الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: حكم الكلب وحكم بيعه
جمع العلامة ابن قيم الجوزية في زاد المعاد - ما حرم في ثلاثة أجناس حيث قال: "مشارب تفسد العقول، ومطاعم تفسد الطباع، وتغذي غذاءً خبيثاً، وأعيان تفسد الأديان وتدعو إلى الفتنة والشرك، فصان بالتحريم النوع الأول العقول عما يزيلها ويفسدها، وبالثاني القلوب عما يفسدها من وصول أثر الغذاء الخبيث إليها والغاذي شبيه بالمغتذي، وبالثالث الأديان عما وضع لإفسادها، فتضمن هذا التحريم صيانة العقول والقلوب والأديان1.
وفي المباحث الآتية نلقي الضوء على ما قاله العلماء بشأن نجاسة الكلب، وحكم بيعه، ثم نتبع ذلك بالحديث عما قاله العلماء بشأن نجاسة الخنْزير، وحكم بيعه وبيع شعره.
المطلب الأول: حكم الكلب
مذهب الحنفية: اختلف فقهاء الحنفية بشأن حكم الكلب، من حيث نجاسته أو عدمها، فمنهم من قال بنجاسته، وأنه في هذا مثل الخنْزير، وأن نجاسته مغلظة، ومنهم من قال بأنه ليس بنجس، وأنه في هذا مثل سائر الحيوانات غير الخنْزير.
فقد جاء في الاختيار لتعليل المختار: "
…
والثالث نجس
…
الكلب وسباع البهائم
…
"2.
وورد في بدائع الصنائع: "
…
وأما الكلب فالكلام فيه بناء على أنه نجس العين أم لا، وقد اختلف مشايخنا فيه فمن قال إنه نجس العين، فقد ألحقه بالخنازير، فكان حكمه حكم الخنْزير، ومن قال إنه ليس نجس العين، فقد جعله مثل سائر الحيوانات
1 4/239.
2 الموصلي 1/19.
سوى الخنْزير، وهذا هو الصحيح
…
"1.
وجاء في البحر الرائق: "
…
إن الصحيح من المذهب عندنا أن عين الكلب نجس
…
"2.
ومثله في البناية شرح الهداية: "
…
الصحيح من المذهب عندنا عين الكلب نجسة
…
"3.
وبهذا يتضح أن فقهاء الحنفية قد اختلفوا بشأن حكم الكلب، فمنهم من قال بنجاسته، باعتبار أنه يلحق بالخنْزير، وأنه يأخذ حكمه من حيث النجاسة، ومنهم من قال بعدم نجاسة عينه وألحقه بسائر الحيوانات غير الخنْزير طاهرة العين.
مذهب المالكية: القول بطهارة الكلب حيث أطلقوا القول بطهارة كل السباع، ولما كان الكلب سبعاً فقد قالوا بطهارته، وهذا هو المقرر في أصل المذهب المالكي، وإن كان البعض منهم قد خالف في هذا مثل ابن الماجشون4 وسحنون وقالوا بنجاسة الكلب، وحمله الأكثر على نجاسة سؤر الكلب لا عينه، وذهب أبو عمر5 إلى القول بنجاسة كل السباع ومنها الكلب والخنْزير.
فقد جاء في الكافي: "
…
وتحصيل مذهبه أنه طاهر
…
ومذهب مالك في
1 الكاساني 1/63.
2 ابن نجيم 1/182.
3 العيني 1/415.
4 هو عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون التيمي بالولاء، أصله من فارس، والماجشون لقب جده أبي سلمة، كان فقيهاً مالكياً فصيحاً دارت عليه الفتيا في أيامه بالمدينة كان ضريراً في آخر عمره توفي رحمه الله سنة 212?. راجع: الأعلام 4/160، وشجرة النور الزكية صفحة 56.
5 هو الإمام الحافظ شيخ المغرب يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم، أبو عمر النمري الأندلسي، ولد عام 368? بقرطبة، له مصنفات كثيرة منها: التمهيد والاستذكار، وجامع بيان العلم وفضله. توفي رحمه الله عام 463?، بمدينة شاطبة شرق الأندلس. راجع: سير أعلام النبلاء 11/359-364، الديباج المذهب 2/367-370، الأعلام 8/240.
الكلب أنه طاهر"1.
وفي حاشية الدسوقي: "
…
والطاهر الحي وأل فيه استغراقية أي كل حي بحرياً كان أو برياً ولو متولداً من عذرة أو كلباً وخنْزيرا
…
"2.
وورد في التاج والإكليل: "والحي ابن عرفة الحيوان طاهر، وقول سحنون وابن الماجشون الخنْزير والكلب نجسان حمله الأكثر على سؤرهما ورجح أبو عمر نجاسة غير الخنْزير"3.
وجاء في المقدمات الممهدات: "
…
أنه طاهر
…
أن السباع محمولة على الطهارة لأن الكلب سبع من السباع
…
"4.
فمن خلال مطالعة نصوص المالكية يتقرر لدينا أنهم يقولون بطهارة الكلب وعدم نجاسته، لأن كل حي عندهم طاهر، حتى إنهم قالوا بطهارة الخنْزير، وكذا المتولد من عذرة، وهذا القول هو أصل مذهبهم، غير أنه قد روي عن سحنون وابن الماجشون أن الكلب والخنْزير نجسان، وإن كان معظم المالكية قد حمل هذا القول على نجاسة سؤرهما وليس نجاسة عينهما، وقد رجح أبو عمر من المالكية القول بنجاسة غير الخنْزير من السباع كالكلب وغيره.
مذهب الشافعية: قالوا بنجاسة الكلب. فقد جاء في المجموع: "وأما الكلب فهو نجس"5. وجاء في مغني المحتاج: في باب النجاسة "
…
هي كل مسكر مائع وكلب
…
"6.
فمذهب الشافعية: القول بنجاسة الكلب عيناً وأن الاتفاق حاصل في المذهب على هذا.
1 ابن عبد البر 1/161.
2 الدسوقي 1/50.
3 المواق 1/91.
4 ابن رشد 1/89 – 90.
5 النووي 2/584.
6 الشربيني 1/110.
مذهب الحنابلة: قالوا بنجاسته.
فقد جاء في كشاف القناع: "
…
والكلب والخنْزير نجسان"1.
وجاء في شرح منتهى الإرادات: "وما لا يؤكل من الطير والبهائم
…
، نجس
…
والذئب والفهد والكلب
…
" 2.
وورد في المغني: "النجاسة تنقسم إلى قسمين: [أحدهما] "نجاسة الكلب والخنْزير المتولد منهما
…
"3.
فمذهب الحنابلة: أن الكلب نجس، وأنه في هذا مثل الخنْزير، وكذلك يتنجس عندهم ما تولد عنهما.
الموازنة: بالنظر فيما سبق عرضه من نصوص وآراء الفقهاء بالنسبة لحكم الكلب فيما يتعلق بطهارته أو عدمها يتضح لنا أن جملة الأقوال تتلخص في مذهبين هما:
المذهب الأول: يرى أن الكلب طاهر، وأنه يخالف الخنْزير في هذا الحكم، وإلى هذا ذهب المالكية في أصل مذهبهم، وهو رواية عن بعض الحنفية.
المذهب الثاني: يرى نجاسة الكلب، وأنه في هذا يشبه الخنْزير، وأن نجاسته مغلظة، وإلى هذا ذهب الشافعية والحنابلة وبعض الحنفية ومن خالف من المالكية مثل سحنون وابن الماجشون وأبي عمر.
استدل القائلون بطهارة الكلب بما يلي:
1-
قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} 4 ووجه الدلالة من هذه الآية يتضح من:
أنه لم يأمر بغسل محل فم الكلب فدل ذلك على طهارته 5، فضلاً أنه أباح تعليمها والانتفاع بها في الصيد وأكل ما صادته، ولأنه من جملة الجوارح وقد أبيح
1 البهوتي 1/216.
2 المرجع السابق 1/99.
3 ابن قدامة 1/52.
4 سورة المائدة: الآية 4.
5 عارضة الأحوذي لابن العربي 1/35.
الانتفاع به لغير ضرورة فكان طاهراً 1.
2-
واستدلوا بحديث ابن عمر وفيه "أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك"2، وهذا دليل على طهارة الكلاب3.
3-
بما روي أن عمر وعمرو بن العاص4 وردوا حوضاً فقال عمرو بن العاص: "يا صاحب الحوض، أترد السباع ماءك هذا؟ فقال عمر: "يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع، ولا ترد علينا" 5 ولم يفرق والكلاب من جملة السباع6.
هذا: وقد ناقش القائلون بنجاسة الكلب هذه الأدلة بما يلي:
أولاً: بالنسبة للآية الكريمة فقد أجيب عن وجه الدلالة فيها بجوابين:
أحدهما: أن في وجوب غسل الصيد الذي تصيده الكلاب خلافاً عند الشافعية، وأما الحنابلة فيوجبون غسل موضع فم الكلب. فقد جاء في كشاف القناع: "
…
ويجب غسل ما أصاب فم الكلب، لأنه موضع إصابته نجاسة فوجب غسله كغيره من
1 انتصار الفقير السالك صفحة 259.
2 الحديث أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الوضوء باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان برقم 172.
3 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13/45.
4 عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعَيد القرشي السهمي، أمير مصر، يكنى أبا عبد الله وأبا محمد، أسلم قبل الفتح عام الحديبية، توفي رضي الله عنه سنة نيف وأربعين، وقيل بعد الخمسين. راجع: الإصابة في تمييز الصحابة 7/122-123 برقم 5877، الاستيعاب في معرفة الأصحاب برقم 1931.
5 أخرجه مالك في الموطأ 1/23 باب الطهور للوضوء في كتاب الطهارة،، من طريق يحي بن عبد الرحمن بن حاطب، ورواه الدارقطني 1/32 من طريق أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن أن عمر وعمرو بن العاص
…
الخ، وأبو سلمة ويحيى لم يلقيا عمر كما في التهذيب، فهو منقطع، لكن قال ابن معين: بعضهم يقول عنه سمعت عمر، وإنما هو عن أبيه سمع عمر. ا?. وأبوه ثقة سمع عن عمر. راجع: تهذيب التهذيب 6/158 برقم 8766 و6/371 برقم 9674 و3/351 برقم 4370. وموطأ مالك 1/23 – 24.
6 أحكام القرآن لابن العربي 3/444.
من الثياب والأواني"1.
وإذا كنا نقول بوجوب الغسل فلا طريق إلى إلزامنا بعدم الغسل، والحق أن هذا الجواب ضعيف، لأن المالكية لم يلزموهم بما في مذهبهم، وإنما احتجوا عليهم بعدم وجود الأمر بالغسل، وهو حق غير مأمور به فكيف يجاب عليهم بما في المذهب؟ إلا أن يقول الحنفية والشافعية والحنابلة أن الغسل مأمور به بدليل آخر وهو الأمر بغسل الآنية في أحاديث الولوغ فيعممون الأمر بالغسل على غير الآنية، وأنه على التسليم بعدم وجوب الغسل فإن ذلك معفو عنه.
أما الثاني: فهو القول بإباحة الأكل مما أكلت السباع، ومنها الكلاب عند الصيد المرتب عليه قولكم بعدم طهارة الكلب بناء على هذا فهو قول غير مسلم، وذلك لأنه مع التسليم بعدم وجوب الغسل فإنه لا يشفع في استدلالكم لأن هذا من الأمور المشمولة بالعفو عنها رفعاً للحرج عن العباد2
ثانياً: أما حديث ابن عمر فقد أجيب عنه:
أولاً: أن هذا كان في بداية الإسلام، وقبل الأمر بالغسل من ولوغ الكلب.
ثانياً: أو أنهم ربما كانوا لا يغسلون ذلك، لأن البول كان مخفياً، سيما وأن المسجد لم يكن له باب حاجز من دخول الكلاب، كما يظهر من الحديث.
ثالثاً: أما الأثر المروي عن عمر وعمرو فيه دلالة على التنجيس، لأن السباع منها ما هو نجس كالكلب فالكلب داخل في لفظة السباع.
واستدل القائلون بنجاسة الكلب بما يلي:
أ-: ما رواه أبو هريرة3 من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم
1 البهوتي 1/216.
2 بدائع الصنائع للكاساني 1/63، والمجموع للنووي 2/854 – 858، والمغني لابن قدامة 1/52.
3 هو عبد الرحمن بن صخر من قبيلة دوس صحابي راوية الإسلام أكثر الصحابة رواية أسلم سنة 7 وهاجر إلى المدينة ولزم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم فروى عنه أكثر من خمسة آلاف حديث ولاه أمير المؤمنين عمر البحرين ثم عزله للين عريكته وولي المدينة سنوات في خلافة بني أمية توفي رضي الله عنه سنة 59 ?. راجع: الأعلام للزركلي 4/480.
فاغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب" وفي رواية لمسلم فليرقه وفي أخرى: طهور إناء أحدكم"1.
ووجه الدلالة فيها من أربعة طرق:
1-
أنه جاء في بعض الروايات: "طهور إناء أحدكم"، ولفظ الطهور لا يكون إلا من حدث أو نجاسة، ولا يتصور وجود الحدث على الإناء فلم يبق إلا النجاسة.
2-
ما ورد في رواية عند مسلم فليرقه، ولو كان الماء الذي ولغ فيه الكلب طاهراً لما أمر عليه الصلاة والسلام بإراقته لما في ذلك من إضاعة المال.
3-
الأمر بغسل الإناء وذلك آية النجاسة، سيما وأن الأمر بالغسل قد ورد بهذه الصورة المغلظة.
4-
إذا كان هذا كله في فم الكلب وهو أطيب ما فيه، بل إن الفم أطيب موضع في الحيوان لكثرة ما يلهث، فبقية أجزائه من باب أولى.
ب- ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعي إلى دار فلم يجب فقيل له في ذلك، فقال:"إن في دار فلان كلباً فقيل له: إن في دار فلان هرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنها ليست بنجسة" 2 فمفهومه أن الكلب نجس3.
وقد نوقشت هذه الأدلة:
بأن الأمر بالغسل ليس للنجاسة بل هو إما للتعبد يؤيد ذلك العدد المخصوص، وهو السبع، والنجاسات إنما تطهر بدون ذلك العدد، ويؤيده أيضاً ورود الأمر بتعفيره بالتراب، ولا مدخل له في غسل النجاسات، كما أن لفظة "طهور" لا تدل على أن المحل كان نجساً، فضلاً عن أن التغليظ في الطهارة يدل على التغليظ في
1 أخرجه البخاري في كتاب الطهارة باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم بلفظ: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً" من حديث أبي هريرة 1/51، ومسلم في كتاب الطهارة باب حكم ولوغ الكلب بألفاظ مختلفة من حديث أبي هريرة وعبد الله بن مغفل 1/234 – 235.
2 أخرج نحو هذا الحديث الحاكم في المستدرك 1/292، والدارقطني 1/63، والبيهقي 1/249، 251. راجع: التلخيص الحبير 1/52.
3 المجموع للنووي 2/584، مغنى المحتاج 1/110.