الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: حكم بيع الإنسان الحر
إن المتتبع للنصوص الشرعية يجد أن الشريعة الإسلامية قد حرمت بيع الحر مطلقاً، وأغلقت كثيراً من منافذ الرق، وفتحت كثيراً من الأبواب لتحرير الأرقاء، وأن الإطار العام لهذا التحريم هو أن جسم الإنسان سواء كان حياً أو ميتاً لا يعد من الأموال، وبالتالي لا يجوز بيعه، حتى إن العلامة ابن قدامة قال:"لا نعلم في ذلك خلافاً" 1 ولهذا كان المظهر الحقيقي لتكريم الإنسان هو عدم جواز بيع الإنسان الحر، وفي هذا يقول الله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} 2 فقد كرم الله سبحانه بني آدم بالنطق، والتمييز، وحسن الصورة، وتسخير سائر الخلق لهم، وفضلهم على غيرهم من البهائم والدواب وغيرهما، فكان الإنسان لهذا مكرماً، لأنه حامل للأمانة، ولأنه خليفة الله في أرضه، وهو المطالب بالتعمير والإصلاح في ظل شرع الله سبحانه، ولهذا سخر الله سبحانه سائر الخلق له، وجعله مسلطاً على غيره من المخلوقات، ومن هنا لم يخضع الإنسان شرعاً لما يخضع له غيره من جواز بيعه والتصرف فيه، لأن فعل ذلك في الإنسان إذلال، وهذا يتنافى مع أساس تكريمه ورفعته، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره"3.
وبناء على هذا كان إجماع الفقهاء وجميع علماء المسلمين قديماً وحديثاً على حرمة بيع الآدمي الحر.
فمذهب الحنفية: النص على أن الآدمي مكرم شرعاً - وإن كان كافراً - فإيراد
1 المغنى والشرح الكبير 4/302.
2 سورة الإسراء: الآية 70.
3 الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه 4/487.
العقد عليه، وابتذاله، وإلحاقه بالجمادات إذلال له، وهو غير جائز. وفي حاشية ابن عابدين: "
…
والآدمي مكرم شرعاً - وإن كان كافراً - فإيراد العقد عليه وابتذاله به وإلحاقه بالجامدات إذلال له وهو غير جائز، وبعضه في حكمه، وصرح في فتح القدير ببطلانه"1. فقد جاء في شرح فتح القدير: "
…
وكذا بيع الميتة والدم والحر باطل، لأنها ليست أموالاً فلا تكون محلاً للبيع
…
"2. وجاء في البحر الرائق: "
…
ولم ينعقد بيع ما ليس بمال متقوم، كبيع الحر، والمدبر المطلق، وأم الولد، والمكاتب، ومعتق البعض، وأولادهم إلا ولد المكاتب المشترى في كتابته، والميتة، والدم، وذبيحة المجوسي، والمرتد
…
"3.
وأراد بالمتقوم: المنتفع به بوجه شرعي كما يفهم من بيانه. وفي بدائع الصنائع: "
…
فلا ينعقد بيع الحر لأنه ليس بمال"4. وجاء في مجمع الأنهر: "
…
بيع ما ليس بمال، والبيع أي بيع الشيء به، أي جعله ثمناً بإدخال الباء عليه، كأن يقول بعت هذا الثوب بهذه الميتة مثلا باطل، كالدم المسفوح، والميتة التي ماتت حتف أنفها، لأن المنخنقة وأمثالها مال عند أهل الذمة، والحر لانعدام ركن البيع وهو مبادلة المال بالمال، لأن هذه الأشياء لا تعد مالاً عند أحد ممن له دين سماوي، كما في أكثر الكتب، لكن الحر مال في شريعة يعقوب عليه الصلاة والسلام، حتى استرق السارق على ما قالوا، فلا ينبغي أن يقال: إنه لم يكن مالاً عند أحد
…
"5.
فمذهب الحنفية: أن بيع الإنسان الحر باطل، وذلك لانعدام ركن البيع، وهو مبادلة المال بالمال، فلا تنعقد مثل هذه العقود المعقودة على الإنسان الحر، وكذا المدبر المطلق، وأم الولد، والمكاتب، ومعتق البعض، إلا ولد المكاتب المشترى في كتابته،
1 ابن عابدين 7/245.
2 ابن الهمام 6/405.
3 ابن نجيم 5/434.
4 الكاساني 5/140.
5 عبد الرحمن الكليبولي 3/77.
وعللوا ذلك الحكم الشامل عندهم بأن الآدمي مكرم شرعاً، وإن كان كافراً، فإيراد العقد عليه وابتذاله به وإلحاقه بالجمادات إذلال له، وهذا غير جائز، وقالوا بأن بعض الإنسان في حكم كله، وقد صرحت معظم كتبهم ببطلان ذلك البيع.
مذهب المالكية: يرون أن لحم الآدمي يحرم أكله، ولو كان الشخص في حالة الضرورة، وذلك لأن ميتته كالسم فلا يزيل الضرورة، وبالتالي يحرم بيعه، فنص مذهب المالكية أنه لا يجوز بيع الحر.
فقد جاء في مواهب الجليل: "
…
ولا يجوز بيع الحر والخنْزير والقرد والخمر والدم والميتة والنجاسة، وما لا منفعة فيه كخشاش الأرض والحيات، والكلاب غير المأذون في اتخاذها، وتراب الصواغين، وآلة الملاهي
…
فلا ينبغي أن يباع، ويجب على الإمام أن ينهى عن ذلك، وهذا إذا لم يكن له وجه إلا الأكل وهو مضر بكل حال، فهو كالسم الذي أجمع العلماء على تحريم بيعه، وقال سحنون في كتاب الشرح: لا يحل بيعه
…
"1.
فمذهب المالكية: عدم جواز بيع الحر، وبالتالي جميع أجزائه، حيث عدوا هذا ضمن البيوع غير الجائزة عندهم.
مذهب الشافعية: عدم جواز بيع الحر وبطلان ذلك، وهذا إجماع الفقهاء.
فقد جاء في المجموع: "وأما ما فيه منفعة فلا يجوز بيع الحر
…
وبيع الحر باطل بالإجماع"2.
وجاء في الحاوي الكبير: "الآدمي ضربان: حر ومملوك، فالحر لا يجوز بيعه"3.
فمذهب الشافعية: عدم جواز بيع الحر، وذكرت كتبهم أن بيع الحر باطل بالإجماع.
1 الحطاب 4/265 – 266.
2 النووي 9/289.
3 الماوردي 5/381.
مذهب الحنابلة: القول بعدم جواز بيع الحر. فقد جاء في المغنى والشرح الكبير: "
…
ولا يجوز بيع الحر، وما ليس بمملوك كالمباحات قبل حيازتها ومِلْكها، ولا نعلم في ذلك خلافاً
…
"1. وجاء في كشاف القناع: "
…
ولا يصح بيع الحر، لقوله صلى الله عليه وسلم:"ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة - ذكر منهم: رجل باع حراً وأكل ثمنه" 2
…
ولو باع أمة حاملاً بحرّ قبل وضعه صح البيع فيها، لأنها معلومة، وجهالة الحمل لا تضر
…
"3. وجاء في الكافي في فقه الإمام أحمد: "ولا يجوز بيع الحر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة - ذكر منهم: رجل باع حراً فأكل ثمنه" رواه البخاري"4.
فمذهب الحنابلة: على أنه لا يصح بيع الحر، للنهي عن ذلك شرعاً، وقد ذكروا على أنه لا يوجد في هذا خلاف في المذهب.
الموازنة: بمراجعة ما قاله الفقهاء بشأن بيع الحر وإيراد العقد عليه، يتضح أن الاتفاق حاصل بينهم على أنه لا يجوز أن يباع الحر، أو يشترى، وأن العقد عليه باطل.
فالحنفية: عبروا عن هذا بالبطلان، باعتبار أن الإنسان الحر ليس بمال، ومن شرط المعقود عليه عندهم كونه مالاً، فركن البيع على هذا منعدم، فلا ينعقد البيع أصلاً.
المالكية: يعبرون عن منع بيع الحر بعدم الجواز، وذكروه ضمن البيوع غير الجائزة عندهم.
الشافعية: يعبرون عن هذا بعدم الجواز، وبعض كتبهم صرحت بأن بيع الحر باطل بالإجماع.
الحنابلة: بعض كتبهم عبرت عن هذا بعدم الجواز، في حين أن البعض الآخر عبر عن هذا بعدم الصحة.
وعلى ذكر هذا الخلاف في اللفظ والعبارة فقط يتقرر أن الإجماع حاصل بين الفقهاء على منع بيع الإنسان الحر، وأن هذا الحكم شامل للحي والميت على السواء،
1 ابن قدامه 4/302.
2 سبق تخريجه صفحة 456.
3 البهوتي 4/1387.
4 ابن قدامه 2/7.
وقد استند الفقهاء على ما يأتي:
1 -
قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} 1. فإن البيع والتملك يتنافى مع هذا التكريم.
2 – ما جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى يخاصم من يخضع الإنسان لما يخضع له الحيوان، من بيعه والتصرف فيه، بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"قال الله تعالى "اثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره".
فهذا الحديث يدل على أن بيع الآدمي الحر حرام حرمة شديدة، لأن الناس أكفاء في الحرية، فمن باع حراً فقد منعه من التصرف فيما أباح الله له، وألزمه الذل الذي أنقذه الله منه، حتى قال ابن الجوزي:"الحر عبد الله، فمن جنى عليه فخصمه سيده"2.
وهكذا وجدنا أن الاتفاق قائم بين الفقهاء على حرمة جسد الإنسان الحي وحمايته، وكذا الميت على السواء، وإذا لم يصح بيع الإنسان الحر ولا التصرف فيه فمن باب أولى لا يصح هبته، ولا التبرع به، وذلك لأن المشرع الحكيم أبطل التصرف فيه بمقابل، وهو الثمن، فمن باب أولى يبطله إذا لم يكن هناك مقابل، ولأن المشرع الحكيم لم يجعله ملكا لأحد سواه، فلم يحق لأي كائن أن يتصرف فيه، لأن التصرف معاوضة أو تبرعاً إنما يكون فيما يملكه الإنسان، والإنسان غير مملوك للإنسان، وإنما هو مملوك لخالقه جل شأنه، وهذه الأحكام لا تسري في مواجهة الرقيق، لأن أهلية الرقيق ومع أنها موجودة وعصمة دمه قائمة وصيانة أعضائه مقررة إلا أن إباحة الرق أثر على أهليته للتملك، وعلى جعله سلعة يباع ويشترى، كلاً أو جزءاً، قائماً أو مقطعاً، والآن والحمد لله قد تحقق هدف الشرع وهو منع الرق بكل أنواعه من جميع العالم، ومن ثم لا يثور أي تساؤل بشأنه، ولا يصح جعله ركيزة لموضوع البحث هنا لهذا السبب.
1 سورة الإسراء: الآية 70.
2 فتح الباري شرح صحيح البخاري 4/488.