما الاستثناء من التحريم بموجب النص السابق في الحديث الذي رواه ابن عمر، فقد ورد في تفسير آيات الأحكام: "وكذلك الكبد والطحال مجمع على عدم حرمته وإن كان في الأصل

1 1/310.

2 البهوتي 1/191.

3 سورة الأنعام: الآية 145.

4 الجزائري 2/133 – 134.

5 1/80.

ص: 117

دماً"1. أي إن الإجماع قائم على حلهما وعلى طهارتهما وإمكان تداولهما بيعاً وشراء، وإنما الخلاف فقط في وصفهما، وهل هما دمان ورد بشأنهما الاستثناء أم أنهما لحمان قد شهد بهما العيان؟ أي أنهما غير مخصوصين من عموم التحريم الوارد في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} 2، وعلى هذا كان الخلاف بين العلماء القائلين بحلهما فيما إذا كان مخصوصين من عموم النهي عن تناول الدم في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} أو غير مخصوصين من ذلك، فمنهم من قال: إنهما غير مخصوصين من هذا العموم، ومنهم من قال: هما مخصوصان منه، وقد صحح ابن العربي عدم التخصيص وقال: إن الكبد والطحال لحم ويشهد بذلك العيان. وقد صحح غيره أنهما دمان ورد بشأنهما الاستثناء3.

ثانياً: دم السمك: اختلف الفقهاء بشأن مدى طهارة دم السمك، وبالتالي هل يدخل ضمن الاستثناءات الواردة بشأن الدماء الطاهرة من حيث التناول والبيع والشراء من عدمه؟

مذهب الحنفية: اختلف فقهاء الحنفية بشأن طهارة دم السمك، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يرى ما ذهب إليه عامة الفقهاء من أن دم السمك طاهر، وهذا ما وافقه عليه محمد بن الحسن الشيباني، خلافاً لما قال به أبو يوسف من القول بنجاسة دم السمك.

فقد جاء في بدائع الصنائع: "وأما دم السمك فقد روي عن أبي يوسف أنه نجس، وبه أخذ الشافعي4 اعتباراً بسائر الدماء

وعند أبي حنيفة ومحمد طاهر

1 تفسير آيات الأحكام للصابوني 1/164.

2 سورة المائدة: الآية 3.

3 أحكام القرآن 1/79 – 80.

4 هو الإمام الفقيه محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان الشافعي، صاحب أحد المذاهب الفقهية المعروفة من مذاهب أهل السنة، أبو عبد الله القرشي المطلبي الشافعي، ولد بغزة سنة 150?، وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين. من مصنفاته الرسالة، والأم، توفي رحمه الله عام 204?. راجع: سير أعلام النبلاء لمحمد بن أحمد الذهبي 10/5-99 النجوم الزاهرة لجمال الدين تغرى بردى 2/176-177.

ص: 118

لإجماع الأمة على إباحة تناوله مع دمه، ولو كان نجساً لما أبيح، ولأنه ليس بدم حقيقة بل هو ماء تلون بلون الدم لأن الدموي لا يعيش في الماء

"1.

وفي أحكام القرآن: "إن دم السمك ليس بنجس، لأنه يؤكل بدمه"2.

فالمستفاد من هذه النصوص: أن أبا حنيفة ومحمداً يريان أن دم السمك طاهر، لإجماع الأمة على إباحة تناوله، لأنه لو كان نجساً لما أبيح تناوله، أو لأنه ليس بدم حقيقة بل هو ماء تلون بلون الدم وذلك لأن الدموي لا يعيش في الماء، ويرى أبو يوسف أنه نجس اعتباراً بسائر الدماء.

مذهب المالكية: اختلف المالكية بشأن تحديد الدم المسفوح في السمك هل هو الدم الخارج عند التقطيع الأول دون الذي خرج في التقطيع الثاني، أم هو الخارج من جميع التقطيعات؟ واستظهر بعضهم الأول، غير أنني لم أجد فيما اطلعت عليه من كتب المالكية من صرح بهذا البعض. وقال ابن العربي المالكي بطهارة الدم الخارج من السمك والذباب، فالخلاف بشأن الدم المسفوح من السمك، فقيل نجس وقيل طاهر.

فقد جاء في الشرح الكبير: "ودم مسفوح: أي جار بسبب فصد أو ذكاة أو نحو ذلك، إذا كان من غير سمك وذباب بل ولو كان مسفوحاً من سمك وذباب وقراد وحلم، خلافاً لمن قال بطهارته منها، وأما قبل سيلانه من السمك فلا يحكم بنجاسته، ولا يؤمر بإخراجه، فلا بأس بإلقائه في النار حياً"3.

وجاء في مواهب الجليل: "

اختلف الناس في السمك هل له دم أم لا؟ فقال بعضهم لا دم له، والذي ينفصل عنه رطوبة تشبه الدم لا دم، ولذلك لا تسود إذا تركت في الشمس كسائر الدماء بل تبيض. قال ابن الإمام4: وليس ذلك بصحيح، لأن عدم اسوداده لو سلم من كل السمك فذلك لما خالطه من الرطوبة لا لأنه ليس

1 الكاساني 1/61.

2 الجصاص 1/150.

3 الدردير 1/57.

4 سبق التعريف به صفحة 85.

ص: 119

بدم. انتهى. والمشهور أن دمه كسائر الدماء المسفوحة نجس، وغير مسفوحة طاهر، ومقابل المشهور أنه طاهر مطلقاً، وهو قول القابسي1. واختاره ابن العربي انتهى من التوضيح. قال في الجواهر2: وقال ابن العربي: لمالك فيه قولان، والصحيح أنه طاهر، ولو كان نجساً لشرعت ذكاته. واعلم أن الخلاف في دمه إنما هو إذا سال، وأما قبل ذلك فلا يحكم بنجاسته ولا يؤمر بإخراجه، فقد قال مالك في سماع ابن القاسم لا بأس بإلقائه في النار حياً

"3.

وجاء في حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير: "

وهل الدم المسفوح الذي في السمك هو الخارج عند التقطيع الأول لا ما خرج عند التقطيع الثاني أو الجاري عند جميع التقطيعات؟ واستظهر بعضهم الأول، خلافاً لمن قال بطهارته

ويترتب على هذا الخلاف جواز أكل السمك الذي يوضع بعضه على بعض ويسيل دمه من بعضه على بعض وعدم جواز ذلك، فعلى كلام المصنف لا يؤكل منه إلا الصف الأعلى، وعلى كلام ابن العربي يؤكل كله

"4.

فيستفاد من نصوص المالكية: أن المشهور في المذهب أن دم السمك كسائر الدماء، فإذا كان مسفوحاً كان نجساً، وإن كان غير مسفوح كان طاهراً، وأن مقابل المشهور أنه طاهر مطلقاً مسفوحاً أو غير مسفوح، وهو قول القابسي وما اختاره ابن العربي، والثابت عندهم أن الخلاف في دم السمك إذا سال أما قبل ذلك فلا يحكم بنجاسته.

1 هو علي بن محمد بن خلف أبو الحسن المعافري الفاسي، فقيه مالكي حافظ محدث أصولي، من قرى قابس رحل إلى المشرق وعاد إلى القيروان، وتولى الفتيا مكرهاً. من تصانيفه "الممهد في الفقه وأحكام الديانة" و"كتاب المناسك" توفي رحمه الله سنة 403 ?. راجع: الأعلام للزركلي 4/326، وشجرة النور الزكية لمحمد مخلوف صفحة 97.

2 المقصود به عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لجلال الدين عبد الله بن نجم بن شاس ت 616?، وانظر النص في الجواهر 1/15.

3 الحطاب 1/106.

4 الدردير 1/57.

ص: 120

مذهب الشافعية: قالوا بأن دم السمك نجس كغيره من الدماء، وقيل بل هو طاهر وذلك لأن ميتة السمك طاهرة فكذلك دمه يكون طاهراً.

فقد جاء في المهذب: "وفي دم السمك وجهان؛ أحدهما: نجس كغيره، والثاني: طاهر لأنه ليس بأكثر من الميتة، وميتة السمك طاهرة فكذلك دمه"1.

ومثل ذلك جاء في المجموع: "

أما الوجهان في دم السمك فمشهوران، ونقلهما الأصحاب أيضاً في دم الجراد، ونقلهما الرافعي أيضاً في الدم المستحلب من الكبد والطحال، والأصح في الجميع النجاسة.."2.

فالخلاف حاصل بين فقهاء الشافعية: بشأن دم السمك من حيث طهارته أو نجاسته، فمن قال بطهارته علل ذلك باعتبار طهارة ميتته، فيكون دمه كذلك، ومن قال بنجاسته علل ذلك باعتبار الحكم في الدماء عامة، وقد حكت كتب الشافعية هذا الخلاف، وذكر صاحب المجموع أن الأصح القول بالنجاسة.

مذهب الحنابلة: اختلف فقهاء الحنابلة بشأن دم السمك، والصحيح في المذهب أنه طاهر، وفيه رواية أنه نجس.

فقد جاء في الإنصاف: "ومنها دم السمك، وهو طاهر على الصحيح في المذهب، وعليه الأصحاب، ويؤكل

وقيل نجس

"3.

وفي كشاف القناع: "

طاهر ولو ظهرت حمرته نصاً، لأنه لا يمكن التحرز منه كدم سمك، لأنه لو كان نجساً لتوقفت إباحته على إراقته بالذبح كحيوان البر، ولأنه يستحيل ماء ويؤكلان أي دم عرق المأكول ودم السمك كالكبد"4.

فالصحيح عند الحنابلة أن دم السمك طاهر، وأن هذا ما عليه الأصحاب، وأباحوا أكله، وهناك قول في المذهب يقول بنجاسته.

1 الشيرازي 2/575.

2 النووي 2/576.

3 المرداوي 1/309 – 310.

4 البهوتي 1/226.

ص: 121

فخلاصة القول بالنسبة لدم السمك ما يأتي:

أن الحنفية يرون طهارة دم السمك، معللين ذلك بالإجماع عليه، ولأنه ليس بدم حقيقة، ولم يخالف في هذا سوى أبي يوسف حيث قال بنجاسة دم السمك بالنظر إلى الدماء عامة، والأصل فيها وهو النجاسة.

أن المالكية يرون أن دم السمك كسائر الدماء، وعلى هذا فإنه لو كان مسفوحاً فإنه يكون نجساً، وإن كان غير مسفوح كان طاهراً، وهذا هو المشهور في مذهب المالكية، وإن كان مقابل ذلك المشهور من يرى أنه طاهر مطلقاً.

أن الشافعية قد اختلفوا فيما بينهم في حكم دم السمك، فمنهم من قال بطهارته باعتبار طهارة ميتته، وأنه في هذا يكون أولى بذات الحكم وهو الطهارة ومنهم من قال بنجاسته بالنظر إلى أصل الحكم في الدماء عامة وهو النجاسة، وقد ذكرت كتب الشافعية أن هذا هو الصحيح في المذهب.

أما الحنابلة فالصحيح من مذهبهم هو القول بطهارة دم السمك، وأن هذا هو ما عليه الأصحاب، وقالوا بإباحة أكله، وإن كان هناك قول في المذهب يرى نجاسته.

وعلى هذا: فعامة الحنفية والصحيح عند الحنابلة وقول للشافعية ومقابل المشهور عند المالكية على أن دم السمك طاهر، في حين أن الشافعية في أصح مذهبهم أنه نجس، وقد وافقهم على هذا أبو يوسف من الحنفية ورواية في مذهب الحنابلة وعلى تفصيل في مذهب المالكية، حيث قالوا: إنه يأخذ حكم الدماء عامة، فإن كان مسفوحاً كان نجساً، وإن كان غير مسفوح كان طاهرا.

والذي يترجح لدي هو: القول بطهارة دم السمك وإمكان بيعه وتناوله مع السمك ذاته، وأن دم السمك يأخذ نفس حكم الكبد والطحال على نحو ما سبق، وذلك لأن دم الحيوان المائي خارج عن عموم تحريم دم الحيوان الحي أو الميت إذا كان مسفوحاً، لأن عموم هذا الدم نجس، بخلاف دم السمك ونحوه من الحيوانات المائية، حيث اعتبره عامة الفقهاء طاهراً، ومما يؤكد هذا ما علل به الحنفية قولهم بطهارة دم السمك من أنه مجمع عليه، وأنه لا يعتبر دماً حقيقياً وبالتالي لا يشمله عموم تحريم

ص: 122

الدم، كما أن ميتته طاهرة، ولهذا كان دمه كذلك طاهراً على نحو ما علل من ذهب إلى هذا من الشافعية.

وقد أجمعت الأمة على إباحة تناول السمك مع دمه، ولو كان نجساً لما أبيح، ولأنه ليس بدم حقيقة بل هو ماء تلون بلون الدم وذلك لعدم إمكان تعايش الدم في الماء. والله تعالى أعلم.

ثالثاً: الدم المختلط باللحم والعظم: يرى عامة أهل العلم استثناء الدم العالق باللحم والعروق من الشاة أو نحوها، من مأكول اللحم المذكى من حرمة التناول وإجراء التصرفات عليه من بيع ونحوه، تبعاً لذات اللحم والعروق والعظام، من ذلك المأكول عند ذبحه بالطريق الشرعي، وهذا ما عليه الفتوى رفعاً للحرج والضيق عن العباد، وإن كان الخلاف قائما بينهم بشأن طهارته، ومدى التفرقة بينه وبين الدم المسفوح، فمن قائل بأنه طاهر، ومن قائل بأنه نجس وأن هذه النجاسة معفو عنها، ومن قائل بأنه غير مسفوح، أي الخلاف حاصل بين الفقهاء بشأن علة إباحة الدم الباقي في العروق، فمنهم من قال لأنه طاهر، ومنهم من قال للعفو عنه، فكأنه نجس معفو عنه، وذلك على نحو ما ذكر بعض الشافعية.

مذهب الحنفية: اتفق فقهاء الحنفية على أن المحرم من الدم هو الدم المسفوح دون الدم الذي يبقى في العروق واللحم بعد الذبح، حيث إنه طاهر لأنه غير مسفوح، ولأبي يوسف معفو عنه في الأكل غير معفو عنه في الثياب لتعذر الاحتراز عنه في الأكل وإمكانه في الثوب.

فقد جاء في أحكام القرآن: "

أما اللحم الذي يخالطه الدم فلا بأس به" وروى القاسم بن محمد1 عن عائشة – أنها سئلت عن الدم يكون في اللحم المذبوح، قالت: إنما نهى الله عن الدم المسفوح" ثم استطرد قائلاً: ولا خلاف بين الفقهاء في جواز أكل اللحم مع بقاء أجزاء من الدم في العروق، ولأنه غير مسفوح، ألا ترى أنه متى صبّ عليه

1 هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أبو محمد وقيل أبو عبد الرحمن، من خيار التابعين، كان ثقة رفيعاً عالماً فقيهاً ورعاً أحد فقهاء المدينة السبعة، توفي رحمه الله تعالى سنة 101 ? وقيل غير ذلك. راجع: الأعلام للزركلي 2/40، وشجرة النور الزكية لمحمد مخلوف صفحة 19.

ص: 123

الماء ظهرت تلك الأجزاء فيه، وليس هو بمحرم إذ ليس هو مسفوحاً"1.

وجاء في بدائع الصنائع: "

والدم الذي يبقى في العروق واللحم بعد الذبح طاهر، لأنه ليس بمسفوح، ولهذا حل تناوله مع اللحم، وروي عن أبي يوسف أنه معفو عنه في الأكل غير معفو في الثياب، لتعذر الاحتراز عنه في الأكل وإمكانه في الثوب"2.

فالمستفاد من نصوص الحنفية: أنه لا بأس من تناول اللحم العالق به بعض الدم في العروق، وذلك لأنه دم غير مسفوح وليس بمحرم فهو دم طاهر، ولهذا حل تناوله مع اللحم. وإن كان لأبي يوسف رأي في هذه الجزئية وهو أنه دم معفو عنه في الأكل خاصة، لتعذر الاحتراز عنه دون غيره، كما في الثياب مثلاً لإمكان الاحتراز عنه.

فأصل مذهب الحنفية طهارة الدم العالق باللحم أو بالعروق، لأنه غير مسفوح، وإن كان المستفاد من رأي أبي يوسف أنه ليس كذلك، ولكنه معفو عنه في الأكل لعدم الاحتراز عنه، فأبو يوسف يرى أنه نجس غير معفو عنه.

مذهب المالكية: ذهب المالكية إلى القول بجواز تناول الدم الباقي على اللحم والعروق، وأنه لا بأس من شموله بالبيع مع اللحم والعروق، لأنه لا يمكن التحرز عنه؛ فأساس التجاوز عن الدم العالق بالعروق هو عدم إمكان تحرز الناس عنه، وتحقيقاً لرفع الحرج عنهم.

فقد جاء في أحكام القرآن: "

قال الإمام الحافظ3: الصحيح أن الدم إذا كان مفرداً حرم منه كل شيء، وإن خالط اللحم جاز، لأنه لا يمكن الاحتراز منه، وإنما حرم الدم بالقصد إليه"4.

وجاء في حاشية الدسوقي: "

ودم لم يسفح وهو الذي لم يجر بعد موجب خروجه بذكاة شرعية، وهو الباقي في العروق، وكذا ما يوجد في قلب الشاة بعد

1 الجصاص 1/150.

2 الكاساني 1/92.

3 هو أبو بكر المعروف بابن العربي وقد سبق التعريف به صفحة 120.

4 ابن العربي 2/291.

ص: 124

ذبحها، وأما ما يوجد في بطنها فهو من المسفوح فيكون نجساً، وكذا الباقي في محل الذبح، لأنه من بقية الجاري"1.

وجاء في الجامع لأحكام القرآن: "وأما الدم فمحرّم ما لم تعم به البلوى، والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم والعروق، وروي عن عائشة أنها قالت: "كنا نطبخ البرمة2 على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم، فنأكل ولا ننكره"34.

فالمستفاد من نصوص المالكية: أنهم يجوزون تناول اللحم العالق به الدم وذلك لعدم إمكان الاحتراز عنه؛ فعندهم جواز تناول الدم المخالط للحم لهذا السبب، وذكرت بعض كتبهم كحاشية الدسوقي أنه دم غير مسفوح فجاز تناوله وإمكان بيعه مع اللحم.

مذهب الشافعية: اختلف فقهاء الشافعية بالنسبة لحكم الدم الباقي على العروق واللحم والعظام من البهائم المذبوحة، فذهب الحليمي وجماعة إلى أنه نجس، وأن هذه النجاسة معفو عنها، وذلك هو الظاهر، لأنه مسفوح إلا أنه لم يسل لقلته، وقال الآخرون إنه طاهر، وقيل إن مراد من عبر بالطهارة أنه معفو عنه.

أما الدم الباقي على اللحم وعظامه من المذكاة فهو نجس معفو عنه.

فقد جاء في نهاية المحتاج: "أما الدم الباقي على اللحم وعظامه من المذكاة فنجس معفو عنه كما قاله الحليمي

ومراد من عبر بطهارته أنه معفو عنه"5.

وجاء في مغني المحتاج: "أما الدم الباقي على اللحم وعظامه فقيل إنه طاهر،

1 الدسوقي 1/52.

2 البرمة: القدر من الحجر، والجمع برم مثل غرفة وغرف. المصباح المنير للفيومي صفحة 45، القاموس المحيط للفيروز آبادي صفحة 1394.

3 القرطبي 2/204.

4 الحديث ذكره القرطبي في تفسيره 2/222 ولم يعزه لأحد هذا الحديث لم أجده بهذا اللفظ في الكتب المسنده، وهو في بعض كتب التفسير والفقه بهذا اللفظ.

5 الرملي 1/239.

ص: 125

وهو قضية كلام المصنف في المجموع وجرى عليه السبكي1، ويدل له من السنة قول عائشة رضي الله عنها:"كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فيأكل ولا ينكره"2 وظاهر كلام الحليمي وجماعة أنه نجس معفو عنه، وهذا هو الظاهر لأنه دم مسفوح وإن لم يسل لقلته

"3.

فالمستفاد من نصوص الشافعية: أن الدم الباقي على اللحم وعظامه نجس، لأنه دم غير مسفوح، وإن لم يسل لقلته، غير أنه معفو عنه لعدم إمكان التحرز عنه عند التناول، وإلى هذا ذهب الحليمي وجماعة من الشافعية.

في حين أن الرأي المقابل يرى أنه طاهر، وذكرت كتب الفقه الشافعي تفسيراً لهذا القول بأن مراد من قال به: أنه معفو عنه.

مذهب الحنابلة: أن الدم الذي يبقى على عروق مأكول اللحم بعد ذبحه طاهر على صحيح المذهب الحنبلي، وبالتالي فلا مانع من تناوله تبعاً لهذا اللحم أو ما علق به، وكذلك الحكم بالنسبة للدم الباقي في خلل اللحم بعد الذبح، وإن كان هناك من قال بنجاسته، وهذا ظاهر كلام القاضي على نحو ما نقله العلامة ابن الجوزي، وذكر الشيخ تقي الدين عدم الخلاف في العفو عنه، وأنه لا ينجس المرق بل يؤكل معها، وذلك لعدم إمكان التحرز عنه.

وقد جاء في الإنصاف: "

ودم عروق المأكول طاهر على الصحيح من المذهب، ولو ظهرت حمرته ونص عليه، وهو الصحيح من المذهب، وهو من المفردات، لأن العروق لا تنفك عنه فيسقط حكمه، لأنه ضرورة، وظاهر كلام

1 هو عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن تمام السبكي أبو نصر، من كبار فقهاء الشافعية، ولد بالقاهرة وسمع بمصر ودمشق، تفقه على أبيه وعلى الذهبي، برع حتى فاق أقرانه، درس بمصر والشام، وولى القضاء بالشام كما ولى بها خطابة الجامع الأموي. من تصانيفه "طبقات الشافعية الكبرى" توفي رحمه الله سنة 771 ?. راجع: الأعلام للزركلي 4/325.

2 ذكره القرطبي في التفسير 2/222 ولم يعزه لأحد.

3 الشربيني 1/112.

ص: 126

القاضي1 في الخلاف: نجاسته، قال ابن الجوزي: المحرم هو الدم المسفوح، ثم قال القاضي: فأما الذي يبقى في خلل اللحم بعد الذبح وما يبقى في العروق فمباح. قال في الفروع ولم يذكر جماعه إلاّ دم العروق. وقال الشيخ تقي الدين فيه: لا أعلم خلافا في العفو عنه وأنه لا ينجس المرق بل يؤكل معها

"2.

وجاء في كشاف القناع: "

ودم عرق مأكول بعد ما يخرج بالذبح وما في خلال اللحم طاهر ولو ظهرت حمرته نصاً، لأنه لا يمكن التحرز منه"3.

الموازنة: بمراجعة ما قاله الفقهاء بشأن الدم العالق بالعروق يتضح لنا:

أن الحنفية: يرون أنه طاهر، وذلك لأنه غير مسفوح، وإن كان أبو يوسف يرى أنه مسفوح غير أنه معفو عنه في الأكل لعدم الاحتراز عنه وأنه نجس في غير الأكل إذا علق بالثياب.

المالكية: أنه مباح لعموم البلوى به، أو لعدم الاحتراز منه، وأن الباقي في محل الذبح نجس، لأنه من المسفوح.

الشافعية: أنه نجس معفو عنه، لعدم إمكان الاحتراز، وقيل: بأنه طاهر، وفسر هذا بأنه معفو عنه.

الحنابلة: اختلفوا، هم الآخرون بشأن حكم الدم الباقي على العروق، فمنهم من قال بأنه طاهر، ومنهم من قال بأنه نجس معفو عنه.

وهذا يوضح أن الاتفاق حاصل بين العلماء على أن الدم العالق بالعروق والمختلط باللحم من مأكول اللحم المذكى ذكاة شرعية مستثنى من الحكم الأصلي للدم وهو النجاسة باعتبار أصله، وبالتالي فإن هذا الاستثناء له أثره بالنسبة للدم على هذا النحو.

1 القاضي هو أبو يعلى محمد الحسين بن خلف أحمد الفراء البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 458 ?، مترجم في طبقات الحنابلة لابنه 2/193-231.

2 المرداوي 1/309.

3 البهوتي 1/226.

ص: 127

وأن الخلاف فقط في تعليل هذا الاستثناء، فمنهم من علله بطهارته باعتبار طهارة أصله المأكول المذكى، ومنهم من علله باعتبار أنه معفو عنه لقلته وعدم إمكان التحرز رغم أنه نجس عندهم.

وخلاصة القول: أن العلماء لهم مذهبان في حكم تناول الدم غير المسفوح وهو الذي يختلط باللحم أو يبقى في العروق بعد تذكية الحيوان.

المذهب الأول: يرى جواز تناول الدم غير المسفوح مع ما علق فيه من اللحم، وإن غير أعلى الإناء الذي يطبخ فيه، وإليه ذهب الحنفية والمالكية وهو قول عند الشافعية وقول للحنابلة.

المذهب الثاني: يرى حرمة تناول الدم مطلقاً وإن كان غير مسفوح، وهذا هو الأظهر من مذهب الشافعية وما ذهب إليه الحنابلة في رواية في المذهب.

الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول بما يأتي:

1 – قوله تعالى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} 1.

حيث أفادت هذه الآية أن ما يحرم تناوله من الدم إنما هو المسفوح فقط دون غيره، وعلى هذا فلا يحرم تناول الدم غير المسفوح، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"لولا أن الله تعالى قال: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} لتتبع الناس ما في العروق"2، فلا تلتفتوا إلى ما يعزى إلى ابن مسعود3 في الدم، فالمراد به الدم المسفوح

1 سورة الأنعام الآية 145.

2 ذكر الأثر الثعالبي في تفسيره 1/130، وسبق تخريجه عن عكرمة أيضا صفحة 128.

3 هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، أبو عبد الرحمن، من السابقين الأولين، ومن كبار علماء الصحابة، مناقبه جمة، أمره عمر على الكوفة. توفي رضي الله عنه سنة 32? وقيل 33? بالمدينة. راجع: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر برقم 1677، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 6/214-217 برقم:4945.

ص: 128

كما فسرته الآية الأولى، قال هذا ابن عباس وسعيد بن جبير1، فما حرم الله سبحانه هو الدم المسفوح حملاً للمطلق على المقيد فغير المسفوح ليس داخلاً في النهي2.

2-

ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنا نطبخ اللحم فتعلو الصفرة على البرمة من الدم، فيأكل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكره"3.

3-

روى أبو غالب4 عن أبي أمامة الباهلي5 قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله، وأعرض عليهم شرائع الإسلام فأتيتهم فبينما نحن كذلك إذ جاءوا بقصعة6 من دم، فاجتمعوا عليها يأكلونها، فقالوا: هلم فكل: فقلت: ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم، فأقبلوا عليه، قالوا: وما ذلك؟ فتلوت عليهم هذه الآية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} 7"8.

فقد أفاد هذا الحديث حرمة ما كان يفعله أهل الجاهلية، من تناول الدم المسفوح حيث كان أحدهم إذا أدركه الجوع أخذ محددا9 من عظم أو نحوه فيقصد به بعيره أو غيره من الحيوانات ثم يجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه وهذا هو الدم المسفوح. وقد

1 هو الإمام الحافظ المفسر أبو محمد سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي، مولاهم الكوفي، أحد الأعلام، لازم ابن عباس رضي الله عنهما، قتله الحجاج ظلما سنة 95?. راجع: سير أعلام النبلاء لمحمد بن أحمد الذهبي 4/321-343، الطبقات لابن سعد 6/256.

2 الجامع لأحكام القران 7/423 – 424 فتح القدير للشوكاني 2/8.

3 سبق الحديث في صفحة 142.

4 أبو غالب صاحب أبي أمامة، بصري، قيل اسمه حزور، وقيل سعيد بن الحزور، وقيل نافع، صدوق يخطئ. راجع: تقريب التهذيب برقم 8362.

5 هو الصحابي الجليل، صدي بن عجلان بن الحارث الباهلي، أبو أمامة مشهور بكنيته، سكن الشام وتوفي بها سنة 86?. راجع: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1242، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر برقم 4079.

6 القصعة: الضخمة تشبع العشرة، جمعها قصعات، والقصيعة تصغيرها. المصباح المنير للفيومي صفحة 506، لسان العرب لابن منظور 11/193.

7 سورة المائدة: الآية 3.

8 الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك 3/744، والطبراني في المعجم الكبير 8/279.

9 محددا: يقال سيف حاد أي قاطع ماض. المصباح المنير للفيومي صفحة 125، القاموس المحيط للفيروز آبادي صفحة 352.

ص: 129

أخبر أبو أمامة الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم تناوله واستشهد على هذا بآية المائدة فدل هذا على أن الذي يحرم تناوله هو الدم المسفوح.

4 – ما رواه القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إنما نهى عن الدم السافح" 1 وروى عنها أنها قالت: "لولا أن الله تعالى قال: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 2 لتتبع الناس ما في العروق".

فقد أفاد قول عائشة رضي الله عنها أن ما يحرم تناوله من الدم هو المسفوح ليس غيره، وأما غيره فلا يحرم تناوله.

5 – ما رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أنه سئل عن الطحال فقال كلوه. قالوا: إنه دم. فقال: إنما حرم عليكم الدم المسفوح"3.

حيث أفاد هذا قصر ما يحرم تناوله من الدم على المسفوح منه، وانحصار الحرمة فيه دون غيره.

هذا كله فضلاً: عما رواه ابن العربي من إجماع العلماء على أن المطلق من الدم في آية المائدة محمول على المقيد منه بالمسفوح في آية الأنعام، وما قاله القرطبي من أن العلماء أجمعوا على أن الدم المختلط باللحم لا يحرم4.

واستدل أصحاب المذهب الثاني بما يأتي:

1 – قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} 5. حيث إن هذه الآية مدنية من آخر ما نزل من القرآن، وإن كان تحريم الدم في آية الأنعام المكية مقيداً بالدم المسفوح، إلا أن هذه الآية نزلت بعدها فحرمت الدم كله مسفوحاً أو غير مسفوح، تدرجاً في تشريع الأحكام، فحرم في أول الإسلام بمكة الدم المسفوح، ثم حرم بالمدينة الدم كله،

1 تفسير ابن كثير 2/185.

2 سورة الأنعام: الآية 145.

3 الأثر أخرجه البيهقي في السنن 10/7، وابن أبي شيبة في المصنف 5/125، ورجاله رجال الصحيح.

4 الجامع لإحكام القرآن 2/149، أحكام القرآن 1/79.

5 سورة المائدة: الآية 3.

ص: 130

فمن لم يحرم إلا المسفوح وحده فقد أحل ما حرم الله تعالى في الآية الأخرى، ومن حرم الدم جملة فقد أخذ بالآيتين جميعاً، وقد حرم بعد آية الأنعام أشياء ليست فيها كالخمر وغيره، فوجب تحريم كل ما جاء نص بتحريمه بعد ذلك، والدم جملة مما نزل تحريمه بعد تلك الآية، فوجب تحريمه.

2 – ما روى ابن كريب1 عن جبير بن نفير2 أنه قال: "قالت لي عائشة أم المؤمنين: هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت: نعم، قالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها حراماً فحرموه"3.

فهذه السورة جاء في بعض آياتها تحريم الدم، كقوله تعالى:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} 4 وقول عائشة هذا يفيد حرمة تناول الدم عامة، للنص على حرمة تناوله في هذه السورة التي هي آخر ما نزل من القرآن.

والذي يترجح لدي: هو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول من أن الدم الذي يحرم تناوله هو الدم المسفوح، وذلك لقوة ما استدلوا به، ولأن المطلق الذي حرم تناوله في آيتي البقرة والمائدة قيد في آية الأنعام بالمسفوح، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن المطلق في آيتي البقرة والمائدة يحمل على المقيد في آية الأنعام، وقد تأيد هذا الحمل بقول ترجمان القرآن ابن عباس، واستشهاد أبي أمامة الباهلي بآية المائدة على حرمة تناول الدم المسفوح، وقصر عائشة النهي عن تناول الدم على المسفوح منه، فلو كان المراد بالنهي عن تناول الدم عموماً لما خفي هذا على أمثال ابن عباس وعائشة وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم.

1 هو حدير بن كريب الحمصي أبو الزاهرية، صدوق، مات على رأس المائة. راجع: تقريب التهذيب لابن حجر برقم 1153.

2 هو جبير بن نفير بن مالك بن عامر الحضرمي الحمصي، ثقة مخضرم، وأبو نفير صحابي، توفي سنة 80?. راجع: تقريب التهذيب لابن حجر برقم 912.

3 الأثر أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/188، والحاكم في المستدرك 2/340 وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، والبيهقي في السنن 7/172.

4 سورة البقرة: الآية 173.

ص: 131

وإن كانت السيدة عائشة رضي الله عنها قد صرحت بحكم ما يعلو على البرمة وهو أنه معفو عنه للضرورة، وهي عدم إمكان التحرز عنه، ويستفاد من هذا أن ما لم يدخل في الحدود التي استثنتها السيدة عائشة محكوم بالأصل العام في المسألة وهو التحريم، فاستثناء السيدة عائشة غير متوسع فيه ومحكوم بضوابط دقيقة، والله تعالى أعلم.

ص: 132